
تُطِلُّ اللامركزية من جديد على المشهد السوري المُعقد، في ظل إصرار بعض الأطراف طرح الصيغة السياسية منها، الفيدرالية أو ما يقاربها، عبر مطالب قومية ومذهبية لا تخلو من الاستقواء بالخارج. ولكن اللامركزية بشكلها الإداري والمالي، بما فيه الموسَّع، كانت مطلباً مهماً لمؤسسات المعارضة السورية وأغلب مثقفيها ومسؤوليها قبل سقوط النظام، فلماذا لا يتم طرح اللامركزية ضمن إطار وطني شامل لإنجاز صيغة منها تتناسب مع الواقع السوري، ومتطلبات حماية وحدة البلاد، وتمنح المشاركة العادلة لجميع السوريين في إدارة شؤونهم وثرواتهم وصناعة مستقبلهم؟!
وهكذا وأمام المساعي والجهود والاتفاقات المنجزة وعراقيل تطبيقاتها على الأرض، بخصوص دمج المؤسسات المدنية والقوات العسكرية التي بقيت خارج سلطة دمشق خلال اثتني عشرة سنة مضت، تثور مشكلة تطبيق اللامركزية بمستوياتها المتعددة، بدءاً من المستوى الطبيعي من الحكم المحلي، إلى نوع من اللامركزية الإدارية، أو الموسعة مالياً، وصولاً إلى طرح اللامركزية السياسية بمعنى الفيدرالية، والذي تبناه بشكل أو بآخر ما سمي بمؤتمر وحدة الصف الكردي الذي عُقد في القامشلي في 26 نيسان الماضي. ومع استمرار المطالب المشابهة في كل من الساحل والسويداء بعد أحداث العنف التي عصفت في كل منهما، تثور مخاوف العديد من الأطراف الأخرى في صفوف الأغلبية من فرض مركزية دمشق مجدداً على سوريا، بالصورة التي كانت موجودة في ظل نظام الأسد.
لقد بقيت طروحات الفيدرالية تشكل بالنسبة لغالبية السوريين ناقوس خطر، كما بقيت دعوات اللامركزية الموسعة إدارياً ومالياً تثير مخاوف تبدو حقيقية بالنسبة لتطبيقها على مناطق معينة، في ظل السيطرة العسكرية لقسد لمناطق سورية واسعة. ومن الواضح هنا أن السنوات السبع الماضية على تجربة الإدارة الذاتية في المناطق ذات أغلبية كردية، والمناطق ذات الأغلبية العربية التي استولت عليها قسد في الحرب على تنظيم الدولة، تعتبر الركيزة الأساسية التي يتم الاستناد إليها في تلك النقاشات والطروحات والمخاوف على حد سواء، ليأتي المؤتمر الكردي المشار إليه، ليجسد أول ظهور سياسي واضح لتلك المطالب، ويثير في الوقت نفسه ذروة مخاوف تبدو حقيقية هذه المرة على مستقبل النظام السياسي الدستوري ووحدة الدولة السورية.
أحداث الساحل في الأسبوع الأول من آذار كانت قد أدت إلى مطالب مماثلة بالحكم الذاتي من قبل شخصيات ومؤسسات علوية في الخارج، والتي اعتبرت أن ما جرى شكَّل حالة لا يمكن تمريرها بدون العمل على وضع إطار إداري خاص بالمنطقة التي يوجد فيها العلويون بكثافة في الساحل السوري، امتداداً إلى ريف حمص وأجزاء من الريف الحموي أيضاً.
وإذا ما أضفنا إلى المشهد محافظة السويداء، فإننا نستذكر هنا أن الحراك الذي انطلق قبل عام كامل من سقوط النظام، كانت مطالبه تتضمن شكلاً موسعاً جداً من أشكال اللامركزية. وقد استمر ممثل ذلك الحراك وهو شيخ عقل الطائفة الدرزية حكمت الهجري بتلك المطالب بصورة أكثر إلحاحاً بعد سقوط النظام، في ظل توتر مستمر في علاقته مع السلطات السورية الجديدة في دمشق، والتي زاد من حساسيتها التحركات الإسرائيلية العسكرية في الجولان، وتهديدات نتنياهو بالتدخل في الجنوب السوري، وصولاً للاشتباك العسكري والأمني الأخير، المترافق مع الضربات الجوية الإسرائيلية على قصر الشعب والعديد من الأهداف العسكرية.
ومع بقاء أغلب المعارضين السوريين للنظام ضد أي طرح حول الفيدرالية، إلا أننا كنا نجد قلة قليلة منهم فقط متمسكين بالمركزية الدمشقية، فكلنا نعرف قبل سقوط النظام، بأن نقاشات وطروحات وأبحاثاً متعددة الأطراف كانت قد تمت بالفعل خلال السنوات الماضية، عبر مثقفين وباحثين وسياسيين معارضين ومؤسسات بحثية تابعة للمعارضة، حول اللامركزية الإدارية، بل والمالية الموسّعة، والتي يمكن أن يتم منحها لجميع المحافظات والمدن والبلدات على مستوى الجغرافيا السورية في إطار أي حل سياسي، بمعنى نقل صلاحيات تنفيذية وإدارية من الوزارات دون استقلال تشريعي، بما فيها صلاحيات الجباية وتخصيص نسب من الضرائب المحلية لصالحها، تُصرف على واقعها الخدمي والمعيشي، وفق ميزانيات شفافة وخاضعة للرقابة الحكومية والمؤسسات المختصة، وتجري فيها انتخابات محلية تمثيلية تضمن دوراً سياسياً لكفاءاتها في خدمة الأهالي، بعيداً عن الحسابات المعقدة للسلطة والتي تكون مبنية –في الغالب- على الولاء. وعلى الرغم من اختفاء كل تلك المطالب المعارضة بعد سقوط النظام، إلا أن كثيراً من السوريين المنتمين للأغلبية، يُبدون خشيةً من استعادة دمشق لواقع المركزية الشديدة التي فرضها نظام الأسد على الجغرافيا السورية، في مختلف مناحي حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الوظيفية. والتي تخللها إهمال تاريخي لمختلف المدن والمحافظات الكبرى، وعلى رأسها حلب، المدينة الصناعية والتجارية الأولى في البلاد، سواء إهمالها على مستوى البنية التحتية والخدمات، أو على مستوى التمثيل السياسي. فإذا ما وضعنا حجم الدمار وهو الأوسع الذي تعرضت له حلب خلال سنوات الحرب، وهي المدينة والمحافظة التي تمثل أكبر تجمع بشري للأغلبية، وحجم اللاجئين المرشحين للعودة إليها من تركيا ومختلف المناطق، فإننا يمكن أن نقدر ماذا يمكن أن يعنيه أي إهمال لحلب خلال المستقبل المنظور. أيضاً هناك دير الزور، المدينة والمحافظة التي تطفو على جوف ضخم من النفط والغاز، وهي بنفس الوقت المدينة التي تعاني من واقع التدمير المهول الذي تعرضت له خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية، ولا نعرف إذا كانت ستأخذ في إعادة إعمارها حصة من موارد النفط والغاز متناسبة مع التدمير الذي تعرضت له بسبب وجود هذه الموارد والصراع عليها.
وفي الواقع، إن الوقت لن يطول حتى تجد الحكومة الانتقالية والسلطة في دمشق نفسها أمام تدفق اللاجئين السوريين القادمين من الخارج إلى مدنهم وقراهم، والذي يُتوقع أن يكون كبيراً، بما سيحمل معه من استحقاقات ضخمة متعلقة بالواقع الخدمي وتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحاً، المرتبطة بترميم المنازل والبنية التحتية من الطرق والمدارس والكهرباء والمياه والصرف الصحي، ولا يُعقل هنا، أن تكون الدورة الإدارية والمالية لمواجهة الواقع القادم منوطة بآليات اتخاذ قرار وعمل مركزية، مشهود لها بالروتين البطيء والبيروقراطية المطوَّلة. لذلك فمن البديهي هنا أن تعمل السلطة السورية الانتقالية على أخذ زمام المبادرة في ملف اللامركزية الإدارية والمالية، وبشكل يمكنها من طرح رؤيتها بخصوص الحكم المحلي، والأطر التنظيمية التي يمكن أن تعمل من خلالها لتوسيع نطاقه بما يلبي احتياجات السكان، ويفضي إلى فرصٍ متكافئة في إشراك جميع السوريين في بناء مستقبلهم وإدارة شؤونهم وتحقيق العدالة في توزيع الثروة وجهود التنمية في ظل ضمانات دستورية وقانونية ومؤسساتية، وبيان مراحل وآليات التطبيق بصورة شاملة على الجغرافيا السورية كاملة، ضمن حقوق المواطنة، وانطلاقاً من التقسيمات الإدارية والتنظيمية الموجودة فعلاً، في إطار أربع عشرة محافظة أو تعديلها بما لا يؤثر على التنوع المجتمعي، وفي إطار منظورَي: المرحلة الانتقالية وفق الإعلان الدستوري وصولاً إلى الحالة الدستورية الدائمة، ودون أي اعتبار آخر محدود بالخصوصيات العرقية والمذهبية التي تستقوي بالخارج، أو أي تهديد أو تلاعب بوحدة البلاد وسيادتها، وبما يضمن إمساكاً مُحكماً للدولة المركزية بالملفات السيادية المرتبطة بقضايا الدفاع والتعليم والأمن والعلاقات الخارجية بصورة أساسية.
المصدر: تلفزيون سوريا