طُويت الصحائف… حساب المرابحة والبيان الختامي العربي

صقر أبو فخر

مع التوصل إلى اتفاق وقف النار في قطاع غزّة (15/ 1/ 2025) يكون السوار الجيوستراتيجي قد التحمت حلقته حول المشرق العربي كلّه، وكان سبقه إلى ذلك وقف إطلاق النار في لبنان (27/11/2024)، ثمّ سقوط النظام السوري على النحو الذي علمتم وذقتم (8/12/2024). ولا ريب أن سقوط نظام بشّار الأسد كان الحاسم في التداعيات التي ستلحقه مثل إرغام إيران على العودة إلى نطاقها القومي، وتفكيك قاعدتي حميميم وطرطوس الروسيَّتين. وهذه الأمور مجتمعة، بما في ذلك استعادة الحياة السياسية في لبنان بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، واختيار رئيس ممتاز للحكومة، تعني، من منظار استراتيجي، أن الحقبة المتفجّرة التي انبثقت في الخامس من يونيو/ حزيران 1967 قد طُويت تماماً في 15 يناير/ كانون الثاني 2025. ومن الواضح، إلى حدّ كبير من الوضوح، أن المنطقة العربية كانت قد وقعت بكاملها فوق رقعة الشطرنج في ذروة الحرب الباردة بين قطبَي العالم آنذاك، أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وكانت صورتُها آنذاك تبدو كأنّها مُجرَّد أحجار وبيادق وملوك يتحرّكون بين الأسود والأبيض. سورية، على سبيل المثال، كانت حليفةً للاتحاد السوفييتي قبل هزيمة 1967، لكن تركيا عدنان مندريس وعصمت إينونو وسليمان ديميريل وتورغوت أوزال، كانت تربض في حدودها الشمالية، وتتحالف مع الولايات المتحدة. والعراق المتحالف مع الإتحاد السوفييتي كذلك، كانت إيران الشاهنشاهية الحليفة للولايات المتحدة تجثم على ظهره كطائر الرّخ. ومصر جمال عبد الناصر الحليفة للاتحاد السوفييتي، ولا سيّما بعد العدوان الثلاثي عليها في سنة 1956، كانت في خاصرتها شوكتان، السعودية المستريحة عند البحر الأحمر حتى تخوم باب المندب، وإثيوبيا بزعامة الأمبراطور هيلاسيلاسي الرابضة على مجرى النيل، والاثنتان حليفتان للولايات المتحدة (في ما بعد صارت مصر في عهد أنور السادات حليفةً لأميركا، فباتت ليبيا في عهد معمّر القذافي حليفةً للاتحاد السوفييتي).

حُسم الأمر على ما يبدو، وصار المشرق العربي في قبضة الغرب وتحت بنادقه

وكانت الجزائر مناصرةً لمصر وللاتحاد السوفييتي، فيما المغرب بقي ثابتاً على ولائه لفرنسا وللولايات المتحدة معاً. ولأن السعودية حليفةٌ لأميركا، كان لا بدّ أن يكون اليمن الجنوبي حليفاً للاتحاد السوفييتي. وسلطنة عُمان المتحالفة مع الغرب الأميركي – البريطاني كان عليها أن تتحمّل تبعات ثورة ظفار الصديقة للاتحاد السوفييتي، التي اندلعت في سنة 1965. أمّا إسرائيل فاليد الضاربة والقاعدة المتقدّمة والثروة الاستراتيجية التي لا تضاهى للولايات المتحدة، وسيكون الجزء الجنوبي من لبنان حليفاً لليسار وللاتحاد السوفييتي، والجزء الشمالي معادياً لهما، الأمر الذي يعكس حدّة الانقسام الأهلي الطائفي في لبنان، الذي أدّى إلى إشعال حرب أهلية مديدة ها نحن نستعيدها ونتذكّرها اليوم بعد خمسين سنة على بدايتها. وهذه اللوحة السياسية ليست مرسومةً سلفاً البتّة، إلا أن منطق الجغرافيا السياسية وتوازناتها وإرادة صانعي القرارات والمصالح الأمنية ستفضي بالضرورة إلى مثل هذه اللوحة بتشكيلاتها المتنوعة وألوانها المتنافرة.
كلّ ميدان إذاً وله في جواره ميدان نقيض، هذه هي رقعة الشطرنج التي دامت قرابة الستّين سنة أو أزيد. أمّا الآن، فقد انتهى زمن الأسود والأبيض، وباتت الرقعة كلّها من لون واحد، حتى لو كانت الألوان الأخرى تلوح هنا وهناك كالرمادي مثلاً. والمشهود أن جمال عبد الناصر، ومعه سورية، ردّ على هزيمة 1967 بحرب الاستنزاف، وانصرف إلى دعم المقاومة الفلسطينية، وحركة فتح بالتحديد، لمزيد من استنزاف الاحتلال الإسرائيلي، كي يتمكن من إعادة بناء الجيش المصري، الذي لم يلبث، ولو بعد وفاته بثلاث سنوات، أن خاض حرب أكتوبر (1973). وبهذا المعنى لم تكن هزيمة 1967، على قساوتها وآثارها الكارثية، ساحقة ماحقة ألبتّة، إذ إنها أطلقت القدرات الكامنة للمقاومة الفلسطينية، وحرّرتها من قيودها، وطيّرت في سماء العالم العربي حيويةً فكريةً وسياسيةً هائلةً كانت تتطلّع إلى نقد السياسة، والأحزاب السياسية، وإلى الإجابة عن كيفية الردّ على الهزيمة. ولم تتمكّن الولايات المتحدة وإسرائيل، في خضمّ تلك الحيوية، من تطويع الإرادات السياسية لبعض الدول العربية تطويعاً تاماً.
منذ نحو ستّين عاماً أو أكثر، أي منذ انفكاك الوحدة السورية – المصرية (28/9/1961)، جرت مياه كثيرة تحت أساسات البيوت العربية وفوق سطوحها مثل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1964، وانطلاق الكفاح المسلّح في جنوب اليمن ضدّ الاحتلال البريطاني (14/10/1963)، وانطلاقة العمل المسلّح لحركة فتح (1/1/1965)، وحرب 1967، ومعركة الكرامة في الأردن (21/3/1968)، وحرب 6 أكتوبر (1973)، والحرب الأهلية اللبنانية (13/4/1975)، والزيارة المشؤومة للرئيس المصري أنور السادات إلى القدس (19/11/1977)، وحرب 6 حزيران (1982)، حتى الانتفاضة الفلسطينية الأولى (8/12/1987)، واجتياح العراق للكويت (2/8/1990)، ثمّ مؤتمر مدريد للسلام (30/10/1991)، واتفاق أوسلو (13/9/1993)، والعشرية السوداء في الجزائر، التي أنشبت أظفارها في هذا البلد بدءاً من سنة 1992، صعودًا إلى انفصال جنوب السودان (9/7/2011)، واشتعال حركات الاحتجاج في بعض الدول العربية في ما سُمّيَ “ثورات الربيع العربي”.
وهذه الوقائع، وغيرها أيضاً، كانت اختلاجات ضعيفة أحياناً، ومحطّات صاخبة أحياناً أخرى في طريقٍ طويل من التحوّلات السياسية التي شهدت، في مرّات قليلة، محاولاتٍ للتملّص من أسر الغرب الإمبريالي. والآن، حُسم الأمر على ما يبدو، وصار المشرق العربي في قبضة الغرب وتحت بنادقه، وسيحكمه الوكلاء بلا اعتراض جدّي لحقبة مديدة، إلا إذا كانت هناك خفايا لا تظهر ملامحها تماماً. وهذا المشرق العربي، بحسب الوقائع المرئية، لن يكون للروس فيها موطئ قدم، والقاعدتان الروسيّتان في حميميم وطرطوس في سورية ستُخلَيان بالتدريج، الأمر الذي يعني (لكاتب هذه السطور على الأقل) أن ستّين سنة من الصراعات المحتدمة فوق رقعة الشطرنج القديمة قد خُتمت بإعلان انتصار الإمبريالية الأميركية وتوابعها، وفي مقدّم أولئك التوابع، إسرائيل. أنه عصر الـ Pax Americana (السلام الأميركي).

إلى متى ستمتدّ هذه الحقبة الأميركية والتركية والإسرائيلية الجديدة في هيمنتها على المشرق العربي؟

والظن اليوم أن أميرين على المشرق العربي، يختلفان ولا يختلفان، يتنافران ويتقاطعان، هما بنيامين نتنياهو، ورجب طيب أردوغان. وهناك ملك يُمسك برقبتي الأميرَين هو دونالد ترامب (أو الولايات المتحدة). ولا أجازف في الاستنتاج إذا قُلت إنّ لا أحد سيقول “لا” لأميركا. وحتى الحكم القائم في إيران، ومعه مشروعه النووي، بات على محكّ الهلاك، وستلحق به توابعه مثل سلطة الحوثيين في اليمن، وسلطة المليشيات في العراق التي ستنكمش قوتها وينحسر تأثيرها بالتأكيد. والسؤال اللجوج في إلحاحه هو: إلى متى ستمتدّ هذه الحقبة الأميركية والتركية والإسرائيلية الجديدة في هيمنتها على المشرق العربي؟ إن إسرائيل تريد أن تضمن أمنها القومي لمائة سنة مقبلة، وتركيا تريد أن تمحو المطالب الكردية والسورية (لواء إسكندرون) لمائة سنة أخرى. وسورية الجديدة التي تنبثق الآن مخاضاً عسيراً لا تريد أن تحارب في سبيل إستعادة أراضيها المحتلّة، وهي (في أيّ حال) غير قادرة بعد دمار جيشها ومؤسّساته وثكناته وتجهيزاته ومقارّه وأسلحته، ولم تكن قادرة على القتال منذ زمن بعيد حتى قبل سقوط النظام. ومصر بدورها خارج هذا التفكير كلّه. أمّا بقية الدول العربية، بما فيها العراق (بروسيا العرب قديماً)، فلا تريد، في المبتدأ والمنتهى، غير “السترة” والانصراف إلى أمورها الجارية، ونسيان الأحواز حتى باسمها الفارسي: عربستان أو خوزستان.
لقد غمرتنا البهجة لسقوط النظام السوري السابق، وامتلأت أفئدتنا بالمرح والحبور والسرور، غير أننا لم نلبث أن وقعنا في شرك الأمل والقلق في الآن نفسه، أو في فخ التفاؤل والتشاؤم على طريقة الإيطالي أنطونيو غرامشي: تفاؤل الإرادة وتشاؤم العقل. فالإرادة ترنو إلى دولة ديمقراطية حرّة (نعم حرّة) من دون قمع وعسف وإكراه وامتهان لكرامة الانسان، وتتطلّع إلى الحرّية بمعناها المزدوج: حرّية الفرد والجماعة، وتحرير الأرض من الاحتلال، والإبقاء على شعلة التحرّر القومي، وفي مقدّم ذلك فلسطين؛ أي استمرار الموقف السياسي الذي لا يتنكر للكلام على تحرير الجولان وجبل الشيخ والضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزّة. أمّا العقل المتشائم فهو يسأل ويتحرّق: إذا كان هناك من كان يرفع كتفيه رفضاً للهيمنة الإمبريالية (جمال عبد الناصر مثلاً)، فالمطلوب من الجميع الآن أن يخفضهما وأن يُطأطئ رأسه للاستحالة الواقعية. وأتساءل: هل يمتلك تصوّري العابس هذا قدرة تفسيرية لأحوالنا الراهنة؟ إنني لفي شكّ وعدم يقين، وحيرة واضطراب معرفي.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى