لا شك أن للقادة سمات مشتركة يتسمون بها؛ من علم، وحلم، وحكمة، وكياسة، وسياسة، وشجاعة، وامتلاك للرؤية الثاقبة وروح المبادرة… الخ ما هنالك من صفات فطرية.
ولا يعني ذلك بالضرورة أن كل القادة والزعماء من رؤساء وملوك وأباطرة يمتلكون مثل هذه الصفات؛ فإذا ما تجاوزنا الأساطير التي تجعل الحاكم ابناً للآلهة، أو الحكايات والأفلام التي تجعل ابن الخبّاز ملكاً بالمصادفة بدلاً من ابن الملك، فقد يلد المرء ليجد نفسه ملكاً لأنه من سلالة ملوك، بل إن التاريخ المعاصر أنجب لنا شكلاً جديداً من التوريث “الجمهوري” بحيث يرث ابن الرئيس والده فيصبح رئيساً، بالرغم من عدم وجود نظام مقنن لتوريث الحكم، وبالرغم من أن المسمى للدولة هو “جمهورية” يحكمها دستور ينص بشكل واضح على تداول السلطة، ومثال ذلك توريث الحكم في الأنظمة الشمولية المستبدة “جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية” حيث حكمها كيم إل سونغ، ثم ابنه كيم جونغ إل، ثم ابنه كيم جونغ أون، ولن نذهب بعيداً فلدينا مثل حي ماثل للعيان في سورية الجريحة، الممزقة، المحكومة من عدة دول وعدة مليشيات؛ والتي حكمها حافظ الأسد بعد انقلاب عسكري لا شرعي حدث في شهر تشرين ثاني/نوفمبر من عام 1970 نصب بعده رئيس دمية هو “أحمد الحسن الخطيب” حتى استلم حافظ رئاسة البلاد رسمياً بتاريخ 22 شباط/فبراير من عام 1971 وبقي جاثماً على صدور العباد في حقبة مظلمة لا تنسى من حقب التاريخ السوري، لغاية أن أنهى الموت حكمه بتاريخ العاشر من حزيران/يونيو عام 2000 حين تم تغيير الدستور السوري في ظرف ربع ساعة بعد خطبة عصماء لرئيس مجلس الشعب حينها الليبي الأصل “عبد القادر قدوره” الذي نعى حافظ أسد قائلاً ” ابن شعبنا البار وحكيم أمتنا ورجل الدولة البارز وواحد من الشخصيات الذي تجسدت فيه الأمة في آمالها وأحلامها وآلامها وشجاعتها وحكمتها… كان زعيمنا بحق وأبانا بحق وقادنا بنجاح الى شاطئ الأمان والنصر الدائم في أصعب الظروف وأحلك الليالي”.
وقد تم تعديل الشروط الواجب توفرها في شخص المرشح لرئاسة الدولة والتي وردت بالمادة 83 لتصبح على الشكل التالي “يشترط فيمن يرشح لرئاسة الجمهورية أن يكون عربيا سوريا متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية متمما الرابعة والثلاثين من عمره”
وبذلك أصبح سن المرشح الرابعة والثلاثين بدلاً من الأربعين ليلائم العقيد “بشار حافظ الأسد” الذي أوصل البلاد إلى ما هي عليه الآن من حال فظيعة يعلمها الجميع ويكفي أن نقول إنه في ظل حكمه المستمر لغايته؛ قتل –أو تسبب بقتل- مليون سوري تقريباً، وهجر أكثر من /12/ مليون داخل البلاد وخارجها، ودمر البلاد، وأهلك الحرث والنسل، وما زالت المأساة مستمرة…
مؤخراً أتحفتنا مواقع التواصل الاجتماعي بطرح أسماء الأشخاص الذين سيتولون زمام الأمور بعد زوال حكم آل الأسد في المرحلة الانتقالية المرجوة، فظهر إلينا المعتوه وشبه المعتوه، وسُربت بخبث حيناً، وبسذاجة سياسية أحياناً؛ أسماء شخصيات معارضة منها شخصيات معتبرة بوسط الثورة والمعارضة، ومنها شخصيات محلية متواضعة لا يعرفها معظم السوريين، ومن قبل جهات وطنية وجهات أجنبية، ونذكر مثلاً لذلك الإعلامي الإسرائيلي المثير للجدل “إيدي كوهين”.
السوريون الغرقى يبحثون عن بارقة أمل، وضوء في نهاية النفق الطويل، ولذلك فهم يتفاعلون مع أي خبر يداعب أحلامهم ويتناول هذا السياق “الرئيس القادم” الذي سيحل محل “الرئيس السابق” وهو تعبير لم تتداوله أجيال من السوريين، بل كل من كان عمره خمسون عاماً فأقل.
خمسون عاماً حكمت خلالها عائلة الأسد بمنظومة شمولية استبدادية أقلوية لا مثيل لها، وبعيداً عن الإفراط في المثالية التي تغيّب الحقائق حتى تقترب من المداهنة في محاولة لإرضاء “الجميع” وفي مخالفة لقاعدة أزلية ثابتة تقول إن “إرضاء الناس غاية لا تدرك” بعيداً عن كل ذلك نقول: إن حكم آل الأسد طائفي بامتياز، وفي تفاصيل هذه البنية الطائفية نجد دون شك
أعصاب عليلة تنتشر في هذا الورم السرطاني الخبيث ولا تنتمي إليه، هؤلاء وفي مجموعهم يشكلون المنظومة التي نعنيها “طائفة آل الأسد” التي تضم في جنباتها المسلم والمسيحي واليهودي واللاديني، العلوي والشيعي والسني والدرزي، أصحاب اللحى المعممون ممن يصنفون من رجال الدين، والشبيحة مفتولي العضلات من ذوي الرؤوس الحليقة الذين يمارسون المجون على قارعة الطريق.
هذه المنظومة التوليتارية التي ابتلعت المجتمع والدولة بكل مكوناتها تحولت سريعاً إلى نظام استبدادي رهيب انحصر بشخص فرد تم تأليهه بشكل ممنهج عبر بروبوغاندا موجهة بعناية فائقة بحيث استطاعت أن تختزل الأمة بشخص القائد الفرد الملهم باني سورية الحديثة، وصانع نهضتها، وحامي حماها، العبقري، السياسي المحنك، المقارع للمد الإمبريالي الخارجي، والمجابه للخطر الصهيوني الوجودي على الحدود، الحامي لقيم العلمانية في مواجهة التطرف الديني، مع عدم إغفال تذكير الجماهير كل مرة بسلسلة “معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم” وأداء صلاة العيد بخشوع متناهي في المسجد الجامع، وبالوقت نفسه زيارة الأديرة والكنائس وتهنئة الطوائف المسيحية (شرقية وغربية) بأعياد الفصح والميلاد فهو دائماً حامي حقوق الأقليات وصمام الأمان لمستقبلهم.
صورة القائد -الأب والابن- هذه ترسخت في أذهان الأجيال التي عاصرته بحيث لا يمكن أن تزاحمها صورة حتى غدت عبارة ومفهوم “سورية الأسد” مسلّمة ليس في أذهان العوام فقط؛ وإنما في أذهان النخب حتى!
بعد عشر سنوات من الثورة والحال الذي آلت إليه البلاد من تمزق واحتلالات ومآسي حقيقية لا توصف على كافة الصعد، اشرأبت أعناق جماعة “كنا عايشين” وساهم تردي الظروف في تسويق فكرتهم بأن لا بديل للأسد وأنه صمام الأمان والمنقذ لسورية، وزاد في الطين بله أنه لم تبرز شخصية ثورية أو معارضة ملهمة تستقطب الجماهير التواقة للحرية والتغيير، وقد يكون مرد ذلك لأسباب موضوعية لا تتعلق بالصفات الشخصية فما دامت النساء تنجب يولد الرجال، ولا نشك بأن عشرات الآلاف من السوريين –نساء ورجال- أهل لأن يتولوا زمام المبادرة ويتقلدوا أرفع المناصب –ومنها رئاسة البلاد- إذا توافرت الظروف والأسباب الموضوعية، ولا سيما لو نعمت البلاد بنظام ديمقراطي مؤسساتي ينحسر فيه دور الفرد، أو يقل، بحيث يتحول الرئيس إلى موظف يدير مؤسسة شؤون الحكم، ويقف على إشارة المرور، ويتسوق من حانوت الحارة، ويرسب ولده في امتحان الثانوية!
إنه حلم؛ لكن كل الأشياء العظيمة بدأت بحلم، ولن تذهب سدى تضحيات شعب عظيم قدم تضحيات جسام، وسوف تزهر مجدداً دماءً ذكية أريقت على مذبح الحرية، لن يحيد أو يتراجع؛ لأن كلفة الرجوع أكثر بأضعاف مضاعفة من كلفة الاستمرار. لا يغرق المرء لأنه سقط في النهر، بل لبقائه مغموراً تحت سطح الماء.
💞