من البداهة أن مراجعات عديدة ومخصّصة يجب أن تحدُث لما جرى منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، وهناك مهمّات إغاثية وإنسانية عاجلة في غزّة تحتاج بحثاً منفصلاً، لكن هناك مهمتَين عاجلتَين استراتيجيتَين: كيف تتحوّل “هدنة” الـ42 يوماً إلى وقف دائم لإطلاق النار. والاستراتيجية وأدوات العمل الفلسطينية بعد ذلك، خصوصاً من حيث نوع المقاومة وأطرها، وعلاقتها بإعادة الوحدة والبناء السياسيين.
هناك معضلتان أساسيتان برزتا في المرحلة السابقة، منذ ما قبل “7 أكتوبر”: أولاهما معضلة النظام السياسي الفلسطيني المعطّل بسبب أزمتي الانقسام وعدم التجديد الديمقراطي، وثانيتهما عدم اختيار أدوات المقاومة الملائمة وتكتيكاتها. وربّما يمكن القول في موضوع المقاومة إنّ هناك انقساماً حادّاً بين نهج التركيز على بقاء ووحدانية السلطة، وبالتالي رفض كثير من أشكال وأنواع المقاومة، يقابل ذلك نهج العسكرة شبه النظامية، مع تحميل قطاع غزّة عبئاً كبيراً في حمل القضية الوطنية، ومحاولات بناء المجموعات المسلّحة الواسعة نسبياً في الضفة الغربية، خصوصاً جنين وطولكرم ونابلس.
يشير احتفاظ حركة حماس بعشرات الأسرى، أحياءً أو أمواتاً، طوال هذه الأشهر، وإخراجهم في اليوم الأول من الهدنة، إلى استمرار وجود قدر من بنية مسلّحة متماسكة
يشير احتفاظ حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعشرات الأسرى، أحياءً أو أمواتاً، طوال هذه الأشهر، والقدرة على إخراجهم في اليوم الأول من الهدنة وبدء صفقات تبادل الأسرى، وسط مظاهر من مسلّحين ملثّمين على نحو منسّق ومنضبط، إلى استمرار وجود قدر من بنية مسلّحة متماسكة، من دون أن يلغي هذا الخسائر الفادحة التي تعرّضت لها كتائب عزّ الدين القسّام، ومن دون أن يقلّل هذا من فداحة الخسارة الوطنية العامّة عبر الخسائر البشرية والمادية الهائلة، والتي يجب ألا تتكرّر. ومن هنا، فإنّ السؤال إذا كانت “قوات القسّام” ستستمر في الوجود في القطاع بعكس كلّ الرهانات الإسرائيلية والدوليّة، وحتى بعض التوقّعات العربية، فإنّ وظيفة هذا السلاح وطريقة استخدامه يجب أن تخضع لمراجعة صريحة وجريئة، وكذلك علاقته بإدارة الحياة في القطاع.
لعلّ المزاج الشعبي لدى شرائحَ شعبية عديدة، خصوصاً خارج غزّة، في السنوات الفائتة، الذي لاقى نوعاً من التجاوب أو التشجيع من قبل قيادة حركة حماس في قطاع غزّة، كان أنّ صواريخ غزّة يمكن أن تستخدم فعلاً سنداً للفلسطينيين الصامدين في المسجد الأقصى، وحي الشيخ جرّاح في القدس، وحتى لعناصر كتائب جنين ونابلس وطولكرم، والفارعة وغيرها. وممّا يعبر عن هذا المزاج الهتافُ الشهير “يا غزّة يلّا منشان الله”، وهو هتافٌ يتناسى أن القطاع تحت الحصار ويعاني مشكلات حياتية عديدة، ويتذكّر فقط الصواريخ ويريد، بحسب الهتاف الثاني الشهير “حطّ السيف قبال السيف حنا رجال محمد ضيف”، أن يضع “سيف محمد ضيف”، القائد العسكري لحركة حماس، في مقابل السيف الإسرائيلي، وهو ما حدث فعلاً وسمّته إسرائيل “عملية السيوف الحديدية”.
كان السؤال الحقيقي، حتى قبل “7 أكتوبر”، كيف ستوقف صواريخ “حماس” الهجمات على المسجد الأقصى، وتوقف مصادرة البيوت والأراضي في الضفة والقدس؟ وكانت هناك حسابات اتضح أنّها خاطئة، منها أنّ إسرائيل تريد تحاشي دخول حرب في غزّة، ومع غزّة، وأنّ هذا قد يؤدّي إلى ردع الاحتلال في القدس، كما كان هناك تعويلٌ على أن تحرّكاً من غزّة سيؤدّي إلى تحريك باقي الساحات والجبهات، وتوحيدها، فتحدُث هبّة شاملة، وأنّ إسرائيل ستخشى الانتفاضة الجديدة، وهذا لم يحدُث. الأسرى جزء أساس من أهداف “طوفان الأقصى”، لكنّهم ليسوا العامل أو الهدف الوحيد. والآن إذا جرت عملية تبادل الأسرى تكون مراجعة دور (وليس وجود أو شرعية) السلاح أكثر إلحاحاً.
السؤال الذي كان يُطرح: لماذا لا توجد في الضفة الغربية والقدس مقوّمات مقاومة شعبية أو شاملة تتولّى المواجهة هناك؟ وهذا ليس من باب الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزّة نضالياً، ولكن لأنّ أدوات المقاومة المطلوبة مختلفة، فاستخدام الصاروخ في نصرة الشيخ جراح مثلاً (كما حدث في 2021)، يقوم على فرض معقّد، أن الضغط العام على إسرائيل سيؤدّي إلى تغير في عقلية المستوطنين وقدراتهم والحربة المتاحة لهم من المؤسّسة الإسرائيلية، وهو أمر يفتقد إلى الواقعية.
والأسئلة المتعلّقة بغزّة هي ذاتها المطروحة في جنين والضفة الغربية، هل التشكيلات المسلّحة العلنية أو شبه العلنية، هي الإطار المقاوم الملائم؟ ولا يجب أن يقود هذا التساؤل إلى استنتاج أن المطلوب وقف المقاومة، لكن حتى أشد مؤيّدي العمل المسلّح لديهم تساؤلات: هل فعلاً “الكتائب” الموسّعة المكشوفة هي الخيار الأنسب؟ أم أنّ واقع الاحتلال يتطلّب عملاً سرّياً، بمجموعات قليلة العدد، ونهج مقاومة شامل مختلف وفردي؟
مع تذكّر أنّ مراجعة دور المقاومة وأدواتها يجب أن تتّصل بمراجعة الإطار السياسي، وحتى الاجتماعي الأشمل، لكن ربّما يجب الوقوف بجرأة والاتفاق انّ سلاح قطاع غزّة، إنّ بقي موجوداً، يجب أن يكون سلاحاً دفاعيّاً للردع، وقبول مثل هذا المنطق وإعلانه ربّما يُسهّل الوصول إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار، ويساعد حتى في إعادة ترتيب البيت الفلسطيني. أمّا توقّع أن تعود غزّة إلى الإسناد العسكري لمختلف القضايا فهو أمر يبدو أنّه تعويل على نوع واحد من القوة، وتحميل جزء من الشعب الفلسطيني وزر كلّ القضية، وهو ليس أمراً ظالماً لهذا الجزء فقط، ولكنّه لن يحقّق أهدافه أيضاً، وعدم عودة الدور العسكري الهجومي لغزّة يجب أن يترافق ببدائل في باقي فلسطين، وبأدوات مختلفة ليست عسكريةً فقط.
العمل لنهج شعبي فلسطيني جديد ومقاومة مختلفة، مع مراجعة لأدوات العمل تضع تصوراً عقلانياً للمقاومة، مهمّات لا تحتمل التأجيل
كما في غزّة، فإنّ حصيلة تجربة التشكيلات العلنية للمقاومة في الضفة يجب أن تخضع لمراجعة دقيقة ومتأنّية، وبما أنّ القيادة الفلسطينية الرسمية لا تنتهج نهج الحوار المستمرّ مع فصائل المقاومة الأخرى، فلا تقوم مثلاً بحوار جدّي مع فصيل مثل حركة الجهاد الإسلامي لمراجعة دور التشكيلات في جنين التي تتلقّى دعمها، فإنّ حواراً جدّياً بين باقي الفصائل وقوى الشعب الفلسطيني، التي تملك بالفعل الكثير من مفاتيح العمل المقاوم وحتى الشعبي، أصبحت مطلباً جدّياً، وهو مطلب لا ينتظر حتى إصلاح النظام السياسي الفلسطيني، واستعادة منظمة التحرير الفلسطينية وهيئاتها لدورها، مع محورية وأهمية ومصيرية هذا كلّه (لكنّه موضوع مختلف).
العودة للتفكير بمفهوم المقاومة الشاملة، والمجتمع المقاوم اقتصادياً، وتعليمياً، وسياسياً، وإعلامياً، وعودة التركيز في بناء الإنسان وشخصيته المقاومة، ودور القطاع الأهلي نضالياً، هي أولوية قد تبدو للبعض ترفاً وتحتاج إلى وقت طويل، ولكن الحقيقة أنّ قطاع غزّة وأهله يحتاجون لالتقاط الأنفاس الآن، وإذا كانت خسائرهم غير قابلةٍ للتعويض أو حتى للعزاء، فعلى الأقلّ تقليص خسائر ومعاناة من بقي منهم هي حتمية. في المقابل، فإنّ العمل لنهج شعبي جديد، ومقاومة مختلفة، مع مراجعة أدوات وأطر العمل، وتضع تصوراً متماسكاً وعقلانياً للمقاومة، مهمّات لا تحتمل التأجيل، وفي مقدّمة ذلك تحديد أن سلاح قطاع غزّة دفاعي، وأن وقف الاستيطان والضمّ في الضفة الغربية يحتاج مقاومةً فاعلةً لا تحتمل الاكتفاء بالحديث عن وحدانية السلاح، كما لا تحتمل التشكيلات شبه النظامية، ولا تستقيم من دون حالة شعبية وسياسية مختلفة.
المصدر: العربي الجديد