النعيمي: “بطل العدالة الأهلية” في سوريا

عمر قدور

قبل ثلاثة أيام أقدم حسين النعيمي، في مدينة تلكلخ، على قتل المدعو أسامة “أبو منصور”، حسب التسجيل المصور الذي ظهر فيه معترفاً بعملية القتل. المقتول، حسب ادعاء النعيمي، من قوات أو شبيحة الأسد، وكان يعمل قنّاصاً، وقد قتل العديد من الأشخاص، منهم عمّ النعيمي وصديقه.

ظهر النعيمي مرتدياً البزة التي تميّز أفراد الأمن العام، وقال إنه يوم حادثة القتل كان آتياً من استنفار وعملية في مدينة أخرى. وحسب روايته قدّم الأهالي خلال شهرين العديد من الشكاوى ضد القتيل المتهم بعمليات القتل، فلم تلقَ تجاوباً من الجهات المختصة في المدينة، بل هو يشير إلى تمتع القتيل بحماية تلك الجهات.

يذهب النعيمي أبعد بالقول إن أحداً لم يعد يتجرأ على الشكوى ضد شخص علويّ لأن العلويين محميّون، وأن الشكوى لو كانت ضد سنّي فستبادر الجهات الأمنية إلى اعتقاله بسرعة! إلا أنه، في التسجيل ذاته الذي تقل مدته عن خمس دقائق، ينسى مزاعم الحماية تلك، ويقول إنه لو دفع لـ”السياسية” مبلغ خمسة آلاف دولار لقبضوا على أسامة، أي أنه يحيل بقاءه طليقاً إلى فساد في السلطة ورشوتها من قبل القتيل.

حادثة القتل، دائماً حسب المصدر نفسه، تسبب بها القتيل عندما استفزّ القاتل بإشارة تعني الاستهتار به، أو الشماتة لأنه لا يستطيع التعرّض له، ما دفعه إلى إطلاق النار. السياق يوحي بأنه ليس الاحتكاك الأول بين الطرفين، ويشير النعيمي إلى رؤيته “خصمه” مرات عديدة قبل القتل، أي أنه لم يكن في “فورة دم” وفق التعبير الشائع عن حالات الثأر في لحظة غضب، اللحظة التي تنجم عن اصطدام أول غير متوقع بين الطرفين. وخلال التسجيل كله لم يصدر عن النعيمي ما ينبئ بتأثر عميق، وتعابير وجهه بقيت ثابتة سواء عندما ذكر مقتل عمه وصديقه برصاص القنّاص، أو عندما تحدث عن قتله ذلك القنّاص.

بعد سرد الحادثة يتوعد النعيمي المجرمين الذين قتلوا أناساً في تلكلخ أيام الأسد بالقتل، ويعلن عدم اكتراثه بأي توصيف يُطلق عليه وعلى من معهم، سواء قيل عنهم مجموعات أو فلول، فهم يبتغون مراضاة الله بأرواحهم. وينوّه بأنهم بالطبع تحت “سقف الدولة”، لكنهم لا يقبلون ترك القتلة طلقاء، ليعود للتأكيد على أنه لا يكترث بمراضاة أحد، وعلى أنه “تحت سقف دولة؛ دولة بني أمية ودولة الشرع”!

ثمة تسجيل آخر نُشر بالتزامن مع تسجيل النعيمي، وفيه تظهر صورة ثابتة لثلاثة أشخاص ملثّمين يلبسون الثياب المرقطة، بينما يعلن صوت باسم ثوار مدينة أعزاز عن تشكيل “مجموعة الاغتيالات الخاصة” داخل المدينة. الصوت مموَّه تقنياً بحيث لا يشير إلى هوية صاحبه. ويعلن صاحب الصوت: “كل شخص كانت له علاقات مع النظام البائد هو هدف لنا.. ولدينا العديد من أسماء الذين شاركوا في قتلنا، وقد علمنا أنهم قد عادوا إلى مدينة أعزاز، لكن من الآن نعلن أنهم هدف لنا”.

المصادفة وحدها لا تفسّر نشر التسجيلين في اليوم نفسه، من دون الذهاب إلى الظنّ بوجود تنسيق بين النعيمي من تلكلخ ومجموعة الاغتيالات الخاصة في أعزاز. ما يجمع الاثنين هو مناخ عام من شكوى مفادها تقاعس السلطة عن محاكمة مجرمي العهد البائد، والتذمّر من إبقاء أشخاصٍ طلقاء، بينما يُنظر إليهم على نطاق عام بوصفهم من رجالات ذلك العهد، مثل فادي صقر ومحمد حمشو وسواهما. وكان آخر حدث من هذا القبيل ظهور وزير الثقافة مع السيد جمال الشرع في مضافة شخص من المحسوبين على عهد الأسد، ما دفع الرئاسة إلى إصدار بيان توضح فيه أن حضور شقيق الرئيس كان بصفته الشخصية، من دون أي توضيح خاص بحضور الوزير.

ويمكن ردّ بعض الشكوى والتذمّر إلى سياق طبيعي، انتظر فيه أصحاب الحق أن تبادر السلطة إلى إنصافهم، لكنها بعد مرور شهور والانتهاء من تشكيل الحكومة لم تبادر إلى الشروع في ملف العدالة الانتقالية الموعودة. ولا يمكن إلى جانب هذا السياق إغفال تضخّمه، وتضخيمه المتعمّد، بعد مجازر الساحل. فالضجة الإعلامية التي رافقت المجازر، والمطالبات بمحاسبة مرتكبيها، أيقظت كثرة من المطالبين بمحاكمة مرتكبي المجازر في عهد الأسد، ولا تخفى الكيدية في هذا التضخيم. إذ تبدو المقايضة المتضمَّنة فيها هي مجزرة بمجزرة، وطائفة بطائفة، أو صمت بصمت.

منذ شهر ونصف لم يهدأ الضخّ الذي يستهدف ظاهرُه مجرمي العهد البائد، مع قليل من العتب على السلطة التي لا تحاكمهم، بل تحابي البعض منهم بحسب الشائع. العتب لم يتحوّل ليكون انتقاداً جاداً للسلطة، ومطالبة لها بالشروع في العدالة الانتقالية، وإنما لا يزال يُستخدم لتبرير الانتهاكات في الساحل، الحالية منها والمتوقعة. عمليات الثأر المقبلة مبررة سلفاً بموجب المناخ السائد، لذا لم يكن من المصادفة أن يحظى النعيمي فوراً بالتعاطف على انتقامه على منصات السوشيال ميديا، وأن تنال فعلته تسمية عنواناً يبررها هو: العدالة الأهلية.

والحق أن النعيمي هو أول مَن يطبّق “العدالة الأهلية” المزعومة، فلم تُشتهر منذ سقوط الأسد حادثة ثأر شخصية مشابهة. المقصود هنا، حسب ادعائه، قيامه بالقتل ثأراً لعمه وصديقه وآخرين من معارفه. أما الصيغة الشائعة من الثأر، والتي يُراد تبريرها والألفة معها، فيجسدها الثأر الطائفي الأعمى، حيث يقوم طائفيون سُنّة (ليسوا أولياء ضحايا بالضرورة) بالانتقام من مدنيين من منبت علَوي من دون اكتراث بما إذا كانوا متورطين أو غير متورطين في أي جرم.

الكارثة في منطق الثأر الطائفي، الذي يُراد التعايش معه، ذلك الزعم بتحقيق “العدالة الأهلية” على خلفية العجز عن تحقيق العدالة الانتقالية. والجريمة الفظيعة الكبرى التي تُنفّذ بموجبه هي تجريم طائفة بأكملها لأن الممسكين بالسلطة في أحسن ظن غير قادرين على ملاحقة المجرمين فعلاً، أما بقليل من التشكك فهم يساعدون كبار المجرمين على الإفلات من العقاب، ويتساهلون مع تجريم الأبرياء الضعفاء.

ما تسهل ملاحظته أن النظرة إلى العدالة الانتقالية من قبل السلطة وأهلها قاصرة على موضوع محاكمة المجرمين، وأصحاب هذه النظرة لا يلحظون (عن قصد أو غير قصد) أن العدالة لا تحاكم المجرمين وتنصف ضحاياهم فحسب، بل هي ضرورة ملحّة جداً للأبرياء الضعفاء الذين يجرَّمون على مدار الساعة لأسباب طائفية فقط. وبهذا المعنى فإن عدم الشروع في العدالة الانتقالية لا يُحسب على تسامح تبديه السلطة من أجل السلم الأهلي، بل إنها في هذا السياق تفعل العكس تماماً إذ تتسامح مع كبار المجرمين وتضحّي لأجلهم بالأبرياء، ما يضيف جروحاً جديدة إلى تلك التي تحتاج إلى استشفاء.

حتى كتابة هذه السطور، أي بعد مرور يومين على قيامه بالقتل، لم يُعلن عن القبض على حسين النعيمي الذي خرج معترفاً متباهياً بفعلته، ومتوعّداً بتكرارها، ولم يعلن حتى عن ملاحقته إذا لم يكن على رأس عمله في الأمن العام، ولم يعلن كذلك عن فتح تحقيق في التسجيل المنسوب إلى “مجموعة الاغتيالات الخاصة” في أعزاز. وعدم التحرك يستدعي إلى الأذهان سرعته في حادثة أخرى في اليوم نفسه، إذ أوعز محافظ إدلب إلى المدعي العام لتحريك شكوى ضد ناشطة بدعوى نيلها من الحجاب، وذلك بعد ساعات قليلة من انتشار تسجيل صوتي لها مقتَطع من محادثة خاصة قبل أربع سنوات.

من حيث لا يقصد، يدقّ النعيمي جرس إنذار، هو إنذار حاد ومستعجل على نحو لا يجوز القول أنه لم يُسمع. إلا إذا المطلوب هو التعايش مع دعاة الثأر الطائفي، أو أمثال اللذين ظهرا في تسجيل لتوزيع ربطات خبز على سبيل الإغاثة في حي الفيض في جبلة يوم الأحد، حيث يقول واحد منهم موبّخاً الأولاد (الساعين للحصول على حصة أكبر من المعونة) أن بدو الفيض يستحقون المحو مثل العلوية، ثم يؤكد على أنهم (مثل العلوية) يستحقون التطهير العرقي.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى