السياسة في عصر السرعة الفائقة

نبيل عبدالفتاح

أحد ابرز سمات الاضطراب، والتغيرات الكبرى في سياقات الثورة الصناعية الرابعة، السرعة الفائقة فى تفاصيل الحياة اليومية ومفاهيم العمل، والإستهلاك، والسياسة، والتفكير، والشهرة، ونظام الأكل والشراب، والعلاقات الشخصية ، ومفهوم الصداقة، والأسرة، والدين. في كل مساحات الحياة وتفاصيلها اجتاحتها السرعة الفائقة على نحو تبدي في تدفق الاكتشافات التكنولوجية، والرقمية التي تنهمر وتغير وجوه الحياة المألوفة، وعلاقات الإنتاج والعمل، وتدفع نحو تزايد معدلات البطالة، ، وفقدان القدرة على التكيف وإعادة التأهيل لأعمال أخرى جديدة، تتوافق مع التغيرات التكنولوجية النوعية في مختلف مجالات الحياة، وعديد الظواهر السوسيو نفسية ، مثل تمدد حالة الأغتراب .

ثمة تأثيرات كبرى امتدت من الدول الأكثر تطورًا في شمال أوروبا وشرقها – واليابان وكوريا الجنوبية، وآسيا الناهضة في سرعة كبيرة حول الصين، والهند، وسنغافورة، وماليزيا.

كل هذه التغيرات التى تحملها الثورة الصناعية الرابعة ، والذكاء الإصطناعي التوليدي، وثورة وسائل الاتصال الرقمية، وفضاءات التواصل الاجتماعي، تطرح معها أسئلة جديدة  حول المعني في الحياة وعلي كل النظريات والمفاهيم والإصطلاحات، في الفلسفة والعلوم الاجتماعية، والسياسية، والقانونية . من ثم نحن على مشارف قطائع معرفية – إبستمولوجية – مختلفة تماما، عن القطائع المعرفية التي شهدها الفكر الفلسفي والسياسي العالمي على نحو سيؤثر نوعيا على مقاربات فهمنا للعالم والوجود والشرط الإنساني ، والأنظمة اللغوية في ثقافات العالم، بل وعلى علاقات القوة اللغوية، وأنظمتها الكبرى بحيث ستسيطر اللغة الصينية لتصبح اللغة الأولى عالميا بين العقود 2050 إلى الألفية القادمة، وتصبح اللغة الإنجليزية الثانية، وتتعدد لهجاتها، وأشكالها، وفق تقديرات كبار علماء اللغة الفرنسيين.

ستسيطر على الأنظمة اللغوية العالمية، اللغة التقنية وإصطلاحات جدُ مختلفة حاملة مفاهيم مغايرة، وذلك في سرعة استثنائية في توالد المفردات، والإصطلاحات، وأيضا المجازات التي يبدو أنها ستختلف عن الموروث المجازي التاريخي والمتطور في لغات عالمنا المتعددة. من ثم ستتغير اللغة الأدبية ، ومجازاتها، والمقاربات النقدية ونظرياتها ، وإصطلاحاتها ، ومن ثم على محمولات اللغة من الخيال الأدبي والشعري.

من خلال التقنيات الرقمية، وتأثيراتها على القيم الاجتماعية والسلوكية، سيتغير العالم عبر التقنيات واللغة، في سرعات متلاحقة.

ستؤدي السرعة الفائقة، والذكاء الإصطناعي التوليدي وتطوراته إلى التأثير على العقل الديني والمذهبي في كل أديان العالم ، ومذاهبها السماوية والوضعية ، حيث ستتراجع عديد من البنيات الإصطلاحية الفقهية واللاهوتية والتوراتية ، ومن ثم التأويلات، والتفسيرات الوضعية حول المقدس  السماوي – تعالي وتنزه – ومفاهيمه ودلالاته في كل ديانة، وتأويلاتها المذهبية، وستحدث فجوات واسعة، بين الخطابات الدينية والمذهبية -أيا كانت- وبين الأجيال الجديدة، والقادمة مستقبلا التي سيتشكل عقلها الفردي والجمعيّ وأنماط تفكيرها علي خلاف وتمايز عن الأجيال السابقة لها.

هذا سيفرض تحديات على المؤسسات الدينية والمذهبية -أيا كانت- ومعها تغيرات ضخمة، في أنظمة تعليمها، وتكوينها لرجال الدين، وذلك لمجارات التغيرات السريعة والمتلاحقة ، والمرجح أن الذكاء الإصطناعي التوليدي المتغير وبدأ  دوره من اللحظة التاريخية الراهنة ،  يشغل بعض أدوار رجال الدين ، ومؤرخي الأديان المختلفة والمقارنة ، في تقديم المعلومات الفقهية والتفسيرية والتأويلية ، وحول تاريخ كل ديانة، ومذهب ، والفتاوي الموروثة والمتراكمة والمعاصرة ، والأهم أنه سوف يلعب دور الترجيح بين بعض الآراء بعضها بعضا ، على نحو يختلف نوعيا عن العقل النقلي، وغيره المسيطر على العقل الديني الشائع في غالب دول العالم وخاصة الإسلامي والأرثوذكسية الشرقية والعربية .

من المحتمل، وربما المرجح أن تحدث إزاحات لبعض من المؤسسات الدينية الرسمية، أو تفككها إلى عديد من المؤسسات الفرعية، والمرجح ظهور مؤسسات مختلفة، تستوعب هذه التحولات، وتحاول التعامل معها.

تبدو تأثيرات الثورة الإصطناعية الرابعة قادرة على نشأة فرق ، وجماعات دينية وضعية جديدة، ، وربما أديان وضعية جديدة، بعضها مختلف تمام عن الأديان العالمية، وبعضها الآخر خارج من أصلابها على نحو مختلف ، خاصة في الأسواق الدينية الكبرى، كما في الولايات المتحدة الأمريكية، أو في آسيا.

هل سيؤثر عصر السرعة الفائقة على السياسة والسلطة في المجتمعات والدول الأكثر تطورًا، حيث تتبدى التناقضات المتلاحقة في السياسات العالمية، والصراع على القوة الفائقة في العلاقات الدولية بين الولايات المتحدة الأمريكية، والصين في مجالات التقنيات فائقة التطور، والاقتصاد، وأنظمة التسليح، في صراع كوني على القوة.

هذه الصراعات على القوة ، والجغرافيا السياسية، تبدو منعكسة في بعض الاضطرابات، والفوضى النسبية، وتقلصات عديدة في آسيا، والحرب في أوكرانيا، والشرق الأوسط، ، وعلامات بعض التغير في المنطقة، بعد حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، وعلى حزب الله في لبنان، والضربات، البريطانية والأمريكية- لجماعة الحوثيين، وانهيار النظام البعثي في سوريا، والحرب في السودان، والنزاع الأهلي في ليبيا.

لا شك أن ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، والذكاء الإصطناعي أدت إلى فضاءات واسعة لحريات الرأي والتعبير، ومن ثم باتت تشكل أدوار ووظائف سياسية في ممارسة الضغوط على السلطات السياسية والأمنية والاستخباراتية والبيروقراطية في غالب بلدان العالم المتقدمة والمتوسطة، والفقيرة، حيث باتت الجموع الرقمية الغفيرة -والفعلية- تشكل أكثر جماعات الضغط قوة، وتأثيرا على صناعة السياسات والقوانين، والقرارات السياسية، في عديد المجالات، وخاصة في القضايا التى تمس فرص العمل، والتضخم، وغيرها المؤثرة على أنماط الحياة للطبقات الوسطى، والعمال، وأنظمة التأمين الاجتماعي والصحة..الخ.

الحرية الاستهلاكية بات الأهم في ظل تطورات الرأسمالية الغربية، والنمو المفرط لأنماط ال الإستهلاك المعمم، ومن ثم انتقلت حرية الإستهلاك

 الفعلية إلى وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية، لتنتج حرية استهلاك رقمية واسعة النطاق.

الحرية الاستهلاكية الرقمية باتت مؤثرة على إضعاف أدوار الأحزاب السياسية التاريخية في أوروبا واليابان والولايات المتحدة، على الرغم من توظيفها للرقمنة في نشاطاتها، والترويج لبرامجها السياسية إلا أن استهلاك هذه البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية بات محدودًا، ولا يلبي مطالب الجموع الرقمية الغفيرة -لاسيما الطبقات الوسطى- التي باتت تطالب بإدخال تعديلات على النظام الديمقراطي التمثيلي، حتى لا تسيطر الحكومات المنتخبة على مقاليد السلطة، وتمرير تشريعاتها القانونية من البرلمانات، والتي لا تخدم مصالح الطبقات الوسطى، وغيرها.

الذكاء الاصطناعي التوليدي، والروبوتات سيؤديان إلى إحداث تغيرات كبرى، في مفهوم الحرية الفلسفي والسياسي والقانوني، في ظل عمليات التحول إلى عالم الإناسة الروبوتية، ثم عالم ما بعد الإنسان، خاصة مع ظهور فواعل تقنية بالغة الذكاء، ستؤثر على الحياة الإنسانية الفعلية، خاصة في امتداد دورها في تفاصيل الحياة في هذه المجتمعات، ومنها الحياة السياسية والحزبية، وهل ستصلح المؤسسات للاستمرارية في أداء دورها في تمثيل المصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لطبقات وشرائح اجتماعية، وتعبر عنها من خلال آليات المنافسة السياسية السلمية؟

هل أنظمة الرقابة الأمنية والسياسية والاستخباراتية الفعلية والرقمية، ستحتفظ بقدراتها ووظائفها في السيطرة، في ظل رقابات مضادة من الجموع الرقمية الغفيرة، واختراقاتها لبعض هذه الأنظمة، وخاصة من الأجيال القادمة من الشباب، والصبية؟ من ناحية أخرى الدور الذى ستلعبه الروبوتات في الرقابة على السلطة، والجماهير الفعلية، والرقمية، في ظل تقديرات أن الفاعل القادم إلى الحياة الإنسانية يتمثل في الروبوتات، خاصة بعد أن أصبح لها ردود أفعال على السلوك الإنساني كما سرب ذلك بعض كبار الخبراء في الشركات الرقمية الكونية العاملة في هذا المجال، وأدى إلى فصله من عمله!

تواجه الدول المتوسطة والفقيرة في جنوب العالم تحديات كبرى، خاصة الدول التي لا تزال سلطاتها السياسية استبدادية، وتسلطية تفرض رقاباتها على الحريات وتصادرها، في ظل فشل سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، حيث تمثل ثورة وسائل التواصل الاجتماعي أحد ابرز الضغوط على سياساتها القمعية، وتعريه ممارساتها على نحو أدى إلى انكشاف هذه السلطات الاستبدادية والتسلطية داخليا، وعلى المستوى الكوني.

بعض هذه السلطات لا تزال تمارس العنف الاستبدادي دونما مراعاة لما يجري على الحياة الرقمية، وتمارس الرقابة عليها، ويتم اعتقال وسحب من يعارضونها، وهذا مرجعه أن العقل السياسي في هذه الدول لا يزال يعيد إنتاج أساليب السيطرة والرقابة والعنف المفرط على “المواطنين” التي كانت سائدة في المراحل التاريخية والسياسية ما بعد الكونيالية، وتأسيس دولة الاستقلال الهشة  في العالم العربي، نظراً لأن بعضها مجتمعات انقسامية- ، من هنا عالمنا يدخل مراحل جديدة تمس أنظمة حياته كلها في سرعة فائقة، وربما بعضها غير متوقعة.

المصدر: الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى