يجلب كل أسبوع في ركابه مصائب جديدة للناس في الدول المجاورة لإسرائيل، بينما يحاول قادتها توسيع حدود الدولة من خلال العنف. بينما تنظر بقية العالم إلى ما تفعله إسرائيل في رعب، يبذل العديد من قادة العالم جهوداً مخلصة لتفعيل الآليات الجماعية لنظام الأمم المتحدة. وتم بناء هذه الآليات، بقيادة أميركية، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في العام 1945، لضمان أن العالم لن يغرق -“ليس مرة أخرى”- في الحروب العالمية والإبادات الجماعية.
* * *
في غزة، يبدو أن إسرائيل أطلقت “خطة الجنرالات” المصممة لدفع الناس المدمرين والمصدومين في شمال غزة إلى النصف الجنوبي من سجنهم في الهواء الطلق.
وبموجب هذه الخطة، ستقوم إسرائيل بتسليم النصف الشمالي إلى المطورين العقاريين الباحثين عن الربح والمستوطنين الذين أصبحوا بعد عقود من التشجيع الأميركي قوة مهيمنة في السياسة والمجتمع الإسرائيليين. وقد بدأت بالفعل المذبحة المضاعفة لأولئك الذين لا يستطيعون أو يرفضون الانتقال إلى الجنوب.
في 21 و22 تشرين الأول (أكتوبر)، نظم وزراء في الحكومة الإسرائيلية وقادة حركة المستوطنين مسيرة في الجانب الآخر من السياج، حيث أصوات القتال في الخلفية، للمطالبة بتسليم غزة بأكملها إليهم. ودعت ماي غولان، وزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية، صراحة، إلى إيقاع “نكبة أخرى” بالفلسطينيين.
وفي لبنان، يفر الملايين من الناس للنجاة بأرواحهم، ويجري تقطيع أجساد الآلاف إلى أشلاء في هجوم يشبه إلى حد كبير المرحلة الأولى من الإبادة الجماعية التي تُنفذ في غزة. وكما يرى قادة إسرائيل، فإن كل شخص يقتل أو يجبر على الفرار، وكل مبنى يهدم في بلد مجاور يفتح الطريق أمام المزيد من المستوطنات الإسرائيلية المستقبلية. وتتساءل شعوب إيران وسورية والعراق والأردن ومصر والمملكة العربية السعودية من سيكون التالي من بينها.
ولا تكتفي إسرائيل بمهاجمة جيرانها فقط. إنها في حالة حرب مع العالم بأسره. وهي مهددة بشكل خاص عندما تجتمع حكومات العالم معاً في الأمم المتحدة وفي المحاكم الدولية لمحاولة فرض سيادة القانون الدولي الذي بموجبه تلتزم إسرائيل قانوناً بالقواعد نفسها التي وافقت عليها جميع الدول في ميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف.
في تموز (يوليو)، قضت “محكمة العدل الدولية” بأن احتلال إسرائيل لغزة والضفة الغربية والقدس الشرقية منذ العام 1967 غير قانوني، وأن عليها سحب قواتها العسكرية ومستوطنيها من جميع تلك الأراضي. وفي أيلول (سبتمبر)، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يمنح إسرائيل سنة واحدة لاستكمال هذا الانسحاب. وإذا لم تمتثل إسرائيل لهذا القرار، كما هو متوقع، فقد يتخذ مجلس الأمن الدولي أو الجمعية العامة تدابير أقوى، مثل فرض حظر دولي على تزويدها بالأسلحة، أو فرض عقوبات اقتصادية -أو حتى استخدام القوة.
والآن، وسط تصاعد العنف الناجم عن القصف والغزو الإسرائيلي الأخير للبنان، تقوم إسرائيل بمهاجمة قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، التي تتمثل مهمتها في مراقبة وتخفيف حدة الصراع بين إسرائيل و”حزب الله”.
في 10 و11 تشرين الأول (أكتوبر)، أطلقت القوات الإسرائيلية النار على ثلاثة مواقع لقوات حفظ السلام الدولي (يونيفيل) في لبنان. وأصيب ما لا يقل عن خمسة من حفظة السلام. كما اتهمت (يونيفيل) الجنود الإسرائيليين بتعمد إطلاق النار على كاميرات المراقبة في مقرها وتعطيلها قبل أن يدفعوا دبابتين بالقوة عبر بواباته. وفي 15 تشرين الأول (أكتوبر)، أطلقت دبابة إسرائيلية النار على برج مراقبة تابع للبعثة الدولية، في ما وصفته قوات حفظ السلام بأنه “نيران مباشرة ومتعمدة على ما يبدو على موقع ليونيفيل”. ومن المعروف أن الاستهداف المتعمد لبعثات الأمم المتحدة هو جريمة حرب.
وليست هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها جنود قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان لهجوم إسرائيلي. منذ أن اتخذت قوات يونيفيل مواقعها في جنوب لبنان في العام 1978، قتلت إسرائيل جنوداً من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من ذوي الخوذ الزرقاء من أيرلندا، والنرويج، ونيبال، وفرنسا، وفنلندا، والنمسا والصين.
وقتل “جيش لبنان الجنوبي” (المعروف أيضا باسم “قوات الأمر الواقع”)، وهو جيش الميليشيات المسيحية الوكيلة لإسرائيل في لبنان من العام 1984 إلى العام 2000، عدداً أكبر بكثير من جنود يونيفيل، وقتلت جماعات فلسطينية ولبنانية أخرى أفراداً من قوات حفظ السلام. وفي المجموع، ضحى أكثر من 300 من جنود قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من جميع أنحاء العالم بحياتهم في محاولة للحفاظ على السلام في جنوب لبنان (وهي أرض لبنانية ذات سيادة، يجب ألا يخضع للغزوات المتكررة التي تشنها إسرائيل في المقام الأول). لقد مُنيت قوات يونيفيل في تلك المنطقة بعدد من القتلى أكثر من الذين قتلوا في أي من مهمات حفظ السلام الاثنتين والخمسين التي اضطلعت بها الأمم المتحدة في جميع أنحاء العالم منذ العام 1948.
تسهم خمسون دولة حالياً في بعثة حفظ السلام التابعة لـ”يونيفيل” وقوامها 10.000 جندي، والتي ترتكز على كتائب من فرنسا وغانا والهند وإندونيسيا وإيطاليا ونيبال وإسبانيا. وقد أدانت جميع هذه الحكومات بقوة وبالإجماع الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، وأصرت على أن “مثل هذه الأعمال يجب أن تتوقف فوراً ويجب التحقيق فيها بشكل كاف”.
ولا يقتصر هجوم إسرائيل على وكالات الأمم المتحدة على مهاجمة قوات حفظ السلام التابعة لها في لبنان. تتعرض الوكالة المدنية الضعيفة وغير المسلحة، “وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” (أونروا)، لهجوم أكثر شراسة تشنه إسرائيل عليها في غزة. وفي العام الماضي وحده، قتلت إسرائيل عدداً مروعاً من عمال الأونروا، حوالي 230 عاملاً، حيث قصفت وأطلقت النار على مدارس الوكالة ومستودعاتها وقوافل مساعداتها وموظفيها.
قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة بإنشاء الأونروا في العام 1949 لتوفير الإغاثة لحوالي 700.000 لاجئ فلسطيني بعد نكبة العام 1948. وكانت الميليشيات الصهيونية التي أصبحت فيما بعد الجيش الإسرائيلي قد طردت بعنف أكثر من 700 ألف فلسطيني من منازلهم ووطنهم في تجاهل لخطة التقسيم التي وضعتها الأمم المتحدة، واستولت بالقوة على الكثير من الأراضي التي خصصتها خطة الأمم المتحدة للدولة الفلسطينية.
عندما اعترفت الأمم المتحدة بالأراضي التي تحتلها الحركة الصهيونية كدولة إسرائيل الجديدة في العام 1949، خلص قادة إسرائيل الأكثر عدوانية وعنصرية إلى أنهم يستطيعون الإفلات بتعيين حدودهم وإعادة تحديدها بالقوة، وأن العالم لن يحرك ساكناً لمنعهم من القيام بذلك. وبتشجيع من تحالفها العسكري والدبلوماسي المتنامي مع الولايات المتحدة، وسعت إسرائيل طموحاتها الإقليمية.
والآن، يقف نتنياهو بوقاحة أمام العالم بأسره ويعرض خرائط لـ”إسرائيل الكبرى” التي تشمل جميع الأراضي التي تحتلها بشكل غير قانوني، بينما يتحدث الإسرائيليون علناً عن ضم أجزاء من مصر والأردن وسورية ولبنان والعراق والمملكة العربية السعودية.
كان تفكيك الأونروا هدفاً إسرائيلياً قائماً منذ أمد طويل. في العام 2017، اتهم نتنياهو الوكالة بالتحريض على المشاعر المعادية لإسرائيل، وألقى باللوم على الوكالة في “إدامة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين” بدلاً من حلها، ودعا إلى تفكيكها وإنهائها.
وبعد هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، اتهمت إسرائيل اثني عشر من موظفي الأونروا الذين يعملون على الأرض، البالغ عددهم 13.000 عامل، بالتورط في هجوم “حماس” على إسرائيل. وقامت الأونروا بإيقاف هؤلاء العاملين عن العمل على الفور، بينما علّقت العديد من البلدان تمويلها للوكالة. وبعد أن وجد تقرير للأمم المتحدة أن السلطات الإسرائيلية لم تقدم “أي أدلة داعمة” لتعزيز مزاعمها، عادت كل دولة مولت الأونروا، باستثناء الولايات المتحدة، إلى استئناف تمويلها.
لكنّ الهجوم الإسرائيلي على وكالة اللاجئين استمر فقط. وهناك حتى كتابة هذه السطور ثلاثة مشاريع قوانين مناهضة للأونروا في الكنيست الإسرائيلي: واحد لمنع المنظمة من العمل في إسرائيل؛ وآخر لتجريد موظفي الأونروا من الحماية القانونية الممنوحة لموظفي الأمم المتحدة بموجب القانون الإسرائيلي؛ وثالث سيكون من شأنه أن يصنف الوكالة بأنها منظمة إرهابية. وبالإضافة إلى ذلك، يقترح أعضاء البرلمان الإسرائيلي تشريعاً لمصادرة مقر الأونروا في القدس واستخدام الأرض التي يشغَلها لبناء مستوطنات جديدة.
وقد حذر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، مؤخراً، من أنه إذا أصبحت مشاريع القوانين هذه قانوناً ولم تتمكن الأونروا من إيصال المساعدات إلى سكان غزة، فإن “كارثة لما هو بالفعل كارثة كاملة” ستتبع.
لقد أصبحت علاقة إسرائيل بالأمم المتحدة وبقية العالم على حافة الانهيار. عندما خاطب نتنياهو الجمعية العامة في نيويورك في أيلول (سبتمبر)، وصف الأمم المتحدة بأنها “مستنقع للمشاعر المعادية للسامية”. لكنَّ الأمم المتحدة ليست تهديداً غريباً من كوكب آخر. إنها ببساطة دول العالم التي تجتمع معاً لمحاولة حل أكثر مشاكلنا المشتركة خطورة، بما فيها الأزمة التي لا نهاية لها التي تسببها إسرائيل لجيرانها، وبشكل متزايد، للعالم بأسره.
والآن، تريد إسرائيل حتى منع الأمين العام للأمم المتحدة نفسه من دخول البلاد. في 1 تشرين الأول (أكتوبر)، غزت إسرائيل لبنان، وأطلقت إيران 180 صاروخاً على إسرائيل رداً على سلسلة كاملة من الهجمات والاغتيالات الإسرائيلية. وأصدر غوتيريش بياناً استنكر فيه “اتساع نطاق الصراع في الشرق الأوسط”، لكنه لم يذكر إيران على وجه التحديد. وردت إسرائيل بإعلان الأمين العام للأمم المتحدة شخصاً غير مرغوب فيه في إسرائيل، في انحدار جديد للعلاقات بين إسرائيل ومسؤولي الأمم المتحدة.
على مر السنين، شاركت الولايات المتحدة إسرائيل في هجماتها على الأمم المتحدة، مستخدمة حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن أربعين مرة لعرقلة جهود العالم لإجبار إسرائيل على الامتثال للقانون الدولي. ولا شك في أن العرقلة الأميركية للقرارات الدولية لا تقدم أي حل لهذه الأزمة ولا يمكن إلا أن تؤججها فحسب، بينما يعمل الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل على جذب الولايات المتحدة نفسها تدريجيًا إلى دور أكثر مباشرة في الصراع.
بينما تنظر بقية العالم إلى ما يحدث في رعب، يبذل العديد من قادة العالم جهودًا مخلصة لتفعيل الآليات الجماعية لنظام الأمم المتحدة. وتم بناء هذه الآليات، بقيادة أميركية، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في العام 1945، لضمان أن العالم لن يغرق -“ليس مرة أخرى”- في الحروب العالمية والإبادات الجماعية.
على هذه الخلفية القاتمة، سيكون من شأن فرض الولايات المتحدة حظر أسلحة على إسرائيل وإنهاء العرقلة الأميركية لإصدار القرارات في مجلس الأمن الدولي أن يرجح كفة ميزان القوى السياسي لصالح الجهود الجماعية العالمية لحل الأزمة.
*ميديا بنيامين Medea Benjamin: هي المؤسس المشارك لمنظمة “كودبنك للسلام” CODEPINK for Peace. كتابها الأخير، مع نيكولاس جي إس ديفيز، هو “الحرب في أوكرانيا: فهم صراع لا معنى له” War in Ukraine: Making Sense of a Senseless Conflict، (منشورات “أور بوكس”، تشرين الثاني/ نوفمبر 2022).
*نيكولاس جيه إس ديفيز Nicolas J S Davies: صحفي مستقل وباحث في “كودبينك” ومؤلف مشارك لكتاب “الحرب في أوكرانيا: فهم صراع لا معنى له”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Israel’s War on the World
المصدر: الغد الأردنية/(ذا بروغريسِف)