اتّفاق غزة: الانتقال من “الايديولوجيا” إلى السياسة؟

إيمان شمص

مع دخول اتّفاق وقف إطلاق النار الذي طال انتظاره حيّز التنفيذ، يمكن لكلّ من الرئيس الأميركي السابق جو بايدن والرئيس المنتخب دونالد ترامب، أن يدّعيا الفضل في هذا الإنجاز، بينما تفكّر إسرائيل وحماس في حقيقة ما وقّعا عليه بالضبط.

تنصّ المرحلة الأولى من الاتّفاق على إطلاق سراح 33 من حوالي 100 رهينة ما زالوا محتجزين في غزة، ووقف إطلاق النار لمدّة ستّة أسابيع، وانسحاب إسرائيل من المناطق المأهولة بالسكّان، والإفراج عن مئات الفلسطينيين الذين سجنتهم إسرائيل، وزيادة المساعدات الإنسانية لغزّة. أمّا المرحلة الثانية، التي سيتمّ التفاوض عليها خلال المرحلة الأولى، فستشمل عودة الرهائن الذين ما زالوا على قيد الحياة، وانسحاب جميع القوّات الإسرائيلية من غزة وإنهاء القتال بشكل دائم. بينما تشمل المرحلة النهائية إعادة رفات جميع الرهائن الآخرين وإعادة إعمار غزة.

يكتب كلّ من آرون ديفيد ميلر ودانيال سي. كورتزر في مقال في “نيويورك تايمز” أنّ الاتّفاق كان بمنزلة أخبار سارّة لبعض الرهائن وعائلاتهم ولشعب غزة الذي عانى طويلاً. ولكنّ الانتقال إلى المرحلة الثانية من الخطّة ليس مؤكّداً بأيّ حال، وهو ما يثير التساؤل عمّا إذا كانت الحرب ستنتهي حقّاً.

بالنسبة لترامب، الذي يزعم بالفعل أنّ وقف إطلاق النار هو أوّل نجاح لرئاسته، فإنّ الحقيقة المحرجة هي أنّه أصبح الآن مقيّداً بالمسؤولية عن مصير الاتّفاق. وفي الأمد القريب، ستحتفل إسرائيل بعودة الرهائن، الذين يُعتقد أنّ معظمهم على قيد الحياة، والذين احتُجزوا في ظروف غير إنسانية لمدّة 15 شهراً، وستقلق بشأن مصير الذين ما زالوا في الأسر.

بالنسبة لترامب، الذي يزعم بالفعل أنّ وقف إطلاق النار هو أوّل نجاح لرئاسته، فإنّ الحقيقة المحرجة هي أنّه أصبح الآن مقيّداً بالمسؤولية عن مصير الاتّفاق

سيأسف العديد من الإسرائيليين على إطلاق سراح الفلسطينيين المسجونين، الذين من المحتمل أن يكون بعضهم قد ارتكبوا أعمال عنف ضدّ الإسرائيليين، ويتساءلون عمّا إذا كانوا سيعودون إلى تنفيذ أعمال إرهابية. ومن المؤكّد تقريباً أنّ السياسة الإسرائيلية ستصبح أكثر اضطراباً وبلا استقرار، وسط تهديدات اليمين المتطرّف بالخروج من الائتلاف الحاكم اعتراضاً على مثل هذا الاتّفاق.

فرصة أمام حماس

ستستفيد حماس من فترة الهدنة في الحرب التي استنزفت صفوفها بشدّة. وإذا أتيحت الفرصة للفلسطينيين لإعادة بناء حياتهم، فقد تعيد “حماس” أيضاً بناء نفسها من خلال إعادة بناء جيشها وأسلحتها وتجنيد مقاتلين يحلّون محلّ الآلاف الذين تزعم إسرائيل أنّها أخرجتهم من ساحة المعركة. وعلى الرغم من الضربة الشديدة التي تلقّتها حماس، إلّا أنّها نجت من الهجوم الإسرائيلي، ومن شبه المؤكّد أنّها ستستمرّ كحركة تمرّد. في الواقع، سيكشف هذا الاتّفاق عن خواء رؤية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المزعومة للنصر الكامل على حماس.

أمّا سكّان غزة فيواجهون كارثة إنسانية مرعبة أصابت جيلاً بأكمله بالصدمة. وفقاً لوزارة الصحّة التي تسيطر عليها حماس، قتل أكثر من 46,600 فلسطيني في غزة منذ بدء الحرب، ولو أنّها لا تميّز بين المقاتلين والمدنيين. لقد أدّت الحرب إلى معاناة ومصاعب هائلة في القطاع: مجاعة ونقص حادّ في المياه والرعاية الصحّية، وتدمير مساحات شاسعة من المساكن والبنية التحتية.

يمكن لبايدن أن يشعر ببعض الارتياح من حقيقة أنّ وقف إطلاق النار، الذي استعصى عليه لفترة طويلة، قد تحقّق أخيراً، وأنّ المزيد من الرهائن، وبينهم عدد من الأميركيين، سيتمّ إطلاق سراحهم الآن. لكن ما يلوح فوق إنجاز اللحظة الأخيرة هذا، هو صورة الرئيس المنتخب الذي وضع نفسه في موقف يسمح له بالحصول على الفضل في الاتّفاق.

بعد ستّة عشر يوماً من بدء المرحلة الأولى، من المفترض أن تبدأ المفاوضات بشأن إعادة الرهائن الباقين، وأن تنسحب إسرائيل من غزة

يبدو أنّ تهديد ترامب بأنّ “الجحيم سيشتعل” إذا لم يتمّ التوصّل إلى اتّفاق قبل تولّيه منصبه قد أثمر، إذ أفادت التقارير أنّ مبعوثه إلى الشرق الأوسط ضغط بشدّة على نتنياهو للتوصّل إلى صفقة، فاستجاب نتنياهو.

لكي نكون منصفين، فإنّ درجة التعاون بين الإدارتين الأميركيّتين، المنتهية ولايتها والمقبلة، بشأن هذه القضية، كانت استثنائية. والواقع أنّه استناداً إلى نصف قرن من الخدمة الحكومية المشتركة، لا نعرف سابقة حتى الآن لرئيس منتخب ومبعوثه غير الرسمي يلعبان مثل هذا الدور الوثيق والعلني في مفاوضات رفيعة المستوى بدعم كامل من رئيس ما زال في منصبه.

نتنياهو حريص على ترامب

ربّما يكون نتنياهو، الحريص على الحفاظ على ترامب في صفّه والمصمّم على كسب الدعم لسياسة إسرائيلية أكثر صرامة ضدّ البرنامج النووي الإيراني، من بين قضايا أخرى، قد قرّر منحه انتصاراً قبل تنصيبه. وربّما حسب أنّ تجاهل ترامب سيكون أصعب وأكثر تكلفة من عادته في تجاهل إدارة بايدن.

سيكون نجاح الاتّفاق رهناً بسياسات ترامب رئيساً. فالعملية الآن باتت ملكه: إعادة جميع الرهائن، والإفراج عن المزيد من السجناء الفلسطينيين، وتحويل وقف إطلاق النار لمدّة ستّة أسابيع إلى نهاية للحرب. كلّ هذا سيشكّل تحدّياً سيحدّد فشله أو نجاحه ما إذا كان الاتّفاق هدنة بين جولات وحسب أم مساراً حقيقياً نحو السلام.

سيأسف العديد من الإسرائيليين على إطلاق سراح الفلسطينيين المسجونين، الذين من المحتمل أن يكون بعضهم قد ارتكبوا أعمال عنف ضدّ الإسرائيليين

بعد ستّة عشر يوماً من بدء المرحلة الأولى، من المفترض أن تبدأ المفاوضات بشأن إعادة الرهائن الباقين، وأن تنسحب إسرائيل من غزّة. هنا قد تكون الأهداف النهائية لإسرائيل وحماس متعارضة: فحماس لن تتخلّى عن الرهائن الباقين، وهم ورقتها الوحيدة، من دون التزام إسرائيل إنهاء الحرب والانسحاب من غزة. ولن يوافق نتنياهو، الذي يخشى من ادّعاء حماس النصر ويشعر بالقلق إزاء مستقبله السياسي، ما لم يتمّ إيجاد وسيلة ما لإنشاء قوّة أمنيّة دولية أو إقليمية تتمتّع بقدرة مؤكّدة على منع حماس من إعادة التسلّح. حتى في هذه الحالة لا بدّ لأيّ انسحاب إسرائيلي كامل أن يكون تدريجياً ومرتبطاً بأداء القوّة الأمنيّة.

العودة إلى القتال صعبة

من الممكن، بعد ستّة أسابيع من الهدوء وتدفّق المساعدات غير المقيّدة إلى غزة، أن تجد كلّ من إسرائيل وحماس أنّ من الصعب أو المكلف للغاية العودة إلى القتال. لكن يصعب تصديق أنّ نتنياهو سيوقف الحرب ما دامت حماس تشكّل تمرّداً مسلّحاً وقوّة سياسية. وقد يقرّر ترامب الانسحاب وإلقاء اللوم على إسرائيل وحماس في الفشل.

لكن إذا كان مهتمّاً باتّفاقية تطبيع بين إسرائيل والسعودية وجائزة نوبل للسلام، أو حتّى إعادة ضبط “اليوم التالي” في غزة وحسب، فهذا يعني أنّه يتعيّن عليه التعامل مع مجموعة من القضايا المعقّدة، بما في ذلك السلطة الفلسطينية غير الصالحة، والأمن، والحكم، وإعادة الإعمار في غزة، وحلّ الدولتين الذي يجعله حتماً في صراع مع نتنياهو وحكومته اليمينية.

تنصّ المرحلة الأولى من الاتّفاق على إطلاق سراح 33 من حوالي 100 رهينة ما زالوا محتجزين في غزة

في الواقع، أصبحت شروط التطبيع التي وضعتها المملكة العربية السعودية أكثر صرامة إلى حدّ كبير، الأمر الذي قد يتطلّب التزاماً إسرائيلياً بإقامة دولة فلسطينية وخطوات ملموسة في هذا الاتّجاه.

هل تقود هذه الصفقة الجديدة إلى طريق مسدود للمفاوضات؟ أم قد توفّر مساراً للمضيّ قدماً للإسرائيليين والفلسطينيين؟ وهل يؤمل ظهور شيء أفضل من هذه الحرب؟

الجواب هو “لا” إذا اقتصر تصوّر ترامب والقادة الإقليميين على إدارة الصراع وحسب. إنّ أيّ إمكانية لإيجاد مسار يؤدّي إلى سلام دائم ستعتمد على قرار القادة الإسرائيليين والفلسطينيين بأن يكونوا سادة سياساتهم لا أسرى أيديولوجياتهم، وأن يكونوا على استعداد وقادرين على تحديد مستقبل أفضل على أساس رؤية دولتين لشعبين. ستعتمد أيضاً على رئيس أميركي مصمّم ومثابر ومبدع، يعمل جنباً إلى جنب مع الدول العربية الرئيسية والمجتمع الدولي، لمساعدة الإسرائيليين والفلسطينيين على تحقيق هذا الهدف.

المصدر: أساس ميديا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى