يخطئ من يقارن الرئيس التونسي قيس سعيد بالرئيس المصري السيسي، فالاخير جنرال عسكري حرك قواته المسلحة ليقوم بانقلاب عسكري كامل الاوصاف باعتقال رأس السلطة المدنية المنتخب، الاخواني محمد مرسي، الذي نجح في الجولة الثانية باغلبية بسيطة بنسبة 51.73 % على منافسه احمد شفيق الذي حصل على نسبة 48.27% بفارق 3 نقاط ونصف فقط. علما بأن ما رجح فوز مرسي قطاعات محدودة من الناخبين رغم عدم تحبيذها للاخوان، لكنها صوتت بالاساس ضد احمد شفيق خوفا من عودة السلطة للنظام السابق، رغم ان شفيق الذي ايد الثورة ضد مبارك لم يعد محسوبا عليه. وقد اكتشفت هذه القطاعات خطأها وعادت لتشارك في الاحتجاجات الواسعة المليونية ضد مرسي بعد عام من تجربته الفاشلة على رأس السلطة. وبالاستناد لهذا الحراك قام السيسي بانقلابه العسكري وكان من المتوقع ان يعيد تسليم السلطة للشعب ولكنه استأثر بها باتباع اشكال مختلفة اعتاد استخدامها العسكر الانقلابيون.
عكس ذلك تماما فالرئيس قيس سعيد ليس جنرالا والتغييرات التي اجراها مدنية وتعتمد على بنود الدستور التي شارك حزب النهضة في وضعها واقرارها. ورئيس الوزراء الذي اقيل يقيم في منزله ولم يعتقل فيما رئيس البرلمان الغنوشي يمارس حقه في الاحتجاج على الاجراءات ويعتصم امام مجلس النواب المغلق. الرئيس سعيد رغم انه لا ينتمي لاي حزب، نجح في الانتخابات الرئاسية بفارق كبير فقد حصل على 72.71 % من الاصوات، فيما حصل منافسه نبيل القروي على 27.27 %. في تلك الانتخابات ترك حزب النهضة، الذي لا مرشح له، لمؤيديه حرية اختيار من يعطونه صوتهم. سعيد، الأستاذ الجامعي للقانون الدولي المناهض القوي للنظام السابق ولنواقص الحكومات المتعاقبة منذ العام 2011 والداعم لمطالب الثورة التونسية، فاز دون حزب سياسي بل فقط بأفكار يتقاسمها مع شرائح عريضة من الشباب الواعي والمثقف. ويرى مؤيدوه أنه صارم في تطبيق القانون لكن نقطة ضعفه تتمثل في ان التيار الشعبي الواسع المؤيد له غير مؤطر في حزب.
الرئيس سعيد يكاد يكون ممثلا لقطاعات واسعة من الشعب التونسي التي يئست من “الطبقة السياسية” باجمعها وليس من حزب النهضة فقط بل جميع الاحزاب المتعددة الاخرى، في موقف قد يضاهي الحراك الشعبي اللبناني اليائس من الطبقة السياسية اللبنانية الفاسدة، والرفع لشعار: “كلن يعني كلن” ضد كل الاحزاب، وليس حزب الله فقط، التي اوصلت لبنان الى حافة الانهيارالاقتصادي والمالي والسياسي. فمن يصور التغيير الذي احدثه الرئيس سعيد بانه موجه فقط ضد “حزب الاخوان المسلمين” كما عاد البعض لتسمية حزب النهضة، يسقط التوجه الحقيقي لهذه التغييرات ضد كل الطبقة السياسية الفاسدة الحزبية وغير الحزبية التي تسببت في ازمة سياسية واقتصادية بانهيار العملة وارتفاع نسبة البطالة وغلاء الاسعار وانتشار واسع لوباء كورونا مما ادى لانهيار المنظومة الصحية. فالانقسامات الراهنة في المجتمع التونسي غير مرتبطة بالدين أو بالهوية بل بالفساد وتدهور الوضع الاقتصادي والصحي.
ويؤشر لذلك ان الاحزاب الرئيسية في البرلمان التي رفضت خطوات سعيد: النهضة 53 نائبا – اكبرها ولكنه لا يملك الاغلبية وحده – ، كتلة قلب تونس 29 نائبا، كتلة التيار الديمقراطي 22 نائبا، وكتلة ائتلاف الكرامة 18 مقعدا. الاحزاب الرافضة للاجراءات تمثل اكثر من نصف المجلس المكون من217 نائبا. بالاضافة لاحزاب اخرى من خارج البرلمان كالحزب الديمقراطي، الحزب الليبرالي الجمهوري، والحزب الماركسي اللينيني. فيما احزاب اخرى قدمت دعما محدودا للرئيس سعيد ولكن فضلت الترقب والانتظار، مع مخاوف بشأن مستقبل الديمقراطية التونسية. علما بأن الاجراءات اتت بعد احتجاجات شعبية واسعة في 25 تموز في ذكرى عيد تأسيس الجمهورية في اكثر من مدينة تونسية دعت لاقالة الحكومة وحل البرلمان واعتقال الفاسدين وتقديمهم للمحاكمة، وقد لجأت للعنف في بعض الاماكن عندما اقتحمت بعض مقار حزب النهضة فاصطدمت مع القوى الامنية.
حزب النهضة رغم سلبياته التي قد تعود لاعتماده بالاساس على نخب ريفية في المجتمعات الزراعية او ريفية نازحة للمدن، يختلف عن احزاب الاخوان في انه لا يطالب بتطبيق الشريعة الاسلامية، واكتفى بنص الدستورعلى ان تونس دولة ديانتها الاسلام. وفصل المجال السياسي في الحزب عن المجال الدعوي الديني والمجتمعي، ورفض استغلال الدولة للدين سياسيا فمهمتها ليس فرض عقيدة ما على المجتمع، بل تقديم خدمات للناس وصيانة الامن. واذا كان حزب النهضة قد ترأس الوزارة بعد الثورة من عام 2011 – 2014 في ظل حليفه الرئيس المرزوقي، من خلال رئيسي الوزراء الجبالي والعريضي المنتميين للحزب، فقد قبل امام هبة شعبية ونقابية حاشدة التخلي عن الحكم لحكومة حيادية تشرف على انتخابات تشريعية ورئاسية كما قبل بتداول السلطة بعد انتخابات 2014 و2019 التي اتت بالسبسي من حزب نداء تونس كرئيس ثم قيس سعيد كمستقل في انتخابات شهد الجميع بنزاهتها. ودل القبول بالنتائج وتهنئة حزب نداء تونس بالفوز عام 2014، وعدم اطلاق التهم بتزوير الانتخابات، على نضج سياسي وانتصار للديمقراطية وقبول الآخر. كما تراجع النهضة عن التعاون مع الحركة السلفية، واتخذ موقفا حاسما ضد عمليات التكفيريين لاغتيال قياديين يساريين، وقبل بممارسة رجالات الحكم السابق لحقهم في العمل السياسي، لتعارض عزلهم سياسيا مع أسس الديمقراطية. ورغم خسارته للاغلبية فلولا هذه التراجعات لكانت نتائجه أسوأ بكثير.
حزب النهضة لا يحكم تونس منذ عشر سنوات كما قال البعض لكنه مشارك اساسي فيها من خلال مجلس النواب والتحالفات مع الاحزاب الاخرى فيه. الحزب بعكس حزب الاخوان المصري قبل بالديمقراطية العلمانية كهدف نهائي وهذا ما اثبتته العشر سنوات الماضية، فيما حزب الاخوان المصري قبل بالديمقراطية كقطار يوصله للسلطة ثم يقوم بتطبيق تدريجي لما يؤمن به من حكم الشريعة. واذا كان حزب النهضة قد قبل بالديمقراطية المدنية غير الدينية فذلك لا يعني انه كحزب مثل جميع الاحزاب الاخرى لا يمكن ان ينجر للفساد في السلطة. وحركة سعيد الدستورية ليس ضد حزب يريد تطبيق الشريعة ولكن ضد حزب شارك في الفساد كما يتهمه مع الاحزاب الاخرى. وهذا ما ينتظر اثباته في محاكم مستقلة كما هو متوقع او كما تسرب من ان القضاء سيفتح تحقيقا مع ثلاثة احزاب منها النهضة لتلقيها اموال من الخارج لدعم حملاتها الانتخابية.
ليس انقلابا كما قال البعض وهذا ما اكدته دول ديمقراطية عديدة اوروبية وامريكية، فقد حث الاتحاد الاوروبي على احترام الدستور وسيادة القانون والحفاظ على المكتسبات الديمقراطية وعدم الانجرار للعنف وحل جميع الخلافات من خلال الحوار. واملت فرنسا بعودة المؤسسات المنتخبة الى عملها الطبيعي في اقرب وقت. بعكس تركيا التي ترى في تأييدها لحزب النهضة فرصة لمد نفوذها الى تونس بعد ان رسخته في ليبيا المجاورة، فقد اعتبرت ما تم “تعليقا للعملية الديمقراطية وتجاهل للارادة الديمقراطية للشعب التونسي”! فيما سارعت احزاب الاخوان في المنطقة العربية مثل حركة مجتمع السلم الجزائرية الاسلامية لاعتبار الخطوات انقلابا. اما حزب العدالة والتنمية المغربي فقد اعتبر ان ما حدث في تونس “مؤلم” ولكنه لم يقل انه انقلاب. فيما ان من تنطح لمهاجمة الاجراءات بقسوة هو اتحاد علماء المسلمين الذي انشأه القرضاوي الذي “افتى!” بعدم شرعية قرارات سعيد ووصفها بانها استبداد وانقلاب غير شرعي موجه ضد حركة النهضة. كما تحرك بنفس الاتجاه التنظيم الدولي لجماعة الاخوان لحشد التأييد الدولي لحزب النهضة كما ادعى.
هل سقط الاستثناء التونسي في الربيع العربي؟ لا شيء يشير الى ذلك حتى الآن. تونس لم تتميز فقط بمساهمتها وريادتها للربيع العربي ونجاح ثورتها ضد بن علي سلميا، فهي بالاساس تتميز بمجتمع مدني متقدم وحضاري متأثر بالجوار الاوروبي، وبنهج علماني اختطه العهد البورقيبي، وبقطاعات شعبية مثقفة شبابية ونسائية ونقابية فعالة ترفض اسلمة المجتمع، وقانون للاحوال الشخصية ينصف المرأة ويعطيها حقوقها الكاملة المساوية للرجل، ومجتمع يرفض العنف واعتاد الحوار لحل خلافاته، ولا شيء يشير الى ان حزب النهضة او احزاب اخرى معارضة للرئيس يمكن ان تلجأ للعنف لمواجهة اجراءاته. بالاضافة لجيش حيادي سياسيا، وهامش لا بأس به من الحريات حتى قبل سقوط بن علي.
نعم هناك مخاوف على مستقبل التجربة الديمقراطية التونسية الرائدة ولكننا لا يمكننا ان نتنبأ بما يحدث منذ الآن ، علينا ان ننتظر ونراقب ما ستؤول اليه الامور بعد الاجراءات السياسية الراهنة، وخاصة خلال شهر تجميد البرلمان وما بعده ان كان سيمدد التجميد ام لا، وهو اجراء دستوري يحتاج لموافقة المحكمة الدستورية التي تبت في الحالة الاستثناية من عدمها. وسنرى ان كان تجميع معظم السلطة بين يدي الرئيس سيستمر ام انه حالة مؤقتة تقتضيها المرحلة. وان كانت بعض الاجراءات المنافية للديمقراطية مثل اغلاق مكتب الجزيرة ستعمم لاسكات الاعلام وحرية التعبير. هذا لم يحصل حتى الآن، كما انه لم يمنع الحراك الشعبي ووسائل التعبير الاخرى من اي طرف كان معارضا او مؤيدا. الاستعجال في اصدار الاحكام ليس عملا رصينا يمكن ان يصل الى حقائق الواقع القائم المتغير من يوم لآخر.
المصدر: الحوار المتمدن