قبل ثمانية أعوام من الآن، كان الموت يطرق كل الأبواب شرقي حلب طرقاً بكل همجية ووحشية. كانت المجازر التي ارتكبتها قوات النظام والقصف الروسي وإيران وميليشياتها يومية ومهولة. أهدافهم الرئيسية كانت المستشفيات والمدارس وفرق الإنقاذ والمنازل. واشتدت وتكثفت مع إطباق الحصار على القسم الخارج عن سيطرة النظام من المدينة. كانت حلب المكان الأخطر في العالم كما وصفتها الصحف العالمية. لكن عملياً ليس كلها، إنما قسمها الشرقي فقط. وفي حين تناثرت إثر قذائف للنظام في حي جب القبة أشلاءٌ لعائلات حاولت العبور وسط حمام الدم هذا، أملاً في النجاة، نحو الأحياء الغربية للمدينة، كانت الحياة تبدو عادية في الطرف الآخر، لا تعكر عاديتها سوى أصوات القصف في الجوار. وفي حي الشعار في شارع بدد القصف ملامحه، عندما تدلى رأس عجوز على كرسيها المتحرك إلى الخلف بعد أن فارقت الحياة، استبشر آخرون على الضفة الأخرى من الموت بنصر حلب وبالخلاص. وحين اصطفت الحافلات الخضراء وسط شارع من ركام القصف لتهجير من تبقى على قيد الحياة من أبناء المدينة في قسمها الشرقي، رقص وغنى “أبناءٌ للمدينة أيضاً” على بعد أمتارٍ في قسمها الغربي فرحاً بـ “عودة حلب لأهلها”.
منذ أيام تحررت مدينة حلب بكاملها، بشرقها وغربها، وكان حدثاً مدوياً تلاه ما هو أعظم وأجل، إذ تسارعت أخبار التحرير لمدن وبلدات سورية عدة تباعاً حتى دخل الثوار مدن حماة ثم حمص ودمشق وأسقطوا نظام الأسد بعد 12 يوماً فقط من بدء معركة ردع العدوان. وفي الجمعة الأولى التي تلت سقوط النظام خرجت أمواجٌ هائلة من البشر احتفالاً بهذا النصر ملأت الساحات الرئيسية للمدن الكبرى المحررة على نحو غير مسبوق، بما في ذلك مدينة اللاذقية الواقعة في منطقة تعتبر معقلاً للنظام البائد وحاضنته. في حين خرجت أعداد متواضعة جداً بالمقارنة في مدينة حلب تجمعت في ساحة سعد الله الجابري.
في الأيام الأولى من معركة ردع العدوان التي تلت تحرير مدينة حلب وقبل دخول الثوار مدينة حماة، بدا المشهد في حلب مضطرباً، خاصة مع قيام قوات النظام بقصف مواقع في المدينة بالطائرات وقع على إثرها عشرات الضحايا. لم يغلب الفرح بتحرير المدينة على جميع من فيها، إذ تجهمت وجوه عديدة لدى دخول الفصائل المحررة وفر العديد من سكانها باتجاه حماة ليلاً، في حين انتظر آخرون عودة قوات النظام لبسط سيطرتها على المدينة وهو ما لم يحدث.
تُعيد إلى السطح النقاشات والسجالات الحاصلة الآن أسئلة الثورة الأولى حول هذه المدينة وعلاقتها المرتبكة بالثورة. هل ثارت مدينة حلب أم ثورت؟ وهل كان تحرير المدينة مدعاةً للفرح أم على النقيض منه في أذهان الحلبيين؟ ومن هم الحلبيون بالأمس واليوم؟
كتب حسام جزماتي ابن مدينة حلب قبل سنوات مقالاً يراه البعض قاسي اللهجة بعنوان “شهبا وش عملوا فيكي” قال فيه إن حلب وقفت ضد الثورة منذ البداية وأن الثوار “واجهوا عسر تحريك المدينة حتى زجت الأحياء الشرقية منها في الثورة في منتصف 2012 بعد دخول الجيش الحر من الريف مستنداً على شبكات القاطنين في حلب” ومشيراً أيضاً إلى دور الطلاب الوافدين في الحراك الثوري وبعض “الشامات” من أبناء حلب.
أثار المقال بطبيعة الحال ردود فعل عنيفة من قبل بعض ثوار المدينة الذين قادوا الحراك الثوري فيها وكان وصف القاطنين” الأكثر جدلاً، حيث يفترض نزع الانتماء للمدينة لوجود أصول بعيدة من خارج المدينة، وهو ما أشار إليه فراس ديبة ابن مدينة حلب أيضاً، في مقال معارض للسابق موضحاً أن استخدام لفظة “قاطنين” إنما يريد بها الكاتب أن يذكّر كثيرين بأن “عمرهم الذي قضوه هم وآباءهم وأولادهم في مدينة حلب ليس كافياً لاعتبارهم حلبيين”.
ليس هذا الرأي أو ذاك هو ما يحدد هوية المدينة وتموضعها وإنما هو هذا الخلاف تحديداً. فهو يمثل حجر الأساس لفهم ديناميكية العلاقات الاجتماعية ضمن فضاء هذه المدينة والصراع الدائم الظاهر والمستتر بين مختلف مكوناتها على “الحق في المدينة” بمفهوم لوفيفر.
الهويات التي تنضوي عليها المجتمعات تكون إما ظاهرة أو مستترة، وقد تتعدد وتتداخل فيما بينها وتعرف كل جماعة نفسها سعياً للتمايز ضد آخر معين
لا بد من الإشارة هنا أن سقوط النظام قد وارى العديد من السجالات وردود الأفعال التي استبدلها أصحابها وانطوت مع صفحة سابقة لم تعد موجودة في سورية مع زوال نظام الأسد. إلا أنه من المهم لنا هنا أن نعيد انتشالها والتقاط ما تقول. الهويات التي تنضوي عليها المجتمعات تكون إما ظاهرة أو مستترة، وقد تتعدد وتتداخل فيما بينها وتعرف كل جماعة نفسها سعياً للتمايز ضد آخر معين. قد يختلف التعريف الذاتي لجماعة ما ويختلف الآخر الذي يتحدد وفقه الانحياز الهوياتي وفقاً للحدث المحرض الذي يُبرز انحيازا هوياتيا ما أكثر من غيره. ربما تخفت بعض الانقسامات ظاهرياً في المرحلة القادمة، لكنها حتماً ستبرز عندما تواجه حدثاً كاشفاً يمكن له إعادة تفعيلها.
ولنفهم الانقسام المديني الأبرز على مدار السنوات الماضية الذي امتازت به مدينة حلب علينا بالعودة إلى الأيام الأولى التي تلت تحرير المدينة وقبل انهيار النظام وإعلان السقوط.
من تابع عن كثب ما نشره أبناء المدينة وتعليقاتهم حول دخول الثوار للمدينة سيلاحظ أموراً منها:
- شريحة ثورية رأت أن مدينة حلب تحررت من قبضة نظام مجرم وصار بإمكان أهلها الذين هجروا منها فيما مضى بعد حملات قصف شرسة ومجازر وحصار العودة إليها. وهؤلاء فرحون بمشاهد تحرير المعتقلين ولقاء الأبناء مع الأهل بعد أعوام من الحرمان، يتشاركون المخاوف من انتقام النظام بالطيران، ولن أنظر هنا في الاختلافات البينية دون ذلك، من مرحب بدخول الفصائل المحررة أو من يحمل تجاههم وتجاه المستقبل المجهول مخاوف وتوجسات.
- مقابل الفئة الثورية هذه، هناك فئة رأت أن “حلب راحت” وهي ذات الفئة التي رأت قبل سنوات في نهاية 2016 أن حلب “رجعت لأهلها” وذلك بعد تهجير سكان القسم الشرقي قبل سنوات بعد حملات قصف عنيف ومجازر وحصار. وهنا أستثني منها شريحة المؤيدين والمستفيدين من النظام من أبناء المدينة، فهذه الرؤية ليست حكراً على الموالين.
وعندما سيطر الثوار على المدينة وقامت قوات النظام بقصف مواقع مدنية فيها، نلحظ أن من هؤلاء من عبروا عن صدمتهم من استهداف طيران النظام بالقصف لمنازل مدنيين ومستشفيات كأنها أول مرة تحصل، وقد حدث ذلك سابقاً في مدينتهم لكنه كان قصفاً “على هديك المناطق” لمدنيين بعيدين عنهم في أحياء مجاورة منعزلة خلف سواتر وقناصين. وكانوا قد اختاروا عدم الوعي بأن هذا القصف قد حول منازل كثيرة إلى ركام وهشم رؤوس أطفال ومزق عائلات وقلوباً كثيرة، ليفتحوا عيونهم اليوم مصدومين من قساوة مشهد الموت والأشلاء بالطائرات. فكل ما جرى على مدار أكثر من ثلاثة عشر سنة في سورية، بل وفي حلب أيضاً، لم يعبر وعي هذه الفئة للواقع. قد تمر الأخبار هنا وهناك أمامهم لكنها ليست سوى ضوضاء غير مهمة تظهر بصوت غير مسموع في خلفية أيامهم تشوش على سيرورة واقع آخر متخيل شديد التمحور حول الذات. - وبين من هو فرح بتحرير المدينة من قبضة النظام والميليشيات الموالية له، ومن رأى أن “حلب راحت”، قد يلمس المتابع لدى قسم لا بأس به من أبناء حلب، انتماءً للمدينة لذاتها، بشكل منعزل عن الانحياز للنظام أو للثورة، يبرز كحلقة وصل حتى بين أكثر الثنائيات تناقضاً منذ بداية الثورة (الثورة/ النظام). ويعلو على غيره من الانتماءات والانحيازات. وقد لا تجد مثله في مدن أخرى مثل معرة النعمان أو إدلب ولا في مدن كبيرة مثل حمص وحماة بمعزل عن ثنائية الثورة/ النظام. في الغالب يمكن ملاحظته في مدينة دمشق لتشابه في الظروف الاجتماعية. وإن هذا الملموس من الانتماء المديني المتفوق على سواه من الانحيازات تجده في هذا الظرف حتى لدى بعض أطراف النقيضين: المنحازون للنظام وبعض المنحازين للثورة من أبناء المدينة.
وحتى نفهم كيف نشأت هذه التموضعات والانقسامات، علينا أن نعود بالزمن إلى الوراء قليلاً. قبل الثورة بكثير.
حين توجد ديناميكيات قوة في هذا الفضاء فإن التفاعل بين الأفراد يؤدي إلى ترسيخ ديناميكيات القوة هذه. في كل فضاء مديني في سورية تجد انقسامات أوضح من غيرها
تخبرنا أدبيات العمران أنه حين يتفاعل الأفراد في فضاء عمراني ما مع بعضهم بعضاً، فإن الاختلافات التي بينهم تبدأ بالتآلف نتيجة للتفاوض وتنحسر الحواجز الاجتماعية بينهم أو تتلطف. لكن حين توجد ديناميكيات قوة في هذا الفضاء فإن التفاعل بين الأفراد يؤدي إلى ترسيخ ديناميكيات القوة هذه. في كل فضاء مديني في سورية تجد انقسامات أوضح من غيرها، على أنها ليست الوحيدة. ففي مدينة مثل حمص تبرز ثنائية سني – علوي وتتغير تراتبية القوة والأفضلية لصالح أحد المكونين تبعاً لفضاء الاحتكاك، وفي مدينة مثل حماة تبرز ثنائية بعثي وغير بعثي، وهي مقدَّمة على ثنائية مديني وريفي وإن تداخلت معها، ويمتلك أبناء المدينة غير البعثيين ضمن فضاءاتهم الأفضلية في تراتبية التفوق الاجتماعي مقابل الآخر البعثي. أما في مدينة حلب فالثنائية الأبرز هي الحلبي وغير الحلبي أو “الغريب”.
هناك سؤال شهير يتردد على لسان فئة ترى نفسها الممثل عن السكان الأصليين في المدينة ألا وهو: “من وين أنت؟”، وحين يجيب المجيب: “من حلب”، سيتبعه غالباً سؤال آخر: “من حلب حلب؟ ولا؟؟ أو “وين ساكنين بحلب؟”. وعليه سوف تتحدد التراتبية الاجتماعية للعلاقة ولو اقتصر هذا التحديد على ذهن السائل فقط. يحدد “الساكن الأصلي” موقع الآخر الذي قد يكون ابن المدينة أيضاً ضمن تراتبية متخيلة من التفوق الاجتماعي تبعاً للحي الذي يقطنه أو وفق أصوله التي تعود إلى خارج المدينة ربما قبل جيلين أو أكثر.
ليمتلك بذلك سلطة رمزية تمارس عنفاً رمزياً بمفهوم بورديو على الآخر الأقل في التراتبية الاجتماعية بالنسبة له ضمن فضاء المدينة، إذا اعتبره الغريب أو الدخيل. وربما لم تذهب بعيداً هذه السلطة الرمزية بتسلطها لكنها شكلت تباينات اجتماعية واضحة للناظر في أحوال للمدينة.
كيف نشأت هذه الثنائية؟
يصاحب الصفة المدينية في أدبيات العمران التي تهيمن عليها الدراسات الغربية صفة الخروج من ضيق الانتماءات المحلية والتحرر من الروابط الاجتماعية وتعزيز الفردانية. ولدرجة ما هذا يبدو صحيحاً في سياق تطور وتشكل المدن الغربية عموماً وفضاءات مدينية معينة في دول العالم الثالث عربياً وغير ذلك. لكن بصفة عامة فإن مدن المشرق وتحديداً الدول التي نتجت بعد تفكك الخلافة العثمانية لطالما لازمتها صفة المحلواتية (localism). تاريخياً في سورية كان للمدن مكانة سياسية معتبرة، وكانت السياسة حكرا على المدينة والنخب المدينية (الأعيان). وخلال العهد العثماني مثلت كل مدينة صلة الوصل بين ريفها وعاصمة الإمبراطورية. وقد طغت لقرون طويلة البنية الزبائنية على التنظيم السياسي والاجتماعي، إذ اعتمد الحكم العثماني على أعيان محليين تمتعوا بنفوذ اجتماعي محلي واسع لبسط السيطرة. وهم بطبيعة الحال أعيان المدينة. لعبت أحياء المدن دوراً مهماً كفضاءات مركزية للتنظيم السياسي والاجتماعي، حيث لكل حي أعيانه ووجهاؤه من ذوي النفوذ الاقتصادي، الديني أو العسكري.
مع اقتراب نهاية الدولة العثمانية بدأت سلطة الأعيان تضعف مع صدور التنظيمات وتحول السلطة نحو الحكم المركزي، وصاحب تلك الفترة استدخال أنماط عمرانية ومعمارية أوروبية في تطوير المدن وتسارع ذلك في عهد الانتداب الفرنسي. لكن في مدينة حلب ظلت الأحياء القديمة المركز الاجتماعي والاقتصادي لأهالي حلب، ولم تحدث الأنماط المعمارية المستحدثة تغييراً بنيوياً حقيقياً في النسيج الاجتماعي إلا بعد بدء أثرياء الأهالي باقتناء السيارة كوسيلة نقل في منتصف القرن العشرين في الخمسينيات. عندها بدأ الأثرياء من العائلات بالانتقال من المدينة القديمة نحو منازل طابقية في الأحياء الغربية مبنية على الطراز الأوربي في حين أصبح مركز المدينة القديم أكثر ازدحاماً بفعل الهجرة إلى المدينة التي تفرضها حاجات عدة اقتصادية وتعليمية. في عهد البعث ازدادت الهجرة من الريف والمدن المجاورة إلى المدينة واكتظت أحياء المدينة القديمة بالقادمين الجدد بالإضافة إلى استحداث أحياء أخرى عشوائية أحاطت بالمدينة القديمة. دفع ذلك السكان من العائلات القديمة في سعيهم للتمايز إلى الهجرة من المدينة القديمة نحو الأحياء الحديثة ما إن تسمح القدرة المادية على ذلك. ومن تبقى منهم كأمر واقع اختلط بالنسيج الاجتماعي الجديد ونال قدراً من الوصمة الاجتماعية وتحدرت مرتبته في التراتبية الاجتماعية المتخيلة تلك.
كان لتراجع المكانة السياسية والدينية والاجتماعية للنخب المدينية آثارها على الهوية الحلبية لأهلها القدامى. وغذت سياسات البعث البغض تجاه القاطنين الجدد حيث اعتمد في أجهزة الدولة الأمنية والبيروقراطية على الشريحة الريفية بشكل واسع ومقابل ذلك اتخذ أهالي مدينة حلب سلوكاً تجنبياً تمثل في الامتناع عن الانخراط في مؤسسات الدولة أو الخدمة العسكرية الإلزامية عبر “التفييش” أي، دفع رشاوى دورية للضباط. هناك أيضاً عامل مهم أسهم في تغذية البغضاء تلك ألا وهو تقوية نفوذ عشائري مسلح وإطلاق يده في المدينة بالتوازي وبشكل متنافس مع عنف الأفرع الأمنية. حيث نشأت في حالات عدة حرب شوارع بين فرع مخابرات وقوة من العشائر من دون تدخل من الدولة التي كانت تسمح بذلك تحت سقف الاحتفاظ بالولاء لرأس الحكم. وكانت تلك العشائر تحتفظ بمقاعد ثابتة في مجلس الشعب. وهذا العنف عانى منه جميع أهالي المدينة على اختلاف أصولهم.
هناك أجيال تعاقبت ضمن فئة السكان الأصليين القدامى لا تعي بالضرورة هذه المتغيرات والظروف وربما لم تسمع بها لكنها ورثت الذهنية التي تشعر بضرورة التمايز والشعور بالتفوق الاجتماعي على المكونات الأخرى
أسرد فيما سبق بشكل سريع ومختصر جداً مجموعة من العوامل المفتاحية لفهم الحالة وهي ليست كل ما يقال، هناك أجيال تعاقبت ضمن فئة السكان الأصليين القدامى لا تعي بالضرورة هذه المتغيرات والظروف وربما لم تسمع بها لكنها ورثت الذهنية التي تشعر بضرورة التمايز والشعور بالتفوق الاجتماعي على المكونات الأخرى. يصبح معنى الهوية الحلبية (للحلبي الأصل) مستمد من فكرة متخيلة عن المدينة قادمة من الماضي. يتغنى هؤلاء بتراث حلب ويحبون مدينتهم القديمة التي تشوهها جموع السكان القاطنين فيها ممن لا يقدرون قيمتها، ويتشاركون شعوراً موروثاً بالخسارة والحنين النوستالجي الأبدي لحلب وقلعتها وحاراتها القديمة. غادر جيل الأعيان المدينة القديمة بعد زمن من أفول نفوذه، وعادت الأجيال اللاحقة إليها لقضاء وقت مترف في احتساء القهوة والأرجيلة مع إطلالة على القلعة والتغني بالانتماء للمدينة مع الاستئثار وحدهم بهذا الانتماء على أنغام أغنيات تعزز هذه النرجسية. ويرى الحلبيون (المحتكرون انتماءهم للمدينة) نفسهم أقلية فيها. ويذهبون مذهب الأقليات في بعض السلوكيات الاجتماعية مثل استجلاب التراث والتقوقع على الذات والتمايز الاجتماعي الذي يظهر بشكل أوضح في علاقات المصاهرة، حيث يمتنع كثير من الحلبيون (الأصليون) عن الزواج من غير الحلبي أو الحلبية خاصة إن لم تثبت لهم أصول مدينية، وإن حصل ذلك فهو أمر يقترب من الوصمة أو بأقل تقدير غير محبب.
أيضاً لا تعرف هذه الفئة جغرافيا المدينة، ويمتلكون خريطة ذهنية للمدينة متقزمة تنحصر ضمن مربع في القسم الغربي والمدينة القديمة، في حين يعرف سكان المدينة غير الأصليين جغرافيا أوسع ويمتلكون شبكات تواصل ممتدة بشكل أكبر وأكثر انفتاحاً.
هناك أيضاً من سكان المدينة من يحملون أصولا “غير صافية حلبياً” نتيجة لزواجات بين أصليين وقاطنين، والمنقوص من مدينيتهم في ذهنية “السكان الأصليين”، والمتأثرون لتقاطع الدوائر الاجتماعية بالسلطة الرمزية لتراتبية التفوق الاجتماعي المهيمنة في فضاءاتهم. هؤلاء بحكم العنف الرمزي الممارس من قبل تلك السلطة الرمزية تجدهم يهمون في إنكار ما قد ينقص من هويتهم الحلبية ويسعون إلى ذات التمايز المتعالي مقابل المكونات الأخرى ويستهلكون ذات نمط الحياة المعبر عنها المتقوقع على ذاته.
هل ثمة ناجون من القوقعة؟ بالطبع نعم. هناك فئة قليلة من أهالي حلب القدامى آثروا البقاء في أحيائهم القديمة ولو كان لأسباب اقتصادية في البداية، لكنهم لاحقاً اختلطوا وتآلفوا مع غيرهم. وهناك فئة أكبر نالت من بطش النظام في الثمانينيات، وقسم من هؤلاء عانوا من عزلة مجتمعية طوال سنوات حتى قريب عهد الثورة نتيجة للخوف المطبق من قبل حكم استبدادي، بسبب وجود أقرباء لهم في السجون أو المهجر، حيث هُجِّر العديد من عائلات المدينة بعد أحداث ومجازر مشابهة للتي وقعت في مدينة حماة. وهناك بالتأكيد “شامات” كما أسماهم حسام جزماتي.
غياب رأس المال الاجتماعي لدى فئة سعت إلى التمايز والتموضع عبر ثنائية حلبي أصلي وغير الحلبي ضمن فضاء المدينة حال دون إمكانية تشكيل روابط الثقة وإمكانية تعريف الذات في مأساة الآخر
هذه كلها ملاحظات على عهد ما قبل الثورة وامتدت خلالها. إن غياب رأس المال الاجتماعي لدى فئة سعت إلى التمايز والتموضع عبر ثنائية حلبي أصلي وغير الحلبي ضمن فضاء المدينة حال دون إمكانية تشكيل روابط الثقة وإمكانية تعريف الذات في مأساة الآخر، وهذه أمور ضرورية في التحشيد والقابلية للانخراط في الحراك في ظل نظام قمعي أمني. جلبت الثورة والحرب التي لحقت بالمدينة لاحقاً طبقات أخرى من التعقيد على الحالة الاجتماعية. لكنها بالتأكيد زادت من انغلاق شريحة لا بأس بها تحمل ريبة ونظرة متعالية للآخر أياً كان ومهما كان.
يمثل الانحياز الهوياتي المديني في مدينة حلب لدى فئة تعرف نفسها وتتمايز من خلال تعريفها للآخر (غير الحلبي) حالة تتناقض مع مفهوم المواطنة والمدنية
يمثل الانحياز الهوياتي المديني في مدينة حلب لدى فئة تعرف نفسها وتتمايز من خلال تعريفها للآخر (غير الحلبي) حالة تتناقض مع مفهوم المواطنة والمدنية. وهي حالة طبيعية ضمن سياقها حيث تسعى الجماعات إلى التمترس خلف انتماءات ما قبل الدولة كرد فعل دفاعي لا إرادي في كثير من الأحيان في وجه الدولة المتسلطة أو في حالة غياب الدولة وغياب هوية وطنية تسهم في خلق أرضية مشتركة بين مختلف مكوناتها، وهذا هو الحال في سورية. وإن هذا التمترس خلف هوية “أهل حلب الأصليين” تشبه إلى حد كبير الانتماءات القبلية والعشائرية، إلا أنها وبسبب تأثير الحالة المدينية تفتقر إلى العصبة الفاعلة. فهي عصبية بالمعنى الخلدوني ظاهرياً شعوراً وانتماءً ولكنها فارغة وعاجزة عن الفعل وتتسم بالعطالة والحيلولة دون نشأة ومراكمة رأس مال اجتماعي مشترك مع غيرها.
هذا التمترس خلف هوية “أهل حلب الأصليين” تشبه إلى حد كبير الانتماءات القبلية والعشائرية، إلا أنها وبسبب تأثير الحالة المدينية تفتقر إلى العصبة الفاعلة
وفي المقابل، انتمى سكان المدينة المشاركون بالثورة والذين يوصم معظمهم بأنهم “ليسوا أبناء حلب فعلاً” إلى مدينتهم بالمعنى الواسع والمسؤول، وكانوا “مواطنين” فعليين حين كانوا رأس حربة في الحراك الثوري للمدينة وقادوا المظاهرات والتكتلات الثورية التي حركت المدينة. وسعى هؤلاء بكل ما يستطيعون لتنضم مدينة حلب للثورة، وقد لا يرى بعضهم غيابها عن الثورة، فبالنسبة لهم هم أيضاً أبناء حلب وقد أشعلوا فيها الثورة، وهذا الموقف بحد ذاته هو دفاع عن حق أصيل، حقهم في مدينتهم.