كورمانجو؟

حسام جزماتي

بعد قرابة أسبوع، في اليوم العالمي لحقوق الإنسان في 10 كانون الأول، ستقيم منظمة العفو الدولية (أمنستي) في ألمانيا حلقة نقاشية عن كتاب «العبور من الجحيم: سيرة ذاتية لمعتقل» بحضور صاحب الشهادة شبّال إبراهيم، ومدونها ومحررها حسين جلبي. وكانت قد صدرت قبل عام عن دار موزاييك للنشر في إسطنبول، وتجري ترجمتها إلى الألمانية.

المعتقل الكُردي

يسجّل إبراهيم وقائع التضييق عليه ثم اعتقاله على يد المخابرات الجوية في مدينته القامشلي نتيجة دوره المركزي في تحريك المظاهرات هناك. الدور الذي سيحاول التنصل منه، دون جدوى، أثناء التحقيق معه في مطار المزة بدمشق. قبل أن يُحوّل إلى سجن صيدنايا ويُعرض، من هناك، على المحكمة الميدانية التي قضت بسجنه خمسة عشر عاماً أمضى منها أكثر من سنة ونصف السنة بقليل، لحسن حظه وبسبب تحركات المطالبة به من الشارع الكردي المؤيد للثورة وآخرين.

والحال أن صفته القومية لم تغب عن الحضور في أكثر مفاصل الكتاب، ولا سيما عند تعارف المعتقلين في أماكن الاحتجاز المختلفة التي تنقل بينها. فبمجرد تقديم اسمه كان يأتيه السؤال بالكردية تحبباً: كورمانجو؟ (كردي؟) ليجيب بنعم ويلقى الترحيب والعناية من الرفاق الذين كان أكثرهم من داريا في البداية، بحكم مكان الحجز وزمانه، قبل أن تُخلط هذه الأغلبية بالحماصنة وأهل درعا وإدلب وسواها.

وفي وجبة غداء عيد الفطر، في آب 2012، احتوى البرغل على قطع لحم على غير العادة. كانت لا تتجاوز المئتي غرام لكل من في المهجع الذين قسموها بينهم بالعدل

يرجع جزء وازن من هذا التقدير إلى قلة عدد السجناء الكرد على ذمة القضايا المرتبطة بالثورة. وهو ما لاحظه إبراهيم منذ التحقيق معه في القامشلي، إذ بدا أن النظام لم يحسم بعد، في أيلول 2011، الأسلوب الذي سيتعامل به معها. أما في فرع دير الزور، الذي مرّ به لأيام في الطريق إلى العاصمة، فقد التقى بالناشط الكردي المعروف حسين عيسو الذي زوّده بنصائح سجنية مفيدة قبل أن يفترقا إلى زنزانتين في سجن فرع التحقيق بالمزة.

وهناك، على الجدران حيث يُكتب تاريخ المهجع وذاكرة من مرّوا، ثمة «أثر كردي» تعامل رفاقي معه وكأنه إرث من حقي وحدي، كما يقول إبراهيم: أروني جملة بالكردية على الجدار وطلبوا مني ترجمتها. اسم الكاتب غير واضح لكني تمكنت من قراءة: «سجين الانتفاضة الكردية، نوروز 2004».

في مرحلة متقدمة من الاعتقال يقول: «لم أتحدث الكردية منذ زمن طويل، [إلى] درجة الشعور بأنني الكردي الوحيد في هذا العالم». غير أن هذه الوحدة كُسرت وإن عبر وجود سجان بدا من لهجته العربية الرديئة أنه كردي. وكان، لطيب الطالع، أفضل معاملة للسجناء من زملائه. فقرر إبراهيم أن يغامر بمخاطبة هذا السجان بمزيج من العربية والكردية، طالباً دواء أتى به ذلك قائلاً: «في هالحبتين، خدهم وبعدين نام يا عرسا».

السجين العام

كانت تلك معاملة «مميزة» لا يحصل عليها المعتقل إلا من سجان رقيق القلب أو يحمل تعاطفاً شخصياً. وهو ما لم يتوافر لدى معظم أفراد طاقم التعذيب والاحتجاز.

في سجن صيدنايا يُمنع السجناء من معرفة شكل أيٍّ من سجانيهم أو اسمه. ولأغراض التعريف الضرورية ابتدع أبناء كل مهجع أسماء مؤقتة لهؤلاء مبنية على الملاحظة. فهناك «أبو القندرة الحمرا» بعد رؤية حذائه إثر تجرؤهم على النظر من أسفل الباب، و«الضابط الساحلي»، بناء على لهجته، الذي كان يواظب على إيقاع أشد أنواع التعذيب مهما كانت الظروف، وسجان أسموه «متعب» لكثرة ما أرهقهم بابتكار أساليب تعذيب رهيبة. وبالمقابل لم يكن السجانون يهتمون بمعرفة أسماء السجناء أو حفظها. فكانوا ينادونهم بحسب اللباس أو الموقع: «أبو الكنزة الخضرا»؛ «أبو البيجاما السودا»؛ «الحقير اللي بالنص». مجهولون ينكلون بمجهولين للحفاظ على كرسي معلوم أوحد.

تعرض إبراهيم لكل أدوات التعذيب المعروفة، فضلاً عن تجارب خاصة فاقت أي خيال وحشي سابق معروف. ففي أحد الأيام تفتق ذهن متعب عن فرمان يقضي بأن يزيل السجناء الشعر عن وجوههم، دون وجود ماكينة حلاقة أو أي وسيلة مساعدة في المهجع الذي اضطر نزلاؤه، نتيجة معرفتهم بمدى تشوق متعب لتعذيبهم بحجة مخالفة الأوامر، إلى نتف لحاهم بأصابعهم عشوائياً، ثم تبادل النتف لتعويض غياب المرآة. ولما انتهت العملية «كانت وجوه الجميع منتفخة تغطيها الدماء، يشعر المرء بأن أصحابها مخلوقات فضائية».

وفي وجبة غداء عيد الفطر، في آب 2012، احتوى البرغل على قطع لحم على غير العادة. كانت لا تتجاوز المائتي غرام لكل من في المهجع الذين قسموها بينهم بالعدل. قلّب إبراهيم قطعته الصغيرة بين يديه فوجد عليها شعراً أبيض كثيفاً: «أمعنت النظر فيها غير مصدق، فحصتها أكثر، فاقشعر بدني وتجمدت، عندما تيقنت بأن ما أحمله ليس سوى لحم بشري، مع قطعة جلد يغطيه شعر». في اليوم التالي حصلت حالات وفيات، وبعد يومين حضر طبيب أمر من لا يزال محتفظاً بشيء من هذا اللحم بالتخلص منه.

أما عندما ساءت صحة الراوي ونُقل إلى المشفى فقد فوجئ، وهو يقف في الممر مقيد اليدين مطمش العينين، بأداة حادة تنهال على رأسه وصوت نسائي يصيح بالعنصرين المكلفين باقتياده: «أنتم جايبين الإرهابيين لتعالجوهم هون!». وهي الجملة التي كررتها ممرضة المخبر، بعد أن استغلت الوضع لإيلامه بإبرة سحب الدم ومخاطبته ببذاءة، ليجيبها المرافق مخففاً عنها: «نحنا عم نشتغل بأصلنا»!

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى