“صيدنايا”.. سوريا القادمة والملفات الساخنة

مالك داغستاني

إثر المشاهد التي ظهرت إلى العالم من سجن صيدنايا، خلال وبعد تحريره، ربما يصح أن نصف الثامن من كانون أول/ديسمبر 2024، على أنه “يوم انتهاء المجزرة”، أكثر من وصفه بأنه يوم سقوط نظام الأسد، أو يوم التحرير وغيرها من التعابير. وهذا هو النصر السوري الحقيقي.

رغم أنه من أولى اهتماماتي اليوم، كما كل السوريين، معرفة ملامح النظام القادم، ومراقبة كل قرار سيُتّخذ، لإدراك إلى أين يمضي حكام سوريا الجدد بالبلاد، إلا أنني أشعر أن الأمر الأهم هو أن سوريا انتصرت وأوقفت المجزرة. مجزرة مستمرة عاشتها سوريا لخمسة عقود، على يد أبشع آلة للقتل يمكن أن يعرفها التاريخ البشري. خسر فيها كل السوريين من أعمارهم، وخسر فيها مئات آلاف السوريين أرواحهم. وجثثهم تقبع اليوم في مقابر جماعية لم نعرف بعد إحداثيّاتها.

مجزرة ابتدأت منذ بداية الثمانينيات ولم تتوقف إلا قبل أيام. وعلينا منذ اليوم التفكير الجدي ودون أي إبطاء، بفتح هذا الملف لمعرفة مصير مئات آلاف المفقودين، والوصول إلى معلومات دقيقة، تنهى معاناة السوريين وانتظارهم لأبناء على الأغلب أنهم لن يعودوا. شخصياً، أعتقد أن هذه المهمة يجب أن تناط بالشبكة السورية لحقوق الإنسان، لتكون نواة لمؤسسة سوف تحتاج إلى كثير من الكوادر المختصة وإلى الخبرات الدولية، للتقصي والكشف عن المقابر الجماعية، وتكوين قاعدة بيانات ضخمة وهائلة، بهدف الوصول إلى نتائج حاسمة.

بعد ضبط الأمن والفلتان، وإعادة تسيير مؤسسات الدولة الحيوية التي لا غنى عنها في يوميات المواطنين، ومع إعادة النازحين والمهجرين إلى بيوتهم، حتى لو لم تكن جاهزة تماماً. يجب، على غرار ما جرى في كثير من دول العالم ذات التجارب المشابهة، تشكيل هيئة حقوقية للمساءلة والمحاسبة، كي لا ينجو كبار المجرمين من العقاب، فلن يستعيد السوريون كرامتهم قبل محاسبة هؤلاء وإخضاعهم لمحاكم نزيهة لا تقوم على الثأر والانتقام. فلن يستقيم إعادة بناء سوريا كدولة قانون وليست مزرعة إلا باتباع العديد من المسارات التي تجبُر الضرر وترد المظالم لمئات الآلاف ممن أصابهم ضرر مباشر في حياتهم.

في الوضع السوري، هذا سيحيلنا مباشرة إلى نقاش سيحتدم قريباً، حول مفهوم العدالة الانتقالية الذي سوف يستفيد بصورة إيجابية من حجم التضحيات التي بذلها السوريون في ثورتهم. العدالة الانتقالية، وبحسب تجارب العديد من الدول، سوف تجنب سوريا الانغماس في حالات الانتقام الفردي، هذا الانتقام الذي يأخذه الناس المجروحين بأيديهم، والذي بدوره سوف ينطوي على كثير من الظلم، وسيظهر مستقبلاً في الوطن على شكل انتقامات مضادة.

إن حالة القطع مع الاستبداد، والطمأنينة بأنه لن يكون هناك أي نكوص أو تراجع أو إنتاج استبداد من لون آخر، لا يمكن أن يتم بصورة مطمْئِنة للسوريين إن لم يقم على مواجهة كل مشكلات الماضي، وتناولها بوضوح وشفافية، واستعادة الحقوق بمفعول رجعي، مع الأخذ بمبدأ المحاسبة للمرتكبين بعيداً عن الانتقام السياسي والإقصاء، عبر استخدام آليات مدنية مستقلة سياسياً، مع إشراك الضحايا في المحاكمات، بصورة تعيد للمواطن السوري إحساسه بالكرامة والمواطنة، ولا تسمح بالإفلات من العقاب. كل ذلك من أجل تقديم رسالة واضحة وقوية عن مستقبل سيادة القانون في سوريا القادمة.

رغم وجود تجارب عديدة في بلدان أخرى، حول فترة العدالة الانتقالية يمكن الاستفادة من معاييرها الدولية المشتركة، إلا أنه ينبغي على السوريين تقديم نموذجهم المعتمد على خصوصية الحالة السورية، وعلى الحاجة الوطنية من أجل بناء دولة القانون. طبعاً، من الصعب هنا الحديث عن التفاصيل الدقيقة لهذه الفترة، وهل يمكن الأخذ بمبدأ المسامحة مع صغار المنفذين والتركيز على محاسبة القادة والمخططين أم لا؟ من جهتي أعتقد بهذا. فعلينا تغليب المصالح الوطنية العليا على التطبيق الحرفي للعدالة، من أجل بناء دولة تسود مكوناتها روح الانخراط في الانتماء السوري، بعد أن يتوقف نزيف السوريين.

اللحمة الوطنية الحقيقية والمواطنة، وإعلاء الانتماء إلى سوريا قبل الانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية. لا تقل أهمية عن إعادة الإعمار المادي، وهو الأسهل. مشاهد سجن صيدنايا هزت وجدان كل من شاهدها. ملف المفقودين عمره في سوريا خمسة عقود، وهو يحتاج لسنوات طويلة لإظهار الحقيقة الكاملة، إضافة للعديد من الملفات الكارثية والملحّة، من بينها طلب تسليم المجرمين من الأنتربول ومن الدول المعنية، وعلى رأس هؤلاء المجرم الأول بشار الأسد وشركائه من العائلة ومعظم قيادات الصف الأول، ولا يقل أهمية عنه، العمل على ملف استرداد المال العام الذي نهبه هؤلاء وشركاؤهم، وأودعوه في بنوك العالم. وغيرها من الملفات.

ونحن ننحني اليوم لتضحيات مئات الآلاف من الشهداء الذين أوصلونا إلى هذا النصر، يجب أن نفكر بسوريا القادمة، التي هي مسؤولية جميع أبنائها من دون استثناء، وعلينا أن نقدّمها لأنفسنا أولاً وللعالم تالياً، بطريقة مشرّفة. السيطرة على الشحن الطائفي الذي اشتغل عليه الأسد لعقود، كان في الأيام الماضية واحداً من أهم إنجازات يوم النصر، وعلى السوريين جميعاً من كافة الانتماءات، متابعة العمل على إنجاز حلم “سوريا المستقبل”.

في عصر الأسد لم يكن سجن صيدنايا الوحشي يقتصر على ذاك المبنى اللئيم، بل هو اجتاح سوريا حتى غدت كلها “صيدنايا”. ببساطة وبجملة واحدة، نحن نحتاج أن نبني دولة من وسط هذا الخراب الذي أورثنا إياه النظام البائد.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى