
كلّما انتعشت ثقافة التطرّف والإقصاء، وانتشرت خطابات الكراهية وشيطنة الآخر (يعتبر غير أصلي)، وكلّما تغوّلت الدول التي اختارت الاستبداد بتوظيف انتقائي وماكر للديمقراطية والمصالح الوطنية، وإعادة تعريف الأولويات وترتيبها، بما في ذلك مفهوم الأمن القومي والاستقرار الاجتماعي ونقاء الهُويّة الوطنية… كلّما حدث ذلك، فهذا يعني توفير أرضية صلبة، وتربة خصبة، لتمدّد وانتشار الشعبوية وتغلغلها في الأنسجة الاجتماعية ومفاصل الدولة والمؤسّسات الإعلامية، بل أصابت بالدوخة والدوران والإغراء أيضاً مجموعةً من المفكّرين والمثقّفين. واللافت أن الشعبوية في أوروبا باتت تحرّك سفنَها رياحٌ قوية، ويحصل قادتها ونشطاؤها على نتائجَ مبهرةٍ ومثيرةٍ في عدد من الدول. في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، حطّموا كثيراً من الحواجز النفسية والأخلاقية، وأحدثوا ثقوباً واضحةً في جدار الديمقراطية، والقيم التي طالما دافعت عنها أحزاب اليسار، بل يمكن القول إنهم باتوا الأقرب إلى السلطة، خاصّة في ظلّ صعود مدوٍّ وكاسح للرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يُعدّ بمثابة المظلّة الواقية والقلعة الحامية للشعبوية العالمية.
تغذّي التيّاراتُ الشعبويةُ حساسيةً مفرطةً تجاه النُخب السياسية التقليدية، ومؤسّساتها التي شيّدتها على امتداد سنوات وعقود، فهذه التيّارات تعادي دولة المؤسّسات؛ لأنها وفق قناعتها وعقيدتها تعوق سياستها وتحاصر البرامج والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، وتحول دون ترجمة الوعود والطموحات حقائقَ وتدابيرَ في الأرض. وتأسيساً على ذلك، عادة ما يحمّلون الدولة ونخبها ومؤسّساتها مسؤولية تردّي الأوضاع، لذلك ينتصرون لنهج التمرّد عليها، والوقوف بحزم في وجه اختياراتها وسياساتها في المجالَين الاجتماعي والاقتصادي خاصّة.
لطابع المهيمن على ذهنية جزء كبير من الشعبويين هو الغوغائية والافتقار إلى الخبرة والتمرّس السياسي والمؤسّساتي
وتعكس معارضةُ الشعبويين المؤسّسات طريقةَ تفكيرهم، التي عادة ما تفتقد إلى الأصول والأسس الفكرية والمنهجية في العمل وفي خطابهم السياسي، ويبقى الطابع المهيمن على ذهنية جزء كبير منهم هو الغوغائية والافتقار إلى الخبرة والتمرّس السياسي والمؤسّساتي، إلى درجة أن بعضهم يصل عبر صناديق الاقتراع إلى مراكز صناعة القرار السياسي من دون خوض تجربة سياسية فعلية سابقة، وتتميّز منطلقاتهم السياسية بضيق الأفق الفكري، فهم يركّزون في العرق واللون، ويقسّمون المجتمع بين فئتين “نحن” و”هم”، والمقصود بـ”نحن”؛ السكّان الأصليون، أو ما يُصطلَح عليه بـ”المؤسّسين” في حالة الولايات المتحدة، ويُقصد بهم المهاجرون الذين يختلفون عرقياً ولغوياً وثقافياً ودينياً عن النخبة البيضاء.
ومعلوم أن التيّارات الشعبوية لا تقيم أيَّ وزن للفكر، لأنه يتجاوز الأعراق والديانات والثقافات، ويذيب الفروقات بين مكوّنات المجتمع. ولذلك؛ يقف الشعبويون ضدّ التعدّدية والتنوّع، ولا يؤمنون فعلياً بالمؤسّسات والقيم والممارسات الديمقراطية الحقيقية، بل يستخدمونها للوصول إلى أهدافهم. وبعد ذلك، ينسفون مبادئها، كما حدث في دول عدّة، فهؤلاء إقصائيون نظراً إلى إيمانهم بمسلّمات ذاتية غير قابلة للنقاش تستند إلى العرق واللون والثقافة.
ويظهر أن الخطر الزاحف الذي بات يتهدّد الديمقراطيات العريقة والصاعدة، ويضع حواجزَ حقيقيةً أمام إمكانات التعايش والتثاقف والحوار والتسامح، سيكون مصدره الأساس، ومشتله الحيوي، الممارسات والخطابات الشعبوية التي لا تجد أيَّ حرج أخلاقي أو فكري في إشاعة القيم والأفكار العرقية والقومية ذات البُعد والحمولة الشوفينية والعنصرية، التي كانت سائدةً قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وأدّت إلى نتائج كارثية.
في هذا السياق، أتوقّف عند ظواهرَ ونماذجَ جعلت من الشعبوية قاعدةً أساسيةً في العلاقات الدولية، فتمكن فيكتور أوربان من الوصول إلى رئاسة الحكومة في المجر، وجعل من بلده الصغير المجر (يقودها منذ 15 سنة)، تجربةً رائدة في الشعبوية المعادية لليبرالية، ولكلّ قيم التسامح والانفتاح وقبول الآخر والانتصار للقضايا العادلة. وبحسب بعض الخبراء، فإن أوربان هو الذي كان مصدر إلهام فريق ترامب خلال إدارتهم الحملة الانتخابية 2024، ولأن هذا الشعبوي لا يقيم وزناً للسياقات الدولية والأحداث المفصلية، ولا يكترث بالمآسي التي يرتكبها من يشبهه، قرّر استقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أوائل شهر إبريل/ نيسان 2025، وذلك في تبخيس واضح ومستفزّ لمذكّرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ضدّ نتنياهو، المتهم بارتكاب جرائمَ ضدّ الإنسانية، وجرائم حرب ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزّة. ويُعدّ هذا الخرق تحدّياً سافراً للقانون الدولي، يصدر من دولة سبق لها (في عهد أوربان نفسه) أن صدّقت على نظام روما الأساسي الذي أَنشأ الجنائية الدولية، وهي أيضاً دولة عضو في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو).
كان أوربان من الأوائل الذين وصفوا مذكّرة توقيف نتنياهو بالمخزية، وهذا ما حدا به في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 إلى توجيه دعوة لنتنياهو لزيارة المجر رسمياً، مع تقديم الضمانات والتطمينات كلّها، التي تحول دون تعرّضه للاعتقال، ومعلوم أن أوربان يقود حزب فيدس (اليميني المتطرّف)، الذي وطّد علاقاته بحزب الليكود الذي يتزعّمه نتنياهو، لإبعاد اتهامات بمعاداة السامية سبق أن وجّهت له بعد حملة شنّها على جورج سوروس، رجل الأعمال اليهودي الأميركي ذي الأصول المجرية. أوربان، ليس مسؤولاً سياسياً يقود حكومةً وفق أولويات وأجندة معيّنة فحسب، بل هو شريك أيضاً في حرب الإبادة الجماعية التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة منذ أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، كما أنه تحوّل مرجعاً ملهماً للرئيس دونالد ترامب، وهذا الأخير تفوّق كثيراً على أستاذه أوربان، وتجاوزه بمسافة طويلة في ما يتعلّق بتفكيك النموذج الديمقراطي، ففي مدّة شهرَين رفع ترامب إيقاع السرعة ليتجاوز المجر مستعملاً الاستراتيجيات نفسها التي تتمثّل في الهجوم على الأسس المركزية والحيوية للدولة مثل النظام القضائي والإعلام والجامعات.
التفسير الذي أوجده كريستوفر روفو، أحد عتاة المحافظين والمنظّرين الأيديولوجيّين للرئيس لترامب، جاء خلال ردّه عن سؤال صحافي من “نيويورك تايمز”: لماذا تريدون إلغاء وزارة التربية والتعليم، بينما يكفي حذف البرامج المثيرة للجدل، مع الحفاظ على تلك التي يمكن اعتبارها نافعةً ومفيدةً وتحظى بالشعبية؟. كان ردّ روفو: “إذا احتفظنا بجزء من الموظفين، فإنهم سيديرون الظهر لنا في الانتخابات المقبلة، وسينتقمون منّا”، في إشارة واضحة إلى أن المؤسّسات التعليمية، خاصّة الجامعية، غالباً ما تشكّل قلاعاً للمناصرين للفكر اليساري، أو على الأقلّ للفكر الليبرالي الذي يدافع عن منظومة من القيم، بما فيها حقوق الإنسان وحرية التعبير والتفكير، ويضيف روفو: “لدينا نظام لا يكشف الحساب لأحد. وعندما تكون ثقافة هذا النظام البيروقراطي جذّابةً، فإن النتيجة هي الجمود والمراوحة في المكان. وزارة التربية والتعليم يسارية ولا تدعم سوى القضايا اليسارية الراديكالية. والنتيجة، هي إلغاء وتفكيك كلّ شيء، من قبيل تغيير الثقافة والمنظومة برمّتها”.
التضييق على وسائل الإعلام وحرّية الصحافة يشكّل هدفاً استراتيجياً للحكومات التي يقودها شعبويون
يعتبر الانتقام من السلطة القضائية أمراً حيوياً لدى الشعبويّين، لأنها مكمن المقاومة المباشرة. ولذلك؛ عين ترامب عدداً كبيراً من القضاة المحافظين، وبتعليمات منه أوقف المتابعات القضائية ضدّ عدد من المسؤولين المتّهمين بالفساد والرشوة، ولخّص إيلون ماسك، أحد رجالات ترامب البارزين، كلّ شيء بقوله: “من دون إصلاح للجهاز القضائي، لن تكون هناك ديمقراطية في أميركا”، أمّا التضييق على وسائل الإعلام وحرّية الصحافة فيشكّل دائماً هدفاً استراتيجياً للحكومات التي يقودها شعبويون، وهذا ما تبنّاه النظام الديمقراطي الأميركي في صيغته الترامبية، وهو ما تبحث عن شلِّه السلطة الجديدة. ويبدو جلياً أن وسائل الإعلام، التي ليست مقرّبةً من ترامب، تتعرّض لانتقادات شديدة اللهجة، وأيضاً إلى تهديدات، كما استُغني عن وسائل الإعلام الموجّهة إلى الخارج (مثل صوت أميركا وإذاعة أوربا الحرّة) لأنهما أصبحتا عبئاً على ترامب، وهكذا تحوّلت حرية الصحافة حقلَ صراعٍ وساحةَ حربٍ حقيقية.
تجدر الإشارة كذلك إلى العنف الموجّه إلى الجامعات والعالم الأكاديمي، من الأنظمة الشعبوية. مثلاً، جامعة كولومبيا في نيويورك تُعدّ إحدى الجامعات التي ضحّت بها السلطة الجديدة، علماً أنها شكّلت دائماً مصدر قوّة ناعمة لأميركا بفضل سمعتها لدى النُخب ومصداقيتها. وعقاباً لهذه الجامعة، قرّرت السلطة الجديدة منع الدعم والتمويل، وتوقيف الطلبة الأجانب الذين يساندون القضية الفلسطينية، وهو السلوك الذي انتهجته إدارة ترامب الفيدرالية تجاه جامعة هارفارد، مشتل النُخبة الأميركية الحاكمة وجامعات أخرى، لكنّ هذه المؤسّسات الجامعية وقفت بالمرصاد، وبكلّ شجاعة في وجه إجراءات شعبوية الهدف منها تقويض المصداقية العلمية وتشويه السمعة ونسف الاستقلالية.
المصدر: العربي الجديد