اتسع الخرق على الراتق، وحين يصبح وضع الخروق في الوطن على هذه الشاكلة فإن الحصانة الرئيسية تأتي من العودة إلى الأصول في تحديد معنى هذا الوطن وهويته وطبيعته، وأخطر ما يمكن أن يقع فيه العقل السياسي الجامع للوطن هو أن يحاول سد الثغرات التي تظهر في بنية هذا الوطن لأسباب مختلفة فيلجأ الى الترقيع هنا والتنازل هناك بزعم أن من شأن هذا أن يجمع المتفرقين، ويلم شعث المختلفين، وهو حين يقبل ذلك فإنه يكون مساهمًا في إقامة بيئة وهياكل ومؤسسات لهذا الوطن هي نفسها التي تولد يوما بعد يوما عوامل التجزيئية والتقسيم، اي يكون من حيث لا يدري مساهما في تفتيت هذا الوطن.
شطر مما ورد في تفاصيل هذا البيان مما لا خلاف عليه، لكنه ليس هو المقصود والمهم، إذ هو موجود في كل البيانات ولدى كل القوى والأطراف، فلا خلاف على ضرورة العدالة الانتقالية والمواطنة، والديموقراطية، وان تكون السيادة للشعب وأن يكون القضاء مستقل ، وان يتم تداول السلطة سلميا عبر صناديق الاقتراع ، وتحديد وظيفة الجيش والامن… الخ، نقول لا خلاف على كل ذلك لكن الأمر يختلف حينما يتم التطرق والتعريف بالوطن ومكوناته وبالمواطنة وتجلياتها.
الوطن ليس جغرافيا، على أهمية هذه الجغرافيا، والوطن ليس دينا على أهمية ومركزية الدين في حياة الشعوب، والوطن ليس لغة على مكانة اللغة في التكوين التاريخي للشعب والأمة، الوطن هو هذا كله عبر تاريخ ممتد يتم خلاله صناعة الوطنية والانتماء والشعور بالارتباط والوحدة الاجتماعية والثقافية والروحية. وييتم من خلاله صناعة هذه الوحدة من خلال غنى التنوع الذي يضمه هذا الوطن.
ما يجب الانتباه إليه بداية أن المتحدثين باسم الأكراد، وباسم الآشوريين، وباسم التركمان، وباسم الأرمن، وباسم السريان، في هذا البيان وفي مواقع أخرى، إنما يتحدثون باسم تنظيمات ومشاريع سياسية تريد أن تحتكر وبالقوة صوت هذه المكونات السورية وتتحدث باسمهم، وبالتالي أن تنتزعهم من الجسد الوطني السوري لتكون وتبني لهم جسدا جديدا بمميزات مصطنعة مفروضة.
يمكن الوقوف بالتفصيل عند كل نقطة من النقاط الذي طرحها البيان، لكن فائدة هذا محدودة، فالأصل أن نحدد الأصول التي نراها في سوريا الوطن، وهي أصول لا تختلف من بلد إلى بلد، ولو اختلفت الشعوب التي نتحدث عنها أو الدول التي نستشهد بها لأنها اصول تتعلق بمفهوم المواطنة والوطن:
** سوريا وطن واحد موحد، لكل أهله، وهي غير قابلة للتجزئة أو التقسيم، ولا يجوز قبول أي وضع يساهم لاحقا في تجزئة هذا الوطن، ومما يؤكد هذه الوحدة للوطن والمواطنين، حق المواطنين التام وغير المقيد في الانتقال والتملك والعمل في اي جزء من أجزاء هذا الوطن، إن التلاعب بهذا الحق تحت أي اعتبار أو حجة يعني أن شعار الوطن الواحد، والمواطنة الواحدة شعار كاذب مخادع.
** واستنادا إلى النقطة الأولى فإن سوريا لا تحتمل أي تقسيم إداري ذو صبغة سياسية أو عرقية أو مذهبية أو دينية، فالأديان والمذاهب والأعراق، كما الأحزاب والمؤسسات الثقافية والروحية منبثة في كل الوطن السوري، ومفتوحة لكل مواطن سوري، وموجودة في كل مكان تدعو الحاجة إلى وجودها، أو يرغب أهلوها في إيجادها.
ليس هناك في سوريا جغرافيا للعرب، أو للأكراد، أو للآشوريين، أو للتركمان، أو للأرمن، أو للسريان.
** الدولة السورية المبتغاة دولة واحدة تتمثل وحدتها في وحدة السلطة، ووحدة الجيش ووحدة أجهزة الأمن الرئيسية، ووحدة المجلس التشريعي، ووحدة التمثيل الخارجي، ووحدة العلم، ووحدة النشيد الوطني، واستنادا إلى هذه التجليات لوحدة الدولة يبحث السوريون عن أنظمة إدارية تكون أكثر فاعلية وتجسيد لروح العدالة والمساواة والتنمية المتوازنة، والحرية الشخصية والاجتماعية، وحماية السلم الأمن الأهلي، وكل هذه ينظمها الدستور السوري وينظم العلاقة فيما بينها.
** الدولة السورية دولة ديموقراطية مدنية، وليست دولة دينية ولا استبدادية، الدستور لا يكرس سيطرة أحد أيا ما كان على الدولة، والسلطة السياسية تنتقل بين المكونات السياسية للدولة، وفق قواعد العمل الديموقراطي، لاحزب قائد ولا زعيم قائد، ولا سلطة خالدة، ولامفاهيم تكرس هذه القيم البالية.
** وفي إطار ما سبق تلتزم الدولة السورية، ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية بأن تقيم وتبني كل الإطارات والأشكال والمؤسسات التي تساعد مكونات المجتمع السوري على ممارسة حقوقها الثقافية والروحية، والتنموية، والسياسية بدون أي انتقاص، مستهدفة بذلك زيادة فعاليتها الوطنية، وتأثيرها في القرار الوطني، إن لكل هذه الاطارات والمكونات وظيفة وطنية، ووظيفة اجتماعية، ولايجوز أن تكون إحدى الوظيفتين على حساب الأخرى.
** من منظور المواطنة، ليس في سوريا التي نريد مكان لمفهوم الأكثرية والأقلية، سواء كانت مرجعية هذا المفهوم دينية أو عرقية أو مذهبية، السوريون جميعا متساوون أمام القانون الوطني، متساوون بالحقوق ومتساوون بالواجبات، ومتساوون بالمسؤوليات، وإذا كان هناك تشخيص لحالة ووضع يعاني نتيجة ظروف اجتماعية أو ثقافية أوقيمية أو جنسية أو مناطقية من هضم لحقوقه أو تعطيل لقدراته، فإن على مؤسسات الدولة أن تقر برامج عناية خاصة مؤقتة لمعالجة هذا الوضع حتى تستقيم مفاهيم المساوة في الواجبات والمسؤوليات، وحتى يتم واقعيا تجاوز مفاهيم الأقلية والأكثرية اجتماعيا وثقافيا.
** ومن منظور المواطنة أيضا، فإن سوريا الجغرافيا والتاريخ ليست نبتة في صحراء قاحلة، وليست منبتة الصلة عمن حولها، السوريون جزء من محيطهم، وهويتهم جزء من هوية محيطهم.
ومحيطهم، وتاريخهم، وبيئتهم، وثقافتهم، وعطاءهم، ومساهمتهم في البناء الحضاري المستمر منذ 1400 سنة على الأقل، جرى كله في الإطار العربي الإسلامي، هذه هي هوية المجتمع السوري، وقد اختزنت هذه الهوية حضارات وعطاءات الشعوب التي عاشت في هذه المنطقة قبل الاسلام، وتمثلتها فأصبحت تلك العطاءات جزءاً من تجليات الحضارة العربية الإسلامية، ومكونا من مكونات الشخصية السورية.
** في المجتمع والدولة السورية ليس للعرب مزية على غيرهم، لا في الحقوق ولا في الواجبات، فكل السوريين سواسية ، والثقافة العربية الإسلامية هي ثقافة الجميع، هي الثقافة التي أظلت هذا المجتمع بظلها كل الفترة الماضية، نحن لا ندري من المقصود حين يتحدث البيان عن العرب، عن المكون العربي، هل يقصد العرق العربي، أم يقصد الثقافة العربية الإسلامية، أم ماذا، وكيف له التحدث عن الأكراد والآشوريين، والتركمان، والأرمن، والايزيديين ، ولا يتحدث عن السنة، والعلويين ، والشيعة، والدروز، إذ ما دام تقسيم المجتمع السوري والتعريف به عندهم يقوم على أساس “عرقي طائفي” فإن هذا التقسيم يجب أن يذهب الى مداه.
نحن لا نتعقد ولا نؤمن بأن العرب عرق، هذا موقف تاريخي وحضاري وديني، العرب ليسوا عرقا، والانتماء للعرب ليس انتماء عرقيا، والحضارة العربية الإسلامية، ليست حضارة العرب، وليست حضارة المسلمين، وإنما حضارة كل أبناء هذه المنطقة بمختلف دياناتهم وأصولهم، الذين ارتضوا أن تكون حياتهم، وأن يكون انتاجهم الحضاري والعلمي والروحي والقيمي، وأن يكون تفاعلهم في ظل هذه الهوية، في ظل لغتها ودينها ومعاركها واسلوب حياتها المشترك.
** لا ندري ماذا يعني وجوب اقرار الدستور الجديد بأن سوريا دولة متعددة القوميات والثقافات والأديان، وبالتالي يجب ان تكون متعددة اللغات، وكيف يمكن البحث عن حل ديموقراطي وطني لهذا التعدد وفق القوانين الدولية، وهل هناك دولة في العالم يمكن أن نتخذها نموذجا لهذا القول، هل ألمانيا أو تركيا ، أو اسبانيا ، أو فرنسا، أو روسيا، أو الولايات المتحدة، أو أي دولة أخرى هي كذلك.
ثم كيف يكون الاعتراف الدستوري ب”هوية الشعب الكردي القومية”، وكأن “الشعب الكردي” موجود في محيط الدولة السورية المرتقبة، ويريدون منا الإقرار بهويته القومية، هل يريدون أن تبدأ سوريا المستقبل بنص دستوري يخلق مشكلة عضوية مع دول الجوار.
** في تحليل القوى المكونة لهذه الجبهة لا نرى فعلا إلا المشروع السياسي الانفصالي الكردي، والباقي مجرد تزيين وتحسين لهذه الصورة، وفي هذا المشروع لا نرى أيضا إلا الظلال الكثيفة لحزب العمال الكردستاني الكردي، ولو باسماء متعددة.
ويجب أن يكون واضحا هنا، ـ وهو وضوح يسنده ويعززه التاريخ الممتد لنحو مئة عام خلت ـ ، أنه لم يكن في سوريا ما يمكن أن ندعوه ب”المشكلة الكردية”، وليس في الجغرافيا السورية ما يمكن أن نسحب عليه لفظ مناطق كردستانية، القضية هنا حديثة جدا، لا تزيد أولى بدايتها عن مئة عام خلت، ثم تم استنباتها وتنميتها ورعايتها حتى باتت الآن تهدد الوجود السوري.
أربع عوامل تكاتفت في إظهار وإنبات ورعاية هذا الملف، نوردها دون توسع ولمن أراد المزيد أن يعود إلى أي مصدر حديث يبحث هذا الأمر:
1ـ السياسية الأتاتوركية في مواجهة ثورة الشيخ سعيد بيران 1925، والتي كانت ضد سياسات أتاتورك المناهضة للإسلام ، وبالتالي فهي ليست ثورة كردية، وإن كان زعيمها كردي الأصل، وموطنها حيث تعيش أغلبية كردية، وإنما هي ثورة إسلامية، لكن عنف المواجهة دفع بعشرات الآلاف من الأكراد سكان منطقة الثورة ( ديار بكر، وماردين)، لمغادرتها إلى أقرب منطقة لديارهم وهي الأراضي السورية، وهؤلاء اقاموا في مناطق الحدود السورية التركية،واقام معهم في الوقت نفسه ولظروف مشابهة نوعا ما مهاجرون أرمن.
2ـ سياسة الحزب الشيوعي السوري ( والحركة الشيوعية عموما) على مدى خمسة وأربعين عاما ( تاريخ الانقسام في هذا الحزب)، بقيادة زعيمه التاريخي خالد بكداش الذي كان حريصا على تنمية الانفصالية الكردية، وتعزيزها، وهو أمر لاحظه قادة هذا الحزب، وتحدثوا عنه، وأثبتوه في وثائق الحزب حينما تفجر الخلاف فيما بينهم أواخر الستينات، وهو الخلاف الذي آل أخيرا إلى انقسام الحزب.
3ـ سياسة حزب البعث في سوريا، وخصوصا في حقبة الحكم الاسدي حيث جعل من الصراع “التركي ـ الكردي”، واحدة من وسائله في الضغط على تركيا بشأن قضايا الماء والأمن وغيرها، وأسهم في تنمية حزب العمال الكردستاني، ( وحزب مماثل أرمني)، وتمدده داخل سوريا، وحين اضطر أمام التهديدات التركية إلى تغيير هذه السياسة ولو جزئيا، كان هذا الحزب قد حقق التمدد التنظيمي، والاختراق الفكري والسياسي داخل المكون الكردي السوري.
4ـ سياسة الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني والمعروف باسم حزب الاتحاد الديموقراطي(أنشئ عام 2003)، القائمة على سياسة العنف والتهجير والتطهير العرقي في المناطق السورية التي سيطر عليها بتواطؤ مباشر من النظام، وبتحالف مباشر مع القوات الأمريكية، ولم تكن قوة هذا الحزب ” PAD”، هي نتاج التفاف الأكراد السوريين حوله، فهو حزب جديد على الداخل السوري، وإنما نتاج عشرات الآلاف من مقاتلي حزب العمال الكردستاني التركي الذين استقدموا من تركيا للقتال في سوريا بعد العام 2011، باعتبار هذه المناطق كلها كما يزعمون ” مناطق كردستان”. وهو يعمل الآن من خلال سياسة الارهاب التي يتبعها في هذه المناطق، ومن خلال النظم والمواد التعليمية التي ابتدعها، ومن خلال الاعتماد على القوة الأمريكية المحتلة أن يفرض أمرا واقعا طائفيا وعرقيا في سوريا.
** يبقى أن نشير هنا إلى تكرار مفهوم الديموقراطية والحرية والسلام في هذا الإعلان، والحق أنه لم يظهر في كل ما ورد من مطالبات وتقريرات، وقبلها في سلوك لمكونات هذا الإعلان أي التزام حقيقي بالديموقراطية، والتعددية، وإن الذي كان وما زال واضحا سلوكا وعملا قائم على القهر والاستبداد والإكراه في كل المناطق التي سيطر هؤلاء عليها، إن نموذج السلطة التي أقامها PAD تتنافس بالاستبداد والقهر مع نظام الأسد. بل وتتفوق عليه في العديد من الوجوه.
** ويمكن أن نسجل أخيرا أننا لم نفهم كيف يتمشى مضمون البيان والإعلان المؤسس لولادة هذه الجبهة ” جبهة السلام والحرية ” مع القرارات الأممية، وعملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة، والقائمة على تأكيد وحدة وديمومة الدولة، والمجتمع السوري، وعلى الالتزام بخيار الشعب السوري، وعلى تأسيس دستور جديد يضمن لهذا الشعب مستقبله.
وخلاصة ما يمكن تسجيله هنا أن ما تطرحه جبهة “الحرية والسلام”، والمكونة تعدادا من أربع جهات ( المجلس الوطني الكردي، المنظمة الآثورية الديموقراطية، تيار الغد السوري، المجلس العربي القومي لأبناء الجزيرة )، هو مجرد اصطناع لا يعبر عن حقيقة قائمة على الأرض ـ كما تم اصطناع ( قسد ، ومسد)ـ وهو يستهدف تمرير غايات الإنفصالية الكردية، بثوب فضفاض، وهذا أمر لا يجوز أن يمر، ولا يجوز القبول به تحت أي اعتبار.
ونختم بالقول
إن ما سبق كله يظهر المسؤولية الخطيرة لما قام به النظام السوري حين فوت فرصة الاستجابة لمطالب الشعب في التغيير والاصلاح، وفتح بالعنف والإرهاب الذي اختطه في التصدي للحراك الثوري الباب واسعا لاستنبات أورام الطائفية والعنصرية والإنفصالية في جسد المجتمع السوري، كما يظهر وعورة الطريق الذي يجب على القوى الوطنية السورية ان تسلكه لتسترد الوطن، ولتعيد بناءه على أسس من الديموقراطية والمواطنة والهوية الواضحة المستقرة.