سجناء صيدنايا الجهاديون بين صورتين

حسام جزماتي

في العقد الأول من حكم بشار الأسد استعاد ناشطو حقوق الإنسان في سوريا بعض أنفاس الحياة فأسسوا، رغم المضايقات الأمنية التي لم تتوقف، جمعيات ومنظمات، ودافعوا عن المعتقلين السياسيين أمام «محكمة أمن الدولة العليا»، ونقلوا ما كان يجري في داخلها إلى الإعلام. والملاحظ في التقارير والبيانات التي صدرت عنهم في تلك المرحلة ورود أسماء عابرة سيكون لها شأن لافت بعد اندلاع الثورة.

ففي أحد التقارير السنوية، وتحت عنوان «نماذج من الاعتقالات العشوائية»، ورد أن أجهزة الأمن في اللاذقية اعتقلت «الطالب الجامعي» محمود علي طيبا دون معرفة الأسباب. علينا أن ننتظر سنوات حتى يظهر الرجل بلقب الشيخ «أبي عبد الملك الشرعي» البارز في «حركة أحرار الشام الإسلامية» ويُقتل، مع رفاقه من قيادات الجماعة في التفجير الشهير في عام 2014، ثم تظهر ترجمته؛ لنعرف أنه طالب في «الجامعة الإسلامية» بالمدينة المنورة حيث «كان مهتماً بدعوة الطلبة، فانتشر على يديه الفكر الجهادي بين مختلف الجنسيات في الجامعة، والتحق كثير من الطلاب بالجهاد في ساحة العراق»، كما يقول كاتب سيرته الذي يتابع أن المخابرات السعودية استدعت طيبا للتحقيق معه فعاد إلى سوريا حيث اعتقل وحُكم عليه بسبع سنوات قضى أكثرها في سجن صيدنايا.

تحت العنوان نفسه يذكر التقرير أنّ أجهزة الأمن في حماة اعتقلت «باحثين ومتخصصين في الدراسات الشرعية» نعثر بينهم على اسم محمد عبد الوهاب العمادي، ممرض التخدير في المشفى الوطني كما توضح جمعية حقوقية أخرى. وكذلك سينال العمادي حكماً بالسجن لخمس سنوات، ما عدّته لجنة لحقوق الإنسان حكماً جائراً بسبب صدوره عن محكمة استثنائية تتلقى تعليماتها من أجهزة المخابرات التي تعتقل المواطنين بصورة تعسفية خارج إطار القانون. وأيضاً وصل العمادي إلى سجن صيدنايا حيث عُرف بكنية أبي عبيدة. ثم اشتهر بلقب أبي جابر الحموي بعد دخوله «جبهة النصرة» التي استلم هيئتها الشرعية في حلب. وفي عام 2017 قُتل بقصف جوي يُعتقد أنه أميركي وهو في منصب القاضي الشرعي الذي يمثل «هيئة تحرير الشام» في محكمة «جيش الفتح» بإدلب.

قل مثل ذلك عن الجهادي المثير للجدل نديم سهيل بالوش. إذ أوردت إحدى المنظمات المحلية لحقوق الإنسان خبر الحكم عليه بالسجن عشر سنوات، ستقوده إلى صيدنايا أيضاً، بصيغة أن «محكمة أمن الدولة» حكمت على أربعة طلاب جامعيين من محافظة اللاذقية بتهم إسلامية، منهم بالوش «الطالب في هندسة الميكانيك»، وعلى الثلاثة أبناء قضيته بالسجن سبع سنوات. رغم أن بالوش كان قد انخرط بالفعل في محطة خارجية من «تنظيم القاعدة» من خلال علاقته الوطيدة وقتئذ بالجهادي السوري لؤي السقا.

وسوى حالات الأفراد هذه، التي يمكن التقاط الكثير منها بمراجعة سجلات المحاكم السياسية في ذلك العِقد، مالت منظمات حقوق الإنسان العاملة في البلاد إلى تكذيب الحوادث التي كانت السلطة تنسبها إلى مجموعات جهادية محلية هنا وهناك. وعدّت الحملات التي تحدث بعدها مجرد إجراءات قمعية تعسفية تطول معتقلين إسلاميين لا توجد «مؤشرات تدل على وجود روابط تنظيمية سياسية فيما بينهم»، كما عبّرت إحدى هذه المؤسسات عند الحديث عن تنظيم «جند الشام» الذي ساد في الأوساط السياسية السورية المعارضة إنكار وجوده، كما هي الحال مع تنظيمات جرى الإعلان عن كشفها قبله أو بعده. لكن الذين اعتقلوا في سجن صيدنايا في تلك المدة، وخاصة زمن استعصائه الشهير في عام 2008، التقوا فعلياً بأبناء هذا التنظيم الذي كان كبيراً وجرى التوسع في احتجاز أعضائه ومحيطهم الاجتماعي لمنافسة أمنية بين شعبتي المخابرات العسكرية والأمن السياسي.

والحق أنّ أسباباً وراء هذه الالتباسات؛ أولها بالتأكيد عدم الثقة بالنظام وبنتائج تحقيقاته الأمنية وأحكام قضائه السياسي خاصة، وغياب الشفافية في الاطلاع على كامل ملفات القضية وحرية الحصول على المعلومات من المتهم. ولذلك لجأت الجمعيات الحقوقية إلى الإنكار التام، المستند إلى أقوال خائفة صدرت عن المعتقل أو عن ذويه، لمواجهة فيض التأويلات المفرطة التي تعدّ التجمع المتواتر انتساباً إلى جمعية تهدف إلى تغيير كيان الدولة الاقتصادي والاجتماعي بالعنف، والتعبير عن رأي معارض وهناً لعزيمة الأمة، إلى آخر سجل الجرائم المزعومة الواقعة على أمن الدولة.

لم يكن بالإمكان، إذاً، أن يصدّق المحامون على أي جزء من التهم الموجهة إلى موكليهم، لئلا يسلموهم لافتراس القاضي فايز النوري، الذي يحكم عليهم بناء على الاعترافات المأخوذة في أجهزة الأمن على كل حال، مما أسهم التعذيب في انتزاعه. فضلاً عن أن هؤلاء المحامين كانوا ينظرون إلى مهمتهم الحالية كامتداد حقوقي لنشاط سياسي سابق أو مواز.

يمكن فهم كل ذلك في سياقه دون تسويغه بالضرورة، ودون تبرير الاعتقالات وما يتلوها من تنكيل وأحكام غير قانونية بالطبع؛ لكن ما يثير الاستغراب هو أن هذه البيئة نفسها من ناشطي المجتمع السياسي والحقوقي والمدني هي من سارع إلى الاعتراض على الإفراج عن سجناء صيدنايا الجهاديين، ونظرت إليه على أنه مؤامرة خبيثة من النظام تهدف إلى أسلمة الثورة وتسليحها وحرفها عن مسارها والقضاء عليها عبر إطلاق هؤلاء الذين أصبحوا، فجأة، رجالاً خطرين بسوابق جهادية إرهابية وخبرات تنظيمية عالية، بعد أن كانوا، من وجهة نظر الأشخاص أنفسهم، مجرد طلاب أبرياء وقعوا بالصدفة، أو بتقرير كيدي، في براثن الأمن!

وإذا قيل إن الجهاديين المفرج عنهم كانوا شباناً أغراراً عند الاعتقال واشتد عودهم أثناءه بفعل «صناعة الإرهاب» في صيدنايا فإن هذا لا يصح في حالة الأسماء التي ذكرناها، وغيرهم الكثير من أندادهم الذين كانوا شرعيين نشطين في السجن ثم حركيين فاعلين بعده.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى