عودة إلى زمن يبدو الآن بعيداً، ولكنّه ليس كذلك؛ أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2019؛ انتفاضة شبابية تبدأ بالاحتجاج على رفع تسعيرة الهاتف المحمول، وتتحوّل بسرعة إلى انتفاضة وطنية شعبية. والقصد من “وطنية” أنها تجمع (للمرّة الأولى) أبناءَ الطوائف اللبنانية كافّة. ودليلها أنها ترفع صوراً مرفقةً بشعار لاقى رواجاً، “كلّن يعني كلّن”، عليهم كلّهم أن “يرحلوا”. وفي الصورة وجوه كبار زعماء الطوائف اللبنانية. ومنذ البداية، كانت المشكلة أن من بين هؤلاء المطلوب منهم أن يتنحّوا، زعيم حزب الله، الراحل حسن نصر الله. فكانت مشكلة وبلْبلة، وتحمّست موجة قوية بين المتظاهرين، المشاركين والمُحتمَلين، للشعار، لكن مع حذف صورة حسن نصر الله واسمه. لماذا؟ … ناس تقول إن نصر الله فوق الشبهات، وأخرى لا تريد أن تستفزّ حزبَ الله، إذ تخشاه وتخشى “بيئته”، فمشى بعضهم مستغنياً عن الصورة كلّها تفادياً للإشكالات المتوقّعة، وبعضهم الآخر أصرّ عليها، فاعتُبِر مشاكساً.
وعلى العموم، الانتفاضة أُجهِضت، ولم يبقَ منها إلا ذكريات السعادة المؤقّتة التي غمرتنا. هل حزب الله، بهجماته المتفرّقة والمتنوعة، وبكلمات نصر الله المُخوِّنة لحشودها، خنق الانتفاضة وقضى عليها؟ ربّما هذا عامل مهمّ، ولكن هل كان لحزب الله أن يكون وحده لو لم يستجب له الزعماء كلّهم الذين رُفِعت صورهم، ومن دون أن يشكّل الحكومة تلو الأخرى، ويفرض القرار تلو آخر، أو الرئيس، أو القاضي، أو المصرفي الأرفع؟ ولو لم تُفرَّغ جيوب اللبنانيين في فضيحة سرقتهم بيد البنك المركزي، ولو لم تفرض جائحة كورونا على الجميع إغلاق أبواب بيوتهم على أنفسهم؟
الآن، حسن نصر الله في ديار الحقّ، والذين ارتقوا بفضله ما زالوا في قيد الحياة. والصورة تحقّقت؛ غاب نصر الله، وبقي الزعماء الآخرون. مَن هم هؤلاء الباقون؟ … إنهم في العموم رجالٌ مدينون لحزب الله بارتقائهم، ببقائهم في رأس “الدولة”، يصدّرون صورة “دولة” إلى الخارج في مقابل “التعايش معه بسلام”، أي غضّ طرفهم عن انتهاكات الحزب كلّها ضدّ هذه “الدولة”. ومن عناصر القوة لهذه المقايضة أن أولئك الزعماء كلّهم يغرفون من الصحن نفسه، أي الطوائف والمذاهب. من ألطفهم حتى أغلظهم، يخاطبون “جمهورهم”، أبناء طائفتهم، انطلاقاً من “مصالحها”، أي حصصها وامتيازاتها بالمقارنة مع الطوائف الأخرى، وبنوع من التجييش العلني لمشاعر هذا الجمهور، وهي دائما طائفية. ولسان حالهم يبدأ بالحملة الانتخابية، ويمرّ بمطهر التوظيف والحصّة و”الكومسيونات”، ولا يتوقّف عند صفقات وضغوط وتوتّرات من أجل زيادة هذه الحصص أو إنقاصها.
هل كان لحزب الله أن يحقق ما ما حقّقه في لبنان لو لم يستجب له الزعماء الآخرون؟
وإن جاء في بال أحدهم ألا يغضّ الطرف، ينطق بكلماتٍ ضعيفة، لا صدىً لها، تكاد تصل إلى أصدقائه أو وسطه الضيّق. ومن الشطارة بمكان أن يتمكّن من تسريب انزعاجه إلى إحدى الصحف أو إلى واحد من المواقع الإخبارية. مثل تلك الكلمة التي ردّدها غيرُ سياسي؛ “ضرورة النأي بالنفس” عن الحرب في سورية، عندما كان الحزب يحارب إلى جانب بشّار الأسد. و”النأي بالنفس” تحوّل واحدةً من النكات، تلقّفتها مسرحيات واسكتشات، عنوانها سؤال كوميدي واحد، “وينيّة الدولة؟” (أين هي الدولة؟).
في مقابل هذه الحماية للحزب، أو كلّما تحمّس هذا الزعيم أو ذاك في مدحه والتقرّب منه، كان نصيبه من غنائم الدولة أكبر. مثل ذاك النائب جبران باسيل، وعمّه ميشال عون، منذ عقدين من الزمن، عندما وقّع الأخير مع زعيم حزب الله حسن نصر الله “مذكّرة تفاهم”، وهي تقضي بأن يلتزم عون بحفظ سلاح الحزب، في مقابل أن يصعد هو إلى كرسي رئاسة الجمهورية. وفي الأحوال كلّها، ومهما اختلفت الدرجات وتموّجات اللحظة، كان أولئك الزعماء يحصدون خيراً عميماً من سكوتهم عن الحزب وتسيير أعماله، وكلّه في مقابل وصولهم إلى أحد مواقع البلاد أو مغانمها. صناديق الدولة كلّها مفتوحةٌ لهم، مستباحةٌ، يسرحون ويمرحون بأموالها كيفما أصابوا، ينخرونها من أساسها، ومعها يقضون على ما تبقّى من أخلاق سياسية.
بلغ مجد فسادهم حدّ، بعد الانهيار الاقتصادي العظيم الذي خرجوا منهم مليارديريين، أن المصارف العالمية والسفارات والمبعوثين ووكالات الائتمان… وكلّ من له علاقة بالانهيار الاقتصادي (هؤلاء كلّهم الذين يتلخّصون في كلمة “المجتمع الدولي”)، صاروا يعظون أولئك “الزعماء” بالأخلاق السياسية الحَسَنة، بالحوكمة والأمانة والشفافية. بعضهم تجاوز الديبلوماسية وتبنّى لهجةً مؤنِّبةً، وما كانوا فعلوا لو لم يلتقطوهم بالجرم المشهود؛ يصفون بدقّة تجاوزاتهم للقانون، وسرقاتهم الموصوفة، وفسادهم العضوي، المنظَّم والعميق. ولكثرة منافذه “وإنجازاته”، صار هذا الفساد دليلاً عملياً للمواطنين الذين أرادوا تسيير أمور حياتهم، فباتوا لا يستهلّون تلك الأمور إلا بالتواطؤ معه. ولكنّهم اليوم يواجهون تحدّياً غير مسبوق، بعد الحرب الإسرائيلية على حزب الله، والقضاء على سلاحه (؟)، بل أثناء تلك الحرب. على هؤلاء الزعماء خلع اللباس القديم، وارتداء الجديد الذي يفصّله “المجتمع الدولي”، ويقولون إنه يليق بهم، أو يتصرّفون على هذا الأساس. بمعنى أنهم متغاضون عن سقطاتهم السابقة بالتعاون مع حزب الله، وعن انعدام ضميرهم ومسؤوليتهم (يسمّونهم “مسؤولين”)، وهم مستعدّون لأن يعملوا بالأريحية اللازمة لمشروع جديد يقع في نقيضه.
الذين ترعرعوا تحت ظلّ حزب الله مطلوب منهم اليوم أن يقودوا مرحلةَ ما بعده. بأيّ عقلية، بأيّ أخلاقيات أو عبارات أو مشاريع؟
قد يتبادر إلى خاطر أحدهم أن هذا الانقلاب صعب. أو أن الصعوبة تزيد مع درجة التقرّب والالتصاق بحزب الله أثناء فترة سطوته على لبنان. والأمر لا يجري تماماً في هذا “الانتظام” العقلاني، فما أن بادر الخارج بطرح مشاريع ومراحل والتزامات جدّية بالتخلّص من الحزب، حتى خرجت التنوّعات. أولهم (أشهرهم ربّما) جبران باسيل نفسه الذي صنع مجده من تفاهمات عمّه مع حزب الله، وكان يشجّع قبل شهرين حزب الله على مشاغلة إسرائيل، لم يتأخّر في تعديل بوصلته، وهو يؤكّد مثلاً أن عديداً “من اللبنانيين يشعرون بالسعادة لأن سلطة النقض التي يتمتع بها حزب الله قد تحطّمت”. وعلى الخطى نفسها يسير الآن زعيم طائفة أخرى، وإن بأسلوب مختلف. أما أكثرهم شراهة، ونال قسطاً من العُلى بفضل حزب الله، وبفضل علاقاته بالمخابرات السورية، فهو ذو أنف مرهف، يلتقط اتجاهَي الريح، يهجو حزب الله بكل ما أوتي من قاموسه الجديد الملائم للمرحلة، ولكنّه لا يتخلّى عن قاموسه القديم في مغازلة حزب الله، أو في علاقته بالمخابرات السورية. وثالثهم وزير سابق، كانت له جولات وتسويات وتفاهمات مع حزب الله، أقل وزناً من تلك التي أبرمها زميله أعلاه. ولكنّه (الوزير) أكثر يقظة من الاثنين الأولين، يتخيّل المرحلةَ المقبلةَ بقيادة الزعماء أنفسهم، أي بقيادته هو لطائفته. يدغدغ مشاعرها “الوطنية”، يضرب على وترها الحسّاس، ثمّ ينتقل إلى النقطة الأكثر أهمّية من أنه لا بدّ أن يكون الحكّام المقبلون هم أنفسهم الحكّام الحاليون، أي الزعماء الذين نحن بصددهم. لماذا يا سيادة الوزير؟ … “لأنه يستحيل أن ننظم انتخابات نيابية من الآن وحتى عشر سنوات مقبلة، وربّما أكثر. وهو الوقت الذي سنحتاجه لإعادة الإعمار”. أي أن نهوض لبنان بعد الحرب سيتمّ بيده، وبيد نظرائه من زعماء الطوائف المثبّتين.
وثمّة اختلاف بالوتيرة بين الباقين. المستعجلون لنهاية الحزب (وهم زعماء طوائف أيضاً) درجوا على معارضة الحزب من داخل النظام الطائفي، يحمّسون جمهورهم. أمّا “المتباطئون”، فإمّا ينتظرون خاتمة الحرب، أو أنهم ما زالوا يخشونه، أو لم يعتادوا بعد على غيابه، أو أنهم غير قادرين على تصوّر لبنان من دونه، أو أصيبوا بمتلازمة ستوكهولم (تعاطف الفرد مع عدوه أو مع من أساء إليه). ونأتي إلى المفارقة الفاقعة، وهي أن الرجال أنفسهم، الذين ترعرعوا في الفترة الماضية تحت ظلّ حزب الله وتعييناته وترقياته وتسهيلاته، مطلوب منهم اليوم أن يقودوا مرحلةَ ما بعده. بأيّ عقلية، بأيّ أخلاقيات أو عبارات أو مشاريع؟
لا يهمّ “المجتمع الدولي” الإجابة عن هذه التساؤلات، وهذا أمر طبيعي. المهمّ عنده تنفيذ خطته. هذه التساؤلات تعني أهل البلاد، وقد تكون أخبار الإجابة عنها أولى خطواتهم لإنتاج رجالٍ نظفاءَ يستحقّون صفة المسؤولين.
المصدر: العربي الجديد