
من أين أنت؟ إنه السؤال الذي كان يواجه كل سوري أيّاً كان شكله أو لونه، يوغل السائل في السؤال بعدها ليعرف أين تسكن؟ ومن هم أبواك؟ ليشكل في ذهنه صورة كاملة عن هويتك، تلك التي لا تعنيه إلا لتحديد انتمائك الضيق من أجل رسم صورة مسبقة لشخصيتك وطريقة تفكيرك وتصرفك.
يعرف السوريون جيداً ذلك السؤال، ويعرفون أسبابه ومآلاته أيضاً، اختبرنا جميعاً كيف كان انتماؤنا المناطقي أو الطائفي يعد تهمة قبل الثورة وبعدها بشكل أكثر وضوحاً، وكان على كل فرد سوري تقديم شهادة حسن سلوك أمام السائل كي يدرأ عنه تهمة مسبقة.
نعم نحن من سوريا المكلومة بجهاتها الأربع، من تلك البلاد التي حلت عليها لعنة الأسد فطمست تاريخها وفرّغتها من إنسانيتها وجعلت منها مزرعة تنتج ما يريدون وبحسب حاجتهم، فمرة نفطاً وأخرى موادَّ مخدرة ومرات كثيرة عدداً غير متناهٍ من الجثث التي لا مُعرّف لها سوى عددها، لكنها لم تعمل يوماً لبناء إنسان بل سلبت منا ما تبقى من إنسانيتنا، فهل بإمكان تلك البلاد وأهلها التعافي من ذلك الإرث وتحقيق سلام داخلي أو بناء سلام مع الآخر بمسحة رسول؟
عمل الأسد على أن يكون عدوّ السوري هو السوري الآخر، وأصبح هو ونظامه بمثابة ملاك حارس يحمي السوريين من بطش بعضهم البعض.
طوال حكم الأسد الأب والابن، لم ينجُ من تلك المحرقة الإنسانية إلا قلة قليلة على الأغلب، أولئك الذين هربوا من البلاد قاصدين وجهات تحترم إنسانيتهم بحد ذاتها من دون ذكر تفاصيل أخرى مثل مكان الميلاد أو الطائفة والمنطقة.
في البلاد الطبيعية يكون التنوع الثقافي والاجتماعي مصدر غنى وثراء، لكنه في سوريا وفي السنوات الأخيرة تحول إلى ساحة انقسام حاد، غذّته الصراعات السياسية والعسكرية، وأنتج خطاب كراهية خطيراً يهدد بنسف أي فرصة للتعايش، وهذا من أهم الأشياء التي عمل عليها النظام الأسدي من أجل إحكام السيطرة وتفتيت المجتمع.
عمل الأسد على أن يكون عدوّ السوري هو السوري الآخر، وأصبح هو ونظامه بمثابة ملاك حارس يحمي السوريين من بطش بعضهم البعض، لقد اعتمد هذا السيناريو سنوات وعقوداً حتى اقتنعت الأجيال الجديدة أنه حقيقة مسلّمة وراسخة لا نقاش فيها.
منذ سقوط النظام اعتقد السوريون أنّ بداية صفحة جديدة سيكون كافياً لتضميد جراحهم والبدء من جديد، لكن الجراح بقيت مفتوحة وموجعة، ما جعل الصدام وشيكاً وآتياً لا محالة، خاصة مع وجود دوافع وتحركات من لا يفضلون أن يتقدموا للعدالة لكثرة ما تورطوا به من دماء السوريين.
الأحداث الأخيرة أوضحت عمق الفجوة بين السوريين أنفسهم، وكانت دليلاً دامغاً على انعدام الثقة بين مكونات الشعب وأنا هنا لن أعرج على ذكر الأسباب لأنها مجال بحث آخر، لكننا أمام واقع علينا الاعتراف بوجوده من أجل تشخيصه ووصف علاجه ومراقبة مرحلة التعافي.
من حق السوريين اليوم أن يطمحوا لحياة طبيعية لا تشوبها صراعات، ويتعين علينا جميعاً البدء ببناء وثيقة مواطنة عن طريق إيماننا بوطن معين والتمتع بحقوقه والالتزام بواجباته.
لا يستطيع السوريون التعافي من نتائج الاستبداد بين ليلة وضحاها، بشكل خاص عندما لا تشعر الضحية أنها استوفت حقها بطرق قانونية وقضائية، وهذا يؤكد أن الجرح المفتوح بقي مؤلماً وأن ما حدث هو وقف مؤقت للنزيف ليس إلا، وقد فجر ذلك النزيف الشرارة التي اشتعلت في أحداث الساحل ومحاولات الانقلاب وإعادة سيطرة المجرمين الأسديين الفارين على بعض المناطق والمدن.
وإذا ما تجاوزنا صيرورة الأحداث ومآلاتها نجد أنه قد أصبح من الضروري بناء حوار سوري-سوري حقيقي قادر على تجاوز الماضي، والتأسيس لمستقبل مشترك مبني على المصالحة والتفاهم، لكن كيف يمكن تحقيق ذلك وسط هذا الكم الهائل من الجراح والعداوات؟
قبل الحديث عن الحلول، لا بد من الاعتراف بالعقبات التي تعترض أي محاولة للحوار، ومنها الاستقطاب الحاد بين مختلف الأطراف، والخطاب الإعلامي المستفيد والمشحون الذي يعزز الكراهية بدلًا من التهدئة، وغياب الثقة في أي مبادرة داخلية، مع انتشار القناعة بأن الحل يجب أن يأتي من الخارج، والخوف من الانتقام مما يجعل البعض يحجم عن الانخراط في أي حوار علني.
وعلى الرغم من هذا وذاك فإن بناء الحوار ليس مستحيلًا، بل هو ضرورة لا بد منها من أجل الخروج من دوامة العنف والكراهية بالاعتراف بالألم المشترك لكل سوري بغض النظر عن دينه وطائفته، والعمل من أجل بناء هوية وطنية جامعة تتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية والسياسية، فالمواطنة يجب أن تكون الأساس، بحيث تنتهي حالة التخوين فلا يُعامل السوري بناءً على طائفته أو انتمائه السياسي، بل بناءً على كونه فردًا متساويًا في الحقوق والواجبات.
ربما ينجح الشباب في تشكيل أول لبنة للحوار لأنهم الفئة العمرية الأكثر قدرة على كسر الحواجز النفسية التي خلّفها الصراع، لذلك من المهم إشراكهم في مبادرات الحوار والمصالحة، وتشجيع الحركات المدنية التي تعمل على تقريب وجهات النظر.
من حق السوريين اليوم أن يطمحوا لحياة طبيعية لا تشوبها صراعات، ويتعين علينا جميعاً البدء ببناء وثيقة مواطنة عن طريق إيماننا بوطن معين والتمتع بحقوقه والالتزام بواجباته، بمشاركة الأفراد في المجتمع من خلال احترام القوانين، والمساهمة في التنمية، والدفاع عن حقوق الآخرين، إضافةً إلى ممارسة الحقوق السياسية مثل التصويت والتعبير عن الرأي، فالمواطنة ليست مجرد الانتماء لجنسية معينة، بل هي علاقة متبادلة بين الفرد والدولة مؤسسة على الحقوق والمسؤوليات المتبادلة وحين تكون المواطنة مُصانة تبدأ العلاقة بين الأفراد بالتحسن.
إن صياغة “عقد مواطنة” يتطلب معالجة الجراح التاريخية، وضمان العدالة، ووضع أسس قانونية وأخلاقية تضمن التعايش السلمي والمساواة، وهذا العقد يجب أن يكون وثيقة ملزمة أخلاقيًا وقانونيًا، تستند إلى مبادئ العدالة والاعتراف والمصالحة بالاعتراف بالأحداث التاريخية والمآسي التي حصلت والالتزام بعدم تكرار العنف.
لا بد في وثيقة المواطنة ضمان حرية المعتقدات الدينية وعدم فرض أي دين أو مذهب على الآخرين، باحترام التعددية الثقافية والترويج لها عبر المناهج التعليمية والإعلام ووضع دستور يضمن حقوق جميع المواطنين بلا استثناء، مع تعهد جميع الأطراف بالالتزام بالمواطنة الحقة، ونبذ العنف، والعمل المشترك من أجل وطن يتسع للجميع.
لا يمكن بناء هوية وطنية على أنقاض الظلم، يجب معالجة الجراح عبر العدالة الانتقالية وتعويض الضحايا، والاعتراف بالأخطاء.
ولكن لتجاوز الجراح لا يكفي مجرد إصدار وثائق أو قوانين، بل يجب بناء عملية طويلة الأمد من المصالحة الوطنية قائمة على الاعتراف والعدالة والتسامح وإعادة بناء الثقة، فالتصالح لا يُنجز عبر النسيان القسري، بل عبر الاعتراف بالحقيقة، وتحقيق العدالة، وبناء ذاكرة جماعية جديدة تعتمد على العيش المشترك، وقد تحتاج هذه العملية إلى سنوات من العمل الدؤوب، لكنها الطريق الوحيد لبناء سلام حقيقي ومستدام.
من نافل القول إنه لا يمكن بناء هوية وطنية على أنقاض الظلم، يجب معالجة الجراح عبر العدالة الانتقالية وتعويض الضحايا، والاعتراف بالأخطاء، وإنشاء لجان حقيقة ومصالحة يساعد على التخفيف من الأحقاد فهل يمكن تحقيق ذلك فعلاً؟
حتى لا نكون طوباويين وندّعي المثالية في الحقيقة إن تشكيل هوية سورية جامعة: تشمل كل المواطنين بغض النظر عن طوائفهم أو أعراقهم أو أصولهم، ومانعة: تحمي الوحدة الوطنية وتمنع أي انقسامات جديدة تهدد استقرار الدولة، قد يتطلب عقوداً من العمل المستمر لأن ذلك لا يحتاج إلى إرادة سياسية فحسب، بل يستدعي تغيير في العقلية المجتمعية وهو ليس من مسؤولية السلطة فقط بل مسؤولية الأفراد كل في مجاله، مع إنجاز إصلاحات حقيقية في التعليم والإعلام والقانون، والاقتصاد.
وفي حال نجاح هذا المسعى سينعكس ذلك إيجابياً على علاقات الناس بعضهم بالبعض بطرق متعددة، وعندما تحقق العدالة والمصالحة ويشعر الجميع بأن الدولة تحميهم، ستنخفض مشاعر الخوف من الآخ” ولن يبقى الناس ينظرون إلى بعضهم على أنهم أعداء محتملون، بل كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وسيبدأ الناس في رفض أي محاولات لإثارة الفتنة، لأنهم أصبحوا يشعرون بالانتماء المشترك، وسيبدأ الناس في رؤية بعضهم البعض كشركاء في الوطن وليس كخصوم تاريخيين.
سيصبح بعدها الحديث عن الانتماءات والمناطق والطوائف والأعراق المختلفة أمراً عادياً، ومن باب التعرف على ثقافة أخرى مختلفة، ففي دولة المواطنة يجب ألا تكون انتماءاتنا الضيقة من (طائفة ودين ومنطقة) أمراً يعيبنا ونخشى منه فنخفيه، ولا يعلي من قدرنا أيضاً، ويمنحنا امتيازات تفضيلية، ربما حينها لن نخشى الإجابة عن سؤال من أين أنت؟ ويصبح من السهل أن نجيب: أنا من سوريا من تلك البلاد المثخنة بالجراح ولكنني فخور بذلك.
المصدر: تلفزيون سوريا