
قد تبدو المرّة الأولى التي ينحدر الخطاب السياسي فيها إلى هذا النوع من الركاكة، وإلى هذا النوع من تخطي كل الأصول والبروتوكولات التي يُفترض التزام الشخصيات التي تشغل مناصب دبلوماسية رفيعة بها، فمن تابع موفدة الرئاسة الأميركية إلى لبنان، مورغان أورتاغوس، على منصة “إكس”، حين انبرت للتعليق على كلام بعض السياسيين اللبنانيين، يستطيع ملاحظة هذا بشكل مباشر، ليس انطلاقًا من التعليق على كلام أمين عام حزب الله نعيم قاسم (ردّت على كلامه حول رفض تسليم السلاح للجيش اللبناني: فردّت بـ “التثاؤب”)، ولا انتهاءً بالتعليق على كلام جنبلاط (انتقد شروط أورتاغوس بشأن سلاح حزب الله: فردّت بـ “المخدّرات مضرّة يا وليد”، ليرد جنبلاط عليها “الأميركية القبيحة”)، فهي المرّة الأولى، لربما، التي يشاهد العالم هذا النوع من الردود من خارج السياق دبلوماسي، بل لعلها المرّة الأولى التي ينحدر فيها الخطاب إلى هذا المستوى الخارج عن كل أصول، حيث يتربّع الرد الساخر والشخصاني على الكلام السياسي.
لغة التواصل والحوار غير العقلاني تشي بأن قرون الحداثة ومعاييرها المؤسّساتية باتت في خبر كان
ليس الكلام أعلاه دفاعاً عن طرف، خصوصاً الدفاع عن طبقة سياسية عاثت في لبنان خراباً وأوصلته إلى ما وصل إليه من تداع، ولا هجوما على طرف خارجي يتحكّم بالبلاد وبات يضع يده على المنطقة العربية وغيرها بشكل مباشر. بل هي محاولة توصيفيّة للسلوك الذي أصبح سمة جوهرية في الإدارة الترامبية. هذه الردود المباشرة، والشخصانية، الخارجة عن كل أدبيات التخاطب، والمنقلبة على اللياقات والبروتوكولات، وإن كانت جرّاء خصومة سياسية، ليست مجرد زلّات لسانية، ولا تترافق مع آليات من خارج سياق المعايير الدبلوماسية في التخاطب فحسب، بل هي نوع من الخطابات التي تعتمد القوى الشعبوية عليها لأنها النوع المفضّل عند رأي عام عالمي يطغى عليه التعصّب فيبحث عمّن يدغدغ مشاعره أكثر مما يخاطب عقله. لذلك، لا يمكن القول إنها مجرد أخطاء فردية تخالف السياق العام ومعايير الإدارة التي أرست الدبلوماسية والعلاقات الدولية والأمم المتحدة أسسها، بل أصبحت اليوم السلوك المطلوب والمنظّم والمقصود حين تصل القوى اليمينية الشعبوية إلى مواقع صنع القرار، بعد هذا الكم من الانحدار الخطابي والسياسي والأخلاقي الذي نعيشه على المستوى الكوني.
شاهدنا مراراً وتكراراً الآلية والمصطلحات التي يعتمدها ترامب في خطابه، سواء مع رؤساء الدول، وأبرزها مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي منذ مدة، حيث أهانه على الإعلام بشكل مباشر، أو التي يعتمدها مع الداخل الأميركي (كيفية تخاطبه مع القضاة ومع الرئيس السابق بايدن ومع السياسيين المنتمين إلى الحزب الديموقراطي الخصم… الخ)، أو مع الدول الأخرى ودبلوماسييها، بقدر ما هي استخفافٌ ناجم عن استكمال منطق القوّة الذي تهيمن الإدارة الأميركية فيه على الكوكب، وانطلاقاً من ترجمة هذه القوة في منطق مستخدم وفي مقاربات سياسية تحكمها الصلافة التي تشكّل سابقة في تاريخ العلاقات الدولية. إذ لطالما عودتنا القوى اليمينية على مقارباتها الشعبوية التي تصل إلى تخوم الانقلاب على كل عقلانية، وعلى مجمل تاريخ الدبلوماسية، لكنها المرّة الأولى التي تتكثّف في هذا البعد الشخصاني. فهل يمكن، على سبيل المثال، إغفال مدى صلافة ترامب، حين أعلن عن رغبته بضمّ بعض الدول الى الولايات المتحدة، من كندا وصولاً إلى غرينلاند وغيرها من بلاد ومدن ومناطق؟
منطق غير عقلاني يضرب الكوكب ويكرّس الانقلاب على قيم الحداثة والدبلوماسية
وفي السياق أيضاً، لا يمكن إلا أن نذكر الصولات والجولات التي تسم منطق الناطقة الإعلامية باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، حيث تتهجّم على الصحف والقنوات الإعلامية التي يحاول مراسلوها سؤالها عن قضية سياسية مفصليّة من هنا أو هناك. وحتمًا لا ننسى ردّها على سؤال وجهه أحد المراسلين نقلاً عن لسان دبلوماسي فرنسي ويتعلق بإعادة تمثال الحرية إلى فرنسا بعد أن أمعنت الإدارة الأميركية في الانقلاب على كل ما تمثّلته الحرية تاريخيّاً، فما كان منها إلا أن ردّت: أقول لهذا السياسي الفرنسي، ذي المستوى المتدني، إنه لولا الولايات المتحدة لكانت فرنسا اليوم تنطق بالألمانية (في إشارة إلى الحرب العالمية الثانية، وتدخل الولايات المتحدة إلى جانب الاتحاد السوفييتي وإنكلترا وفرنسا لمواجهة النازية والفاشية التي كانت تحتل معظم أوروبا بما فيها فرنسا)!
لا يمثّل كل هذا التراكم إلا نقلة نوعية في عالم السياسة اليوم، نقلة تؤكّد على المنطق غير العقلاني الذي يضرب الكوكب من أقصاه إلى أقصاه ويكرّس الانقلاب على قيم الحداثة والدبلوماسية والبروتوكولات والعلاقات الدولية. فلغة التواصل والحوار غير العقلاني تشي بأن قرون الحداثة ومعاييرها المؤسّساتية باتت في خبر كان، وأن العالم أصبح في نمط جديد لا تحكمه إلا الأسلحة وما يترافق معها من منطق للقوّة. كما أنها تحدّد الأفق المرسوم أمام العالم بحيث يمكن الاستدلال أنه يكرّس حروباً لا تذر ولا تبقي، على غرار الحربين الكونيتين، ناهيك عن تموضع كل ذلك بنوع من الصلافة والانحياز التام الذي يطيح كل مقاربة تسووية لحل الخلافات التي تضرب عميقًا بين الدول، وفي مقدمها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وانحياز وتغطية الإدارة الأميركية التام على الإبادة التي تقوم حكومة نتنياهو بها. فهل يمكن وضع القلادة التي ترتديها أورتاغوس (النجمة السداسية) في زياراتها الرسمية لبنان، لتعلن انحيازها التام لعدو علني يستبيح لبنان، عقائديّاً وسياسيّاً، خلال جولاتها على المسؤولين اللبنانيين الرسميين، في غير هذا السياق؟ وكيف يمكن تفسير هذه السابقة في تاريخ العلاقات، خصوصاً وأنها انقلاب على معيار عدم إظهار الرموز الدينية، كما الرموز السياسية المنحازة لدولة أخرى غير الدولة التي يمثلها الدبلوماسي، في غير هذا السياق؟
المصدر: العربي الجديد