لم يكن سقوط الأسد الفار إلى روسيا حدثاً عادياً كغيره من الرؤساء العرب السابقين، بل شكل مفصلاً تاريخياً سورياً وعربياً ودولياً. فبالنسبة لنا كسوريين، والحديث ذو ألم لا ينتهي، وهو الذي دمر سوريا وهجر سكانها، ومشاهد المعتقلين المحررين وحدها كافية لتتحدث عن مستوى إجرامه ونظامه غير المسبوق، فكيف وأنه استجلب غالبية غزاة الأرض من القوى الإقليمية والدولية ليبقى على كرسيه على جماجم السوريين. وسقوطه عربياً يعني إجلاء إيران من سوريا والعمل على استقرارها، ووقف تهريب المخدرات والكبتاغون إلى الخليج العربي، وتجنب الخليج والعرب عموماً مواجهة إيرانية كانت للأمس القريب محتملة. في حين تبرز من جديد مخاطر المعادلة الدولية التي أحاطت بسوريا بحكم حجم التدخلات العسكرية الروسية مقابل الأميركية في ظل وجود تركيا وإسرائيل وإيران، فهل تتغير المعادلة الروسية عالمياً بدءاً من سوريا؟
فمنذ عادت روسيا للعب دور محوري في المعادلات الدولية، والعالم يقف على حافة خطر نشوب حرب عالمية كبرى تهدد سطح الكوكب والسلام العالمي. بدأت من القرم عام 2014، وتلتها في سوريا العام 2015 بتدخلها العسكري المباشر ولعب دور رئيسي فيها وتغيير قواعدها كليةً. ومن ثم وصولها إلى قلب أوروبا في أوكرانيا عام 2022 لتضع كامل أوروبا والسلام العالمي تحت التهديد المباشر. وتتابع دورها الرئيسي في معظم العوالق الدولية وفق سياسة جيوبوليتيكية محدثة تسعى من خلالها لتستعيد حضورها وموقعها في القمة العالمية مرة أخرى.
مع تصريحات بوتين الأخيرة حول سوريا، والمتضمنة إمكانية تفاوضه على مواقعهم العسكرية في حميميم وطرطوس مع الحكومة الانتقالية، وما رافقها من تصريحات ميدفيدف بالتهديد باختفاء أوكرانيا ما لم تستسلم لروسيا، فثمة ما يشير لبلوغ الجيوبوليتيك الروسي الذي اعتمدته الأعوام السابقة لذروته. سواء من تأجيج الوضع الأوكراني أوروبياً السماح لأوكرانيا امتلاك أسلحة بعيدة المدى (تتجاوز 250 كم) قادرة على ضرب العمق الروسي؛ وفي المسألة السورية حيث تغيرت موازين القوة في الداخل السوري بعد سقوط النظام وكسر معادلات أستانا السابقة التركية الروسية الإيرانية حول خطوط التماس الدولية. فهل هذا يعني أن روسيا بلغت النهاية في قواعدها الجيوبوليتيكة؟
الجيوبوليتيك الروسي يعتمد جملة من المعايير العلمية الدولية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً مستقاة من معادلات الحرب العالمية الثانية، أبرز أسسه:
- التحالفات البعيدة لاستكمال محيطها الحيوي الأوراسي، وهذا ما تحاول فرضه بالقوة على أوروبا من بوابة أوكرانيا.
- الوصول للمياه الدافئة، خاصة بحري المتوسط والأسود، ووصلها بخطوط إمداد برية.
- استخدام القوة العسكرية في تحقيق أهدافها سواء بالهيمنة المباشرة أو بعقد صفقات تجنيب الخصوم تحت عنوان المصلحة المحضة. ففي سوريا تمركزت على البحر المتوسط بعمل عسكري واسع في الداخل السوري بالاتفاق المباشر مع نظامها الساقط، وبموازاته عقد صفقات أستانا الجيوعسكرية لضمان خطوطها البرية وتمركزها الجيوبوليتيكي. ومثله تماماً حين تمددها لأوكرانيا بقسمها الشرقي وبقاء المفاوضات الأوروبية خاصة الفرنسية والألمانية مفتوحة الخطوط.
- التهديد باستخدام الزر النووي وأثاره المرعبة على العالم لإملاء شروط جيوسياسية، ووضع الفيتو الدولي قيد التنفيذ المباشر في قرارات مجلس الأمن التي تتعارض مع مصالحها.
- إثارة الأزمات العالمية الحادة ومحاولة فرض إرادتها المفردة سواء في سوريا أو أوكرانيا ونتائجهما الكارثية لليوم. فهل يمكنها الاستمرار بهذه السياسة وفرض حضورها العالمي من خلال تخليها عن سوريا مقابل الاستفراد بأوكرانيا؟ ما يشبه تقديم تنازلات في ملف على حساب الآخر ضمن أهدافها الجيوبوليتيكية الأساسية.
خلال السنوات الماضية لم تتوقف التحذيرات العالمية من أخطار الفورة الروسبوتينية هذه، والتي أتت على لسان أشهر منظري ومخططي السياسات الاستراتيجية الأميركية والسياسة العالمية في العقود الماضية، هنري كيسنجر، وهو الذي كتب مبكراً في 2014 أن “طبول الحرب العالمية الثالثة تقرع ومصاب بالصمم من لا يسمعها”. في حين لم يتأخر ألكسندر دوغين، أشهر منظري الجيوبوليتيك الروسي، بتوقع حدوثها، وذلك في العام 2016. وفي الأمس القريب أعاد كيسنجر ومن خلفه كثير من سياسي العالم تحذيراتهم من شدة تأزم الوضع الأوكراني وضرورة الاستعجال بالتسوية الروسية الأوكرانية والإقرار بالوضع السياسي القائم تفادياً لمواجهة عالمية قيد النشوب، باتت مؤشراتها الأوروبية أكبر اليوم. يقابلها ممثلو السياسة الروسية بالجزم أن روسيا لن تنهزم في حرب أوكرانيا حتى وإن استخدمت الأسلحة النووية!
تصريحات مثيرة للرعب تخرج من أشهر قارئي السياسات العالمية ومحلليها ومن خلفهم مراكز دراساتهم الاستراتيجية كمركز كاتخيون الروسي، أو مركزي الدراسات الاستراتيجية ومركز راند الأميركيين، ولكنها باتت غير مستغربة! فالسلم العالمي اليوم قيد التهديد المباشر. خاصة وأن الروسبوتينية مصرة على تنفيذ وتطبيق نظرياتها الجيوبوليتيكة بالقوة العسكرية للعودة للقطبية العالمية كسابق عهدها أيام السوفييت. ويبدو أن مغامرتها فيها قد توصلها إلى آخر مداها، خاصة وأن أواخر إدارة بايدن الأميركية تسعى للتصعيد والتأجيج إزاءها مع تعالي الأصوات الأوروبية بضرورة لجم ووقف التمدد الروسي في أوكرانيا.
بالمقابل تحاول روسيا العمل على امتصاص المتغيرات الدولية وتجييرها لصالحها، سواء من محاولتها البحث عن ترسيم مناطق النفوذ في أوكرانيا وتثبيت شرقها تحت نفوذها، وما رافقها من تفاهمات مفصلية في الوضع السوري مع تركيا تسمح لها بالحفاظ على مصالحها الحيوية على الساحل السوري مقابل التخلي عن حماية بشار الأسد ونظامه، فكان سقوطه المدوي.
العالم اليوم يقف على فوهة بركان قابل للانفجار بكل الاتجاهات ووقوده الشعوب التي تحاول الحرية والاستقرار، ولكن سياسات الهيمنة والغطرسة أرادت عكس هذا وباتت قابلة لتفجير الكوكب برمته. ما يستوجب على البشرية بمدنيتها وعصريتها إعادة رؤيتها في مسارات السلم العالمي ونبذ سياسات العنف جميعها سواء الروسبوتينية أو العولمة الأميركية بالمقابل، والعمل الجاد والفعلي على استقرار سوريا ومنع المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان منذ 14 عام كبداية لمقاربتها في المسألة الأوكرانية وبالضرورة وقف العمل بالجيوبوليتيك الروسي من جذره.
خطر الجيوبوليتيك الروسي اليوم في ذروته كما كان إبان الحرب العالمية الثانية حين فعلته ألمانيا النازية. ففي حال افترضنا أنه مثل خطوة متقدمة في مواجهة التفرد الأميركي وإدارتها للشرعية الدولية بطريقتها، لكنه أتى من بوابة الحرب ذاتها. في حين لو أقامت روسيا تحالفاتها السياسية من خلال تفهم حاجيات شعوب المنطقة وتطلعاتها لبناء نماذج دولها العصرية واحترام تجاربها التاريخية والثورية الراهنة، واحترام القانون الدولي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، فلربما اختلف السياق العالمي برمته. وكنا شهدنا سقوط نظام الأسد منذ العام 2015 وقد وفر علينا كل مشاهد الرعب التي عشناها.
فهل نشهد نهاية للجيوبوليتيك الروسي قريباً بالعودة إلى قواعد السلم العالمي وضرورة حظره مرة أخرى من السياسات الدولية والذهاب باتجاه عالم متنوع ومتعدد الأقطاب أم سنشهد كارثة عالمية كبرى؟ سؤال برسم السياسات الدولية نهاية 2024 ومطلع 2025.
المصدر: تلفزيون سوريا