بعد فوز ترامب … هل تستطيع أوروبا ضمان أمنها بنفسها؟

أحمد قاسم حسين

يعتبر فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية تحدّياً صعباً أمام الاتحاد الأوروبي وأجنداته الإقليمية والدولية، فقد اعتمدت أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وربطت أمنها بالشراكة عبر الأطلسي، التي يمثّلها حلف شمال الأطلسي (ناتو). وفي هذا السياق، دعا الممثّل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسية الأمنية، جوزيب بوريل، دول الاتحاد الأوروبي إلى ضرورة “ربط الأحزمة”، استعداداً للتعامل مع ما وصفه بـ”الحقائق الجيوسياسية” التي قد تتغيّر بعد فوز ترامب رئيساً للولايات المتحدة، مشدّداً على ضرورة العمل على تعزيز السياسة الدفاعية والأمنية للاتحاد الأوروبي في مواجهة التحدّيات المستقبلية.

قامت استراتيجية ترامب على تحقيق مزيد من الأرباح بغضّ النظر عن طبيعة التحالفات السياسية والأمنية مع أوروبا

لقد مرّت العلاقات الأورو- أطلسية بمنعرجات قاسية في الولاية الأولى للرئيس ترامب الذي أربك حلفاءه بسياساته الخارجية، وعلى وجه التحديد الأوروبيين، إلى درجة بدأ فيها صنّاع القرار في دول الاتحاد الأوروبي بالتفكير جدّياً في بناء سياسة أمنية ودفاعية بعيدة عن مظلّة واشنطن الأمنية. فالرئيس القادم إلى البيت الأبيض مجدّداً أبدى إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووصفه بالصديق الذي يمكن الوثوق به، وهو ما عمّق حالة القلق لدى دول الاتحاد الأوروبي، وعلى وجه التحديد الدول الأعضاء في منطقة البلطيق (لاتفيا، ليتوانيا، إستونيا) بشأن عدم الثقة بتدخّل الولايات المتحدة في ضمان أمنهم. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل تعدّاه مع استمرار ترامب في التشكيك في دور الناتو ووظيفته، ومسؤوليات الأعضاء الآخرين فيه أيضاً، ما أثار شكوكَ الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي المتعلّقة بأمن أوروبا ومدى استمرار الولايات المتحدة في ضمانه. وقد ذكر ترامب صراحةً، أثناء حملته الانتخابية عام 2016، أنه في حالة هجوم روسيا على دول البلطيق، فإنه سيبحث عما إذا كانت هذه الدول قد أوفت بالتزاماتها تجاه الولايات المتحدة حتى تدافع واشنطن عن أمنها. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ غزت روسيا أوكرانيا في فبراير/ شباط 2021، تزايدت المخاوف من أن تكون دول البلطيق هي الهدف التالي لروسيا؛ ما دفعها إلى أن تمضي قدماً نحو زيادة قدراتها الدفاعية من خلال زيادة عدد جنود الاحتياط والتدرّب على حرب العصابات في المناطق الحدودية المتاخمة لروسيا، وبالنظر إلى عدم قدرة المنظومة الأمنية الدفاعية الأوروبية على أن تقدّم لها الحماية اللازمة من ناحية، وتغيّر دور الولايات المتحدة من الحليف المهيمن في المركب الأمني في أوروبا القادر على ضمان أمنها إلى منافس يركّز أساساً على الحدّ من صعود كلّ من روسيا والصين، بوصفهما قوتَين منافستَين له من ناحية أخرى.
ولم يقتصر الأمر على دول البلطيق، فقد اتّسمت العلاقات بين الولايات المتحدة وألمانيا بالتوتّر على خلفية عدة مسائل عالقة في مقدّمتها حجم الإنفاق الدفاعي لألمانيا في “الناتو”، وموقف ألمانيا من إيران والاتفاق النووي معها، إضافة إلى موضوع مهمّ وحيوي يرتبط بطبيعة العلاقة المتنامية بين ألمانيا وكلّ من الصين وروسيا. وقد اتهم ترامب الساسة الألمان باستغلال الولايات المتحدة على المستويَين الأمني والتجاري، وطالب ألمانيا بزيادة الإنفاق في الحلف، قائلاً: “لا نريد أن نكون مغفّلين بعد الآن… نحن ننقص قوةً لأنهم لا يدفعون فواتيرهم”. كما انتقد ترامب سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه الهجرة غير القانونية، واتهم أنجيلا ميركل بـ “ارتكابها خطأً كارثياً يتمثّل في استقبال جميع اللاجئين غير النظاميين وجميع الناس من حيثما أتوا”.
وقد تعامل ترامب مع الدول الأوروبية بوصفها منافسةً للولايات المتحدة في التجارة الدولية، بدلاً من التعامل معها بوصفها شريكةً، كما كان الحال مع إدارتي أوباما ولاحقاً جو بايدن. وقد خاض ترامب حرباً تجارية مع أوروبا حليفة الولايات المتحدة التاريخية، فوصف علاقات أوروبا التجارية مع الولايات المتحدة بأنها أسوأ من الصين، قائلاً: “إن الدول الأوروبية قد تأسّست للاستفادة من الولايات المتحدة. لديهم حواجز تجارية معنا أسوأ من الصين”. وفي هذا الصدد، أتاحت منظّمة التجارة العالمية للولايات المتحدة فرض رسوم جمركية على سلع الاتحاد الأوروبي قيمتها 7.5 مليارات دولار سنوياً في القضية المستمرّة منذ فترة طويلة، وقد ردّ الاتحاد الأوروبي بالمثل على سلع الولايات المتحدة، وهي خطوة أنذرت بحرب تجارية بين الحلفاء، كما فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية بنسبة 10% على طائرات إيرباص الأوروبية الصنع، و25% على النبيذ الفرنسي والإسكتلندي والويسكي الإيرلندي والجبن، من جميع أنحاء القارة. وفرض الاتحاد الأوروبي تعريفات جمركية على واردات منتجات الصلب المختارة من الولايات المتحدة بدايةً من 22 يونيو/ حزيران 2018.

إما أن ترضخ أوروبا لشروط ترامب التي تركز في الإنفاق في مقابل الأمن أو أن تخطوا نحو استراتيجية أمنية ودفاعية مشتركة 

بناءً عليه، قامت استراتيجية ترامب على تحقيق مزيد من الأرباح بغضّ النظر عن طبيعة التحالفات السياسية والأمنية مع أوروبا، وهو ما عكسه في شعار حملته الانتخابية “أميركا أولاً”، ولاحقاً في خطابه الذي عارض فيه استفادة الدول الأوروبية من حماية الولايات المتحدة وزيادة إنفاقها العسكري في هذا المجال، في مقابل انخفاض إنفاق الدول الأوروبية على الجوانب الأمنية، وزيادة إنفاقها على تعظيم قدراتها الاقتصادية تاركةً عبء الحماية والأمن على الولايات المتحدة.
ومن المرجّح أن تشهد ولاية ترامب الثانية استمراراً في توجهاته وقناعاته تجاه أوروبا ودولها، وخاصّة فيما يتعلّق بالحرب الروسية الأوكرانية، التي يعتقد أنها ما كانت لتندلع لو كان في الحكم. هذا السيناريو سيضع قادة أوروبا أمام خيارَين حاسمين، الأول اتخاد خطوات جادّة نحو بناء استراتيجية أمنية ودفاعية مشتركة تضمن أمن دولهم واستقرارها، ما سيدفع عملية التكامل الأوروبي إلى مستوى جديدٍ ويعزّز من دور الاتحاد فاعلاً مؤثّراً في السياسة الدولية. أمّا الخيار الثاني، فهو الرضوخ لشروط ترامب التي تركّز في زيادة الإنفاق الأوروبي في مقابل توفير الأمن، وفق منطقه القائم على مبدأ “عليكم أن تدفعوا”، ممّا قد يؤدّي إلى تفكّك الإجماع الأوروبي، وزيادة الانقسامات التي تهدّد استقرار الاتحاد وأمن دوله.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى