أوروبا والاسلام : من يفتعل الأزمات .. وما الحل ؟  

محمد خليفة 

لا ينقص العرب والمسلمين أزمة جديدة فوق ما لديهم من أزمات مع الغرب ، حتى يأتي من ينفخ في جمر الصراع الديني بيننا وبين الأوروبيين ، بسبب تصريح غبي للرئيس الفرنسي، أو صورة مسيئة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم تنشرها صحيفة .  

وقد علمتنا التجارب أن هذا النوع من النزاعات والصراعات يكفيه عود ثقاب صغير ، أو زلة لسان مسؤول كبير ، حتى تشتعل ، وسرعان ما تحولها الريح جائحة خطيرة يصعب التنبؤ بنتائجها التي تنعكس على الأبرياء من الجانبين ، ولا تفيد سوى المتطرفين من الجانبين ، الذين لا يريدون التعايش والاستقرار والسلام  بين الأمم والشعوب ، ويخدمون أجندات دولية مجهولة ، لا يعنيها سوى نشر الفتن والتوترات ويتعيشون عليها . 

 ويمكننا القياس على ( أزمة الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم ) بين الدانمارك والعالم الاسلامي عام 2005 ، للقول إن ما جرى بعد ذلك من عمليات ارهابية منفلتة من مسلمين متطرفين في فرنسا والمانيا وبلجيكا وبريطانيا ضد مواطنين أوروبيين أبرياء ، هو مثال تطبيقي لما نتحدث عنه . وإذا تابعنا التسلسل المنطقي للأحداث ، لوجب ربط تلك الموجة الارهابية بأيدي أفراد ينتسبون للاسلام الحنيف ، بما تبعها من مذابح وجرائم دموية نفذها متطرفون أوروبيون في النرويج والمانيا والسويد ، وامتدت الى نيوزيلاندا ، حيث وقعت مجزرة مروعة في أحد المساجد ذهب  ضحيتها ( 50 قتيلا ) ، وأكد الفاعل مثله مثل نظيره النرويجي الذي ارتكب مجزرة مشابهة عام 2011 ذهب ضحيتها ( 80 قتيلا ) أنه على اتصال بمنظمات أوروبية معادية للمسلمين . وهكذا بتنا نرى موجة من هذا الطرف ، تتلوها موجة مضادة من الطرف الآخر . وعلينا أن نتوقع ردود أفعال هوجاء ودموية متبادلة من الطرفين ، إذا تواصلت دينامية التطرف تشتد بدون تدخل عقلاني حكيم من عقلاء وحكماء الجانبين ، أصبح فائق الأهمية ، وبلا تأخير. 

ولكي نفهم أبعاد الأزمة الجديد ، وما سبقها يتعين علينا أخذ الملاحظات والعوامل التاريخية الآتية بعين الاعتبار :  

تغيرات عميقة : 

أولاً – إن أوروبا هي الجار الأقرب للوطن العربي ، وبينهما شراكة جغرافية دائمة ، ويبدو مشهدهما للناظر على الخريطة أشبه بفريقين كبيرين يتحلقان حول مائدة مستديرة كبيرة هي البحر المتوسط . ويتعين على الجار دائما احترام حقوق الجار الآخر ، وخصوصياته ليكون التعايش مثمرا بينهما . ولقد ظل البحر المتوسط زمنا غير قليل يسمى ( بحر الروم ) ، لأن الأمبراطورية الرومانية سيطرت مئات السنين على ضفتيه . كما حاول العرب والمسلمون مرات عديدة السيطرة على ضفته الشمالية . وبين هذه وتلك مرت العلاقات بينهما بحروب عنيفة تارة ، وبعلاقات تعاون بناءة تارة ثانية ، وفي العام الماضي 2019 انعقدت أول قمة عربية – أوروبية في التاريخ ، دليلا على رغبة الجانبين في تغليب حسن الجوار والتعاون على الحروب والعداء .  

ثانياُ – إن العلاقات العربية – الأوروبية لم تكن سيئة دائما عبر التاريخ ، لا على الأصعدة العسكرية والاستراتيجية ، ولا على الأصعدة الثقافية والدينية والحضارية ، بل شهدت كذلك مراحل مهمة من الاستقرار والازدهار . 

 وفي القرآن سورة تدعى ( سورة الروم ) تنبئنا بأن عرب الجزيرة والشام كانوا يميلون للروم ويكرهون الفرس كحالهم اليوم ، وهي تبشر المسلمين بانتصار الروم على الفرس بعد بضع سنين ، وبانتصار المسلمين على المشركين في نفس التاريخ . 

 وقد استقبل هرقل الروم مبعوث الرسول الكريم استقبالا لائقا ، وتلقى منه رسالة الدعوة للاسلام باحترام ، مما يعكس حسن الجوار والحوار بين أهل الجزيرة العربية والروم في ذلك العصر . ولا ننسى أن اعتناق الروم للمسيحية إنما تم بفضل أهل الشام وفلسطين .  

وأذكر أنه في عام 1995 نظمت وزارة الخارجية السويدية مؤتمرا فكريا حاشدا عن مستقبل (العلاقات بين الاسلام واوروبا) دعت لحضوره زهاء مائة مفكر اسلامي متخصص من كل البلدان الاسلامية ، وسألتُ رئيس جهاز التخطيط في الخارجية انغمار كارلسون المشرف على تنظيم المؤتمر عن دواعيه وأهدافه ، أجابني قائلا إن انضمام السويد للاتحاد الاوروبي جعلها محاذية للدول العربية والاسلامية ، وعليه فلا بد أن نحسن فهم الاسلام والمسلمين كي تستقر علاقاتنا بهم . وأضاف : على الجانبين أن يتعاونا لتعزيز قواعد التعايش والسلام ، ولا يسمحا لأفكار المتطرفين أمثال صمويل هنتنجتون وفوكوياما أن تدفعنا لصدامات بين الأديان . وتابع : إننا نطمح أن يصبح البيت الاوروبي نموذجا لتعايش الأديان ، مثلما كانت قرطبة وغرناطة وطليطلة في ظل الحكم الاسلامي والعربي خلال القرون الوسطى . 

ثالثاً – علينا الانتباه الى أن التغير الذي طرأ على التركيب السكاني في أوروبا خلال القرن الأخير قد غير الواقع القائم جذريا . فهناك اليوم في أوروبا ما بين 40 – 50 مليون مسلم انضموا للمجتمعات الاوروبية وصاروا عنصرا رئيسيا وفاعلا فيها وجزءا من نسيجها ومن اقتصادها ومن ثقافتها ، ويتوقع علماء الجغرافيا البشرية أن يؤدي استمرار معدلات الهجرة لأن تصبح أكثرية السكان في اوروبا من الجنس المتوسطي ، أي الجنس الناتج عن امتزاج البيض الأوروبيين والعرب والمسلمين والمهاجرين الوافدين من جنوب المتوسط ، وشرق آسيا وافريقيا .  

وبالمقابل ضاعفت (العولمة) من أثر هذه التغيرات العميقة ، لصالح المكونات المسيحية في العالم الاسلامي ومنحتها فرص التعبير عن وجودها وحقوقها وثقافتها بشكل متساو مع بقية السكان المسلمة .  

في المحصلة لم تعد أوروبا مسيحية بيضاء صافية عرقيا ، ولا ذات تطلعات صليبية توسعية ، ولا استعمارية ، كما لم يعد الشرق محكوما بالشريعة الاسلامية ، ويجهز الجيوش لاجتياز جبل طارق وفتح روما والقسطنطينية ، بل امتزج الطرفان ثقافيا وروحيا وتقاربا بفضل الحداثة والديمقراطية والعولمة ، وبفضل عامل الهجرة الكثيفة من الجنوب والشرق الى اوروبا ، وحاجة القارة العجوز لخصوبة الوافدين ، مما غير الصورة كليا في الواقع . هناك الآن آلاف المساجد في كافة مدن وقرى اوروبا ، وهناك آلاف المدارس والمعاهد التي تنشر العلوم الاسلامية لمعتنقي الدين الحنيف وتنشر اللغات العربية والتركية والفارسية .. إلخ .  

رابعاً – مع التغير الديمغرافي الجذري تغيرت تلقائيا علاقات الجانبين ببعضهما ، وتغيرت نظرة كل منهما للآخر بفضل الاقتراب والاختلاط والتعارف المتبادل ، كما رأينا في حديث انغمار كارلسون . لقد تقلص العداء ، واختلفت لغة التخاطب ايجابيا ، وأساليب التعامل بين المسلمين والمسيحيين في الشرق والغرب وبين العرب والاوروبيين . فكتب التعليم في أوروبا لم تعد تتناول الدين الاسلامي باستخفاف أو كراهية ، بل باحترام ، وكذلك وسائل الاعلام . وشهدنا تقاربا مطردا بين الفاتيكان والدول والمنظمات الاسلامية على الاصعدة الروحية والثقافية والسياسية ، ووقعت معاهدات ومواثيق بين الطرفين ، وشهدنا صورا متنوعة من التضامن بينهما في مواجهة تيارات الالحاد المعادية للأديان ، وظواهر الشذوذ ، وموجات العنصرية والتطرف الهوجاء من الطرفين .  

الاستغلال السياسي هو المشكلة : 

خامساً – يمكن للمحلل ملاحظة أن العواصف الهوجاء التي جدثت في العقود الأخيرة ، إنما كان محركها رغبة بعض القوى بالاستثمار السياسي ، لا الديني البحت . وعلى سبيل المثال العاصفة التي أثارها وأججها نظام الخميني ضد سلمان رشدي في أواخر ثمانينات القرن المنصرم. وأزمة الرسوم المسيئة للرسول الكريم عام 2005 حدثت بسبب رغبة بعض قوى اليمين المتطرف في أوروبا للصعود على حساب اليسار والوسط الديمقراطيين ، وتعبئة الشارع  ضد المهاجرين . وأما الأزمة الحالية فترجع الى تصريحات سياسية متبادلة بين الرئيسين الفرنسي والتركي على إثر التنافس على مواقع النفوذ والثروة في شرق المتوسط ، وافريقيا والقوقاز ، إضافة لعوامل داخلية في فرنسا كما في تركيا .  

لا نعتقد أن هناك أزمة حقيقية بين المسلمين في اوروبا ودولهم وحكوماتهم ، فكلا الطرفين يتعاونان ويلتزمان القانون ، وقد استجاب المسلمون على الدوام للقوانين الجديدة التي تنظم نشاط منظماتهم ودور عبادتهم بدون مشاكل تذكر ، ولا سيما في فرنسا ، ورغم ذلك تعمل أحزاب اليمين باستمرار على التضييق على المسلمين ، حتى أصبحت حملاتها ضدهم حالة دورية ، وكأنهم مصدر كل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية لكسب مشاعر الشارع اليميني ، والقاء أسباب كثير من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية عليهم ، مما يعبىء الشارع ويوجهه ضدهم ، ويرفع منسوب العداء والكراهية لهم ، ويؤجج الشعبوية نهجا وخطابا وسلوكا .  

لا بد من الاقرار بأن العلاقات بين المسلمين والمجتمعات الاوروبية مستقرة ، وطبيعية بشكل عام حتى الآن ، لكن يخشى من عواقب الاستثمار السياسي للاحزاب والحركات اليمينية المتطرفة ، على مستقبل العلاقات . وهناك في السنوات الاخيرة اعتداءات عنصرية ضد مئات المساجد في غالبية البلدان الاوروبية ، واعتداءات أقل ضد مسلمين أو مسلمات بسبب حجابهن مثلا ، أو لأسباب عنصرية ، مثلما أن هناك حوادث عنف يرتكبها متطرفون مسلمون ، كجريمة قتل مدرس التاريخ الفرنسي الأخيرة ، والتي رد عليها المتطرفون فورا بالاعتداء بالسلاح الأبيض على امرأتين مسلمتين في باريس .  

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، ففي السويد لاحظنا خلال سنوات أن كل اعتداء عنصري يطال  مسجدا ، يحفز عشرات أو مئات السويديين ليبدوا تضامنهم مع المسلمين ويقدموا التبرعات دعما للمساجد واصلاح ما يخربه المتطرفون . كما إن الحكومات والسياسيين عموما يتصرفون بهذه الطريقة الحكيمة ، مما يخفف من آثار الاعتداءات . وقد شارك ملك السويد بنفسه ببلسمة جراح المسلمين وزار المساجد تعبيرا عن تضامن الدولة معهم . 

 ولذلك لا بد من التأكيد على أهمية دور الحكومات والاحزاب والبرلمانات وأجهزة الدولة ، وخاصة الشرطة لعقلنة تصرفاتها ، وردود افعالها ، وترشيدها ، ومعالجتها وفق القانون لا بعقلية الانتقام ، وهو ظاهرة ملفتة في سلوك الشرطة الفرنسية دون سواها .             

سادساً – لا بد من القول بصراحة إن سلوك فرنسا أكثر من أي بلد آخر في أوروبا الغربية أخذ يجنح بقوة نحو التشدد والتضييق على المسلمين ، منذ ثمانينات القرن العشرين ، بحجة المحافظة على العلمانية وثقافة الجمهورية الفرنسية . إلا أن الأمر ينحو منذ الأزمة التي اخترعوها قبل ثلاثين عاما (الحجاب) منحى متطرفا ، وكأن لفرنسا “عقدة” من الاسلام ، أو أنها تواجه “تحديا” حضارياعميقا تتحاشى الاعتراف به ، ولكنها تترجمه بطريقة عصبية وهستيرية أحيانا ، نلحظه في السلوك البوليسي المشوب بالعنصرية ، وهذا ما يسبب أزمات وردود أفعال كالتي رأيناها في مناسبات عديدة . أصل العقدة أو الأزمة أن ما لا يقل عن عشرة ملايين مسلم ، أكثريتهم مهاجرون طبعا ، اكتسبوا الجنسية ، خصوصا من أصول عربية وافريقية ، وأقلية منهم فرنسيون أصيلون اعتنقوا الاسلام عن قناعة وايمان . وبعض هؤلاء من كبار العلماء والمفكرين والنجوم الشعبيين ، أمثال الفنان المستشرق ناصر الدين دينييه ، والفيلسوف رجاء غارودي ، وعالم الجراثيم موريس بوكاي، والطبيب النائب فيليب غرنييه ، ومغني الراب اخناتون ، ونجوم كرة القدم فيليب ريبيري ، واريك ايبيدال ، ونيكولاس انيلكا ، وفيليب تروسيه .. إلخ ، لقد أحدث تحول هذا العدد الكبير من نجوم المجتمع الفرنسي للاسلام صدمة قوية للفرنسيين ، ومثل تحديا للجميع ، دفعهم للتساؤل : لماذا يعتنق هؤلاء العظماء الاسلام إذا لم يكن دينا مقنعا ؟؟! وترد النخب اليمينية المعادية للاسلام على هذا التحدي المحرج والمقلق بتلك الاساليب ذات الطابع الهستيري والعصابي وتجعلهم يتوجسون ذعرا وقلقا من احتمال انتشار الاسلام ، واضمحلال الجنس الفرنسي الأبيض . 

سابعاً – علينا القول بنفس الشفافية والمصارحة إن توظيف الأزمة من جانب بعض الدول الاسلامية ( تركيا مثلا ) وكذلك بعض الاحزاب والمنظمات السياسية الاسلامية ، واستغلال تصريحات الرئيس ماكرون للنيل من فرنسا لأسباب سياسية ، قد تعود بالربح السريع عليها داخل بلادها ، إلا أنها بهذه الطريقة تجني جناية خطيرة على الجاليات المسلمة في أوروبا ، والتي تناهز الثلاثين مليون مسلم . وإذا أخذنا استغلال القيادة التركية للأزمة الحالية لتصفية حسابها مع فرنسا ، نجد أنها أخذت تنعكس على الجاليات التركية سلبا ، وتجعلهم عرضة للانتقام المادي والاقتصادي من سلطات الدول التي يعيشون فيها ، ومن قواها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، ويعود عليها بالضرر الفادح حتما . وكانت هذه السياسة القصيرة النظر قد بدأها ألرئيس اردوغان منذ 2016 عندما توترت علاقاته مع هولندا والمانيا، ولم تكن معهودة بتاتا من تركيا في الماضي ، بل كانت الجاليات التركية الأبعد بين الجاليات المسلمة عن توظيف الدين لاغراض سياسية ، وكانت حكومتهم تصدر لهم تعليمات صارمة بتجنب أي نشاط سياسي . 

 وعلى تركيا ، وبقية الدول الاسلامية تجنب التعامل مع جالياتها في الدول الأوروبية كأنها ذات وصاية دائمة عليها ، لأن هذه الطريقة تظهرهم في نظر دولتهم التي يعيشون في كنفها طابورا خامسا ، ويسبب لهم أضرارا ومعاملة خاصة ، وحذرا تجاههم . 

ثامناً – إذا اتفقنا على أن داعش حركة متطرفة وتتبعنا ظروف انتشارها وطبيعة الأدوار التي أدتها في الشرق والغرب ، سنجد شبهات قوية على ضلوع الأجهزة الايرانية في توجيهها واستغلالها لتنفيذ استراتيجياتها العدوانية ضد العرب والاوروبيين ، وخاصة المسلمين السنة ، والدول العربية ، وممارسة الابتزاز والانتقام من الدول الاوروبية بسبب سياساتها المناهضة لاطماع ايران ، وتنطبق الشبهة على جريمة الداعشي الشيشاني قاتل المدرس الفرنسي أخيرا ، لأن صاحب المصلحة الرئيسية فيها هي ايران أولا ، كما كشفت سابقا ضلوعها في ضربات داعش الدموية المؤلمة لفرنسا في عامي 2015 – 2016 بسبب سياستها الرافضة لجرائم الأسد ضد الشعب السوري ، ولكن تلك الضربات ساهمت في دفع الناخبين الفرنسيين لهزيمة الحزب الاشتراكي الفرنسي وفتح الطريق أمام اليمين العنصري والمتطرف للوصول الى الى الغالبية البرلمانية والرئاسة . وهناك قرائن كثيرة تدفع باتجاه اتهام الاستخبارات الايرانية بتورطها في هذه الجرائم القذرة لتحقيق مكاسب سياسية على حساب فرنسا وعشرات ملايين المسلمين المهاجرين في آن واحد ، وخاصة شيطنة الاسلام السني وتصويره دينا متطرفا متوحشا ارهابيا .  

إن تركيا وايران تلعبان اللعبة ذاتها على حساب الاسلام نفسه ، واستغلال الأزمات لجني مكاسب سياسية على دماء الناس من الجانبين . ولولا هذا الاستغلال الانتهازي لكان الاسلام في اوروبا بألف خير ، يتقدم ويتوسع ويتجذر بدون مشاكل ولا اثارة ولا استفزاز . 

لذلك فإن الحل هو مقاومة أي توظيف انتهازي وسياسي للاسلام من خارج الدول الاوروبية التي فتحت ابوابها على مصاريعها أمام الاسلام المهاجر واللاجىء ، أي الهارب من بلاده جراء القمع والتطرف الحكومي ، وغياب الحريات والاعتراف به ، وافتقاره لحرية النشاط في البلاد الأصلية العربية والاسلامية .  

ونحن على يقين نابع من الخبرة والتجربة في اوساط الجاليات المسلمة طوال اربعين عاما في اوروبا أن الاسلام الاوروبي سيكون له مستقبل زاهر في مجتمعاته الجديدة ، وفي بلاده الأصلية ، كوسيط حضاري وثقافي معاصر بين الغرب والشرق ، وعن قدرته على التبشير بقابلية الاسلام للتكيف مع العلمانية ، والديمقراطية ، ونقل تجاربه الحية الى البلدان العربية والاسلامية بطريقة بعيدة عن التخويف من العلمانية والديمقراطية والتصورات المعادية لها والمفاهيم المغلوطة .   

ما الحل ..؟ 

تاسعاً – إن الاحتكاكات والتوترات بين المسلمين والأوروبيين بسبب نشر الرسوم المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم في الصحافة ووسائل الاعلام الأوروبية والغربية عموما ، استفحلت وباتت تشكل أزمة سياسية في العلاقات الدولية بين خمسين دولة مسلمة والدول الأوروبية ، ومع تفهمنا لقداسة الحرية في المجتمعات الاوروبية منذ الثورة الفرنسية قبل قرنين ونيف ، ورفضهم القاطع لسلطة الكنيسة ورجال الدين والمنظمات الدينية فإن على الأوروبيين جميعا احترام معتقدات الآخرين ، وخاصة الاسلام ، لأن هناك إجماعا بين جميع المسلمين على رفض الاساءة للرسل والانبياء بهذه الطريقة ، ورفض تصنيفها ضمن حريات التعبير، لأنها أقرب للسخرية من ثقافة ومعتقدات مليار ونصف مليار مسلم ، ولا تخدم أبدا السلم والتعايش المشترك ، ولا تتسم بالعقلانية والحكمة والأخلاق . فلو كانت المسألة مسألة أبحاث علمية تتناول الأديان والانبياء لكان الأمر مقبولا حتى ولو تضمنت تشكيكا أو تطاولا عليهم ، أما أن تتحول هذه الصور الى طريقة متعمدة لتحقير الأسلام والمسلمين فإنه لا يعود جزءا من حرية التعبير ولا حقا من حقوق الانسان ، ولا شيئا من حقوق الفن والرسم والكاريكاتير بل يصبح حربا اعلامية وثقافية على الاسلام والمسلمين .  

وكما نرى فقد ردت الشعوب المسلمة بقوة وعنف على هذه الحرب ، وباتت تنذر بأضرار ومخاطر كبيرة على التعاون الاقتصادي والسياسي والاستقرار والسلم الدوليين ، ولذلك لا بد من معالجات ومقاربات سياسية وفكرية وأخلاقية ، تتسم بالانصاف والحكمة والتوازن والموضوعية تحفظ حقوق الاطراف كافة وتحقق الاحترام للجانبين .  

ونحن نعتقد أن على الأمم المتحدة أن تقوم بدور حاسم لحل المشكلة ، وذلك بوضع تشريع أو وثيقة خاصة تحظر التعرض للمعتقدات الدينية كافة ، لا للاسلام فقط ، أو للمسيحية أو لليهودية أو للهندوسية .. إلخ . وعلى الدول الغربية وغير الغربية تضمين قوانينها ودساتيرها مثل هذا ( المبدأ ) . وعلى المجتمع الدولي مراجعة الميثاق العالمي لحقوق الانسان الذي وضعه عند تأسيس الأمم المتحدة ، وتضمينه نفس المبدأ .    

عاشراً – إن حملة المسلمين الدفاعية عن رسولهم وعن معتقداتهم ، لا تعني أنهم ضد الديمقراطية ، كما يظن بعض الاوروبيين الذين يتهمون المسلمين بأنهم شعوب غير مهيأة لأن تكون ديمقراطية ، وهذا التصور ينطوي على عنصرية كريهة . وكذلك الفهم الشائع على نطاق واسع بأن الاسلام يناهض الديمقراطية ، وغير قابل للتحرر والقبول بالآخر ، وأنه يحض على العنف والارهاب وقتل الآخر . والحقيقة أن هذه المفاهيم الخاطئة تعود الى العصور الوسيطة ، وليست جديدة ، وهناك آلاف الكتب والرسوم التي تسخر من الرسول الكريم ، وتهزأ بالمسلمين وعقيدتهم وثقافتهم . وعلينا نحن المسلمين واجبات كبيرة بالعمل العلمي المنظم لتصحيح الصور المغلوطة حول الاسلام والرسول . ويتعين على الدول والمنظمات الاسلامية الكبيرة وضع خطط وميزانيات كافية للانفاق على نشر كتب وافلام وابحاث وعقد مؤتمرات تصحح الصورة وتنشر الوعي الصحيح عن كل ما يتعلق بالاسلام وكذلك على المنظمات الاسلامية في اوروبا الاضطلاع بمسؤولياتهم ، والقيام بمهامهم على هذا الصعيد ، وهي قادرة ولكن تنقصها الامكانات المالية ، ولذلك يجب التعاون بين جميع الاطراف لنشر الوعي والفهم الصائب بحقائق المعتقدات الدينية ، لأن نتائج ذلك تعود بالخير على الجميع .  


المصدر: المدار نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى