
يتصدر مصير سلاح حزب الله المشهد اللبناني معبرا عن أزمة عميقة تمسك بزمام الوضع في هذا البلد، وذلك في ظل قرار السلطة اللبنانية بنزع سلاح حزب الله، وقرار حزب الله الذي أعلنه أمينه العام، وعبر عنه العديد من قيادات هذا الحزب برفض القرار الحكومي والاستعداد للتمسك بهذا السلاح بكل ما يملك من قوة وبكل ما يتاح له من خيارات.
والتخلص من سلاح حزب الله مطلب “إسرائيلي أمريكي”، قبل أن يكون مطلبا شرعيا للحكومة اللبنانية، لذلك فإن التعامل مع هذا المطلب يبدو محرجا، لأنه من زاوية معينة يظهر وكأنه استجابة للإرادة الخارجية، وإسقاط للمعادلة التي سادت من قبل تحت شعار: “جيش، شعب، مقاومة”، وهي المعادلة التي اختلت أسسها نتيجة العدوان الإسرائيلي على لبنان، والضربة الهائلة التي تلقاها الحزب خلال هذا العدوان، ففقد خلالها طبقة كاملة من قياداته العسكرية والأمنية والسياسية فكانوا شهداء نظرية ولاية الفقيه، يتقدمهم أمينه العام حسن نصر الله، ونائبه هاشم صفي الدين.
ولعله من الحقيقة المؤكدة أن صدام الجيش والدولة اللبنانية مع حزب الله بشأن هذا السلاح سيؤدي إلى خطر كبير على بنية المجتمع والدولة اللبنانية، ولن يقدم أي عنصر إيجابي للدولة اللبنانية.
لكن هذه الحقيقة لا تعني أبدا أن بقاء السلاح بيد حزب الله سينعكس إيجابيا على الأمن الداخلي والوطني للبنان، خصوصا وأن استخدام هذا السلاح ضد العدو الصهيوني في ظل كل المتغيرات في المنطقة من طهران إلى لبنان مرورا بدمشق يبدو غير متاح، وسيبقى كذلك لأمد طويل.
الكل في لبنان منشغل في البحث عن طريقة للتعامل مع هذا المأزق، وحرارة الجدل الذي يخفي صراعا مكتوما تتصاعد، والانقسام يزداد، وتبدو الحاجة للوصول الى مخرج ضرورة حقيقية للحفاظ على السلم الأهلي في لبنان، ولتجاوز الألغام والأوهام التي تحملها وعود واشنطن وتل ابيب بشأن الوضع اللبناني بعد التخلص من سلاح حزب الله.
ولا يبدو أن هناك مخرج من هذا المأزق ما دام الحوار قائما بين تمسك الحزب بسلاحه، وتمسك الحكومة بموقفها في نزع هذا السلاح. أي ما دامت النظرة الى هذه المسألة محصورة في هذه الزاوية، لا بد من الخروج من هذا المأزق، ولا بد من النظر إلى هذا الملف من زاوية أخرى.
وحتى نصل إلى زاوية نظر صحيحة وصحية، تتيح حلا ممكنا لهذه المعضلة على ضوء الظروف التي يعيشها لبنان، وتعيشها المنطقة، فإن من الضروري واللازم إعادة هذا الملف إلى حاضنته الطبيعية أي إلى لبنان، ليكون ملف ” سلاح حزب الله” “مسألة لبنانية خالصة”، ينظر القائمون على الأمر في طرفي المعادلة: الدولة والحزب، إلى مصلحة لبنان، أمن لبنان، وأمن مواطنيه، وأمن السلام الاجتماعي، وأن يأتي القرار في هذا الإطار بالتحديد.
والبدء في هذا النظر مطلوب من حزب الله، على الحزب أن يقرر ويعلن بوضوح على السؤال المركزي، لماذا هذا السلاح؟ هل هو لتحرير التراب الوطني، ولضمان قوة لبنان، أم لتنفيذ استراتيجية إيرانية الحزب جزء منها؟
السؤال جوهري، لأن ما كان سابقا هو أن الحزب وسلاحه وتكوينه وتطلعه كله يأتي في إطار استراتيجية إيرانية، يتساوق جزء منها مع أغراض وتطلعات لبنانية، لكنها كلها في الأصل حاجة إيرانية، وهي حاجة بنيت على أساس من نظرية “ولاية الفقيه”، ووفقا لهذه النظرة صار حزب الله كتيبة متقدمة في استراتيجية القوة لدولة “ولاية الفقيه”. بل إن تعامل حزب الله مع الداخل اللبناني، ومع فلسطين، ومع العالم العربي والإسلامي، كلها انطلقت من هذه النظرية، وهذا الذي نقوله قاله الأمين العام الراحل لحزب الله حسن نصر الله بصريح العبارة وبالتفصيل الذي لا يبقي غموضا أو شكا.
وجميع المتابعين للوضع الشيعي في المنطقة كلها يعلمون أن نظرية ” ولاية الفقيه” لا يستحوذ على رضا علماء المذهب الشيعي جميعا، وأن لها معارضون في لبنان والعراق وإيران، لكن ظروف معينة جعلت الدولة الإيرانية بيد أنصار هذه النظرية وبالتالي وفرت هذه الدولة القوة والمال لدعم مؤيدي هذه النظرية، وجعل يدهم هي العليا في كل مكان، ولعل إعلانهم الوقوف إلى جانب المقاومة الفلسطينية حقق لهذا الموقف ولقواه قبولا مبدئا على الساحة العربية، لم يهتز، ومن ثم يتزعزع، إلا بعد مشاركة حزب الله وإيران في الجرائم التي ارتكبها النظام الأسدي في سوريا منذ بدء الحراك الثوري في سوريا في مارس 2011.
مطلوب من حزب الله، أن يغادر ساحة هذه النظرية ليعود حزبا وطنيا لبنانيا، ومن أرضيته الوطنية يطل على علاقاته والتزاماته الأخرى. بما في ذلك علاقاته مع إيران لتخرج من علاقة التبعية، إلى علاقة أقصاها التحالف، ووفق أولويات الاحتياج الوطني.
المصلحة اللبنانية الوطنية هي القاعدة التي يجب أن يلتزم بها حزب الله، ويعلنها أساسا لوجوده ولنشاطه ولاستهدافاته، الأمن والسلامة اللبنانية مقدمة على كل شيء، ومن خلالها يمارس ما يريد، وهو كحزب جزء مهم من القوى التي تصوغ مفاهيم الأمن والسلامة الوطنية للبنان.
لبنان جزء من الوجود العربي، هذا وجه من أوجه توصيف النظام اللبناني، وقضية فلسطين تتصدر مسائل الاهتمام والالتزام القومي، لكن هذا كله يتم من خلال الحفاظ على أمن وسلامة لبنان، وليس وفق ما تفرضه ” نظرية ولاية الفقيه”، ولا وفق ما تقرره طهران.
هذا الموقف من حزب الله مطلوب وضروري، بل وحاسم في رسم طريق الخروج من المأزق والاحتقان الراهن والحيلولة دون انفجاره، ودون أن نشهد وقائع أبشع بكثير مما شهدته بيروت في 7 مايو / أيار 2008. نحن نعلم أنه موقف صعب جدا، من زاوية عقدية، وصعب جدا لأنه كطلب يأتي في ” هزيمة”، وخسارة غير مسبوقة، لكن القرار الصعب يأتي دائما في الأوقات الصعبة.
وحين يتحقق ذلك، حين يفك حزب الله ارتباطه بنظرية ” ولاية الفقيه”، وبالمقابل حين تنظر الحكومة اللبنانية إلى سلاح الحزب باعتباره شأنا وطنيا ليس للجهات الخارجية علاقة به، وحين ترفض الحكومة اللبنانية مطالب واشنطن والعدو الصهيوني بشأن تدمير السلاح الذي تتسلمه، يعود موضوع سلاح حزب الله ليكون مسألة لبنانية داخلية، تبحث القوى اللبنانية الممثلة في الحكومة والبرلمان، حلا له يحفظ قوة لبنان، ويحفظ بالإضافة إلى سلاح المقاومة الطاقات الشبابية القتالية للحزب فلا يفرط بها باعتبارها ثروة وطنية وخبرة قتالية نادرة، يجب استيعابها بطريقة ما في الجسم الدفاعي الوطني، وليصبح لهذا السلاح ولهؤلاء المقاتلون بعدا استراتيجيا في حماية لبنان وجيشه وأرضه.
أي تصبح المسألة ليست سلاح حزب الله، ليس نزعه أو إبقاءه، وإنما تصبح المسألة إعادة تنظيمه للاستفادة منه، ومن مقاتلي الحزب، في بنية الدفاع الوطني اللبناني، وفق ما ترسمه القوى الشرعية اللبنانية.
وجهة نظر خاصة، رأى عدد من الأخوة الذين اطلعوا عليها أن تقبلها من الحزب وبيئته عسير جدا، وأنا أقر بذلك، لكنها تمثل الموقف الصعب الضروري، وهي بالطبيعة تحتاج الى قيادة في الحزب استثنائية، ترقى إلى ما يمكن اعتباره مستوى “القيادة التاريخية”.
وجهة نظر لعلها تكون مفيدة في مقاربة ملف من أخطر الملفات التي يواجهها لبنان خلال هذه الأيام.
18 / 8 / 2025