
قبل اللجوء للاختصاصيين في تناول المسائل الاجتماعية – السياسية الهامة والمصيرية هناك دور لابد من المرور به وهو دور أهل الرأي من المفكرين والسياسيين , وعندما يجري شطب ذلك الدور أو تجاوزه فلن يستطيع أهل الإختصاص الأكاديمي أو التقني التعويض عنه .
صدور الإعلان الدستوري المؤقت توج في الحقيقة عدة أخطاء سابقة وأضاف إليها خطأ آخر سوف ندفع ثمنه مزيدا من الجدل والإنقسامات في الوقت الذي لايحتمل ذلك بل يقتضي الإنصراف لما هو أهم وأكثر خطورة من تثبيت الأمن والاستقرار وتوحيد البلاد والإنطلاق نحو الإعمار والبناء .
بدأ الخطأ بتأخر إصدار الإعلان الدستوري المؤقت , والذي كان يفترض صدوره عقب إسقاط النظام البائد مباشرة كي يتم سحب الشرعية من النظام البائد ومن جميع رجاله عبر وقف العمل بالدستور المعمول به وهو دستور العام 2012 , وفي الوقت ذاته تماما يمنح الإعلان الدستوري المؤقت الشرعية الدستورية المؤقتة للعهد الجديد للفترة الانتقالية وهكذا تتجنب البلاد الفراغ الدستوري .
ولم يكن الاعلان الدستوري المؤقت يحتاج سوى القليل من الجهد , فليس المطلوب فيه سوى عدد محدود من الأسطر ( حوالي عشرة بنود) تنص على إنهاء العمل في الدستور السابق كما ذكر أعلاه وأهداف التغيير النهائية وطبيعة المرحلة الانتقالية ومدتها والمرجعية الدستورية للإعلان ( مثلا دستور العام 1950) ويقوم قادة التغيير الثوري بتعيين الحكومة المؤقتة التي ستتولى الحكم خلال المرحلة الإنتقالية من التكنوقراط على الغالب وينتهي الأمر عند ذلك حتى انتهاء المرحلة الإنتقالية وإجراء الإنتخابات .
بدلا عن ذلك عاشت البلاد الفراغ الدستوري الذي نجم عنه ارتباك واضح تجسد بصورة خاصة في القضاء الذي لم يعد يعرف كيف بمقدوره تسيير أموره , كما تجسد بالحالة السياسية العامة .
جاء مؤتمر الحوار الوطني على طريق إضفاء شرعية دستورية , لكنه لم يكن ضروريا من منظور تلك الشرعية التي كانت ممكنة بدونه بموجب الاعلان الدستوري المؤقت دون التقليل من ضرورته الوطنية بغير الطريقة التي تم بها , وبنتيجته أعلن عن إنهاء العمل بدستور العام 2012 لكن بدون وضع دستوري بديل على أن يتم تشكيل لجنة لوضع الإعلان الدستوري المؤقت .
وكما تبين فقد انطلقت اللجنة في عملها من تصور أن الاعلان الدستوري هو دستور مؤقت فوضعته على مقدمة و 53 مادة وجهدت لتضمنه ماتعتقد أنها البنود الأكثر أهمية في الدستور الدائم المقبل .
هذا الفهم للإعلان الدستوري المؤقت ليس صحيحا , فليس المطلوب عمل دستور مؤقت , والدستور بطبيعته يكتب ليكون دائما فيما عدا الاستثناءات التي تتم من قبل الأنظمة الشمولية , وسبق أن ذكرت ماهو هدف الاعلان الدستوري المؤقت وماهي مهمته وبالتالي مضمونه الموافق لتلك المهمة .
لكن الأمر لايقتصر على ذلك فهناك آثار ضارة لهذا الفهم حين تناول الاعلان المقدم المسائل التي يمكن أن تكون خلافية في الدستور الدائم وتحتاج إلى توافق وطني ضمن إطار الجمعية التأسيسية المنتخبة , وهكذا أعطى مادة للخلاف والجدل وغذاء لعوامل الانقسام التي مازالت بحاجة لكثير الحرص في تجاوزها في هذه المرحلة الإنتقالية التي تكاد تشبه حالة الطوارىء .
هكذا وللأسف الشديد ننتقل من خطأ لآخر بسبب الجفوة بين أهل الرأي وأهل الحكم واستبعاد أهل الرأي في صنع القرار .
لن أدخل في مناقشة مضمون الإعلان الدستوري , ولا أتمنى أن يتسع الجدل حول بنوده الآن فليس ذلك هو الوقت المناسب .
كل ما أتمناه أن تكون هناك طريقة لإصغاء أهل الحكم لأهل الرأي من السياسيين والمفكرين المخلصين ذوي المكانة المرموقة والخبرة والسمعة في المجتمع ومعظمهم لايريد سوى خدمة هذا البلد الذي يحب .