البارحةَ حضرت محاضرة لطيفة من دكتور كريم يتحدث فيها عن الأحداث الجارية في غزة وفي الشرق الأوسط عمومًا، وتنبؤاته بالسيناريوهات التي سوف تشهدها المنطقة. كنت قد توقفت عن كتابة المقالات منذ عدة أشهر، فلم أجد ما أقدمه في الفترة السابقة؛ لأن الساحة مليئة بالكلام حول الماجريات (ما يجري)، وهذا برأي يضيع البوصلة، ولا يفيد في تسديد الرؤية على الجوهر، لكن محاضرة الأمس دفعتني لتوضيح بعض النقاط التي لابد من نشرها ليس بهدف إبهار القارئ بما لم تأتِ به الأوائل، ولكن بهدف نشر الوعي؛ لأن هذا فرضُ عينٍ على كل قلم حر غير مكبل بأيديولوجية أو يعمل بأجر عند جهة ممولة.
في البداية لفهم الواقع واستشراف المستقبل لابد من القراءة التحليلية على مستوى البيئة العالمية، ومن ثم الانتقال إلى البيئة المحلية، وذلك في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. النظر إلى دولة إسرائيل وأفعالها القديمة والحديثة والمستقبلية، دون ربطها بالقوى الدولية المهيمنة على المنطقة سياسيا – سواء ابتداءً من الامبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى أو الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية- يجعل تحليل الإستراتيجيات القائمة واستشراف الانزياحات الإستراتيجية القادمة بعيدًا عن العمق المنشود. ثانيًا: التطور التكنولوجي وتغييرُه للأنماط والعلاقات الاقتصادية وانعكاسه على التركيبات المجتمعية أمر ضروري كبعد يجب إضافته للبعد الأول . ثالثًا: دراسة المحركات العميقة للمستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية هو البعد الثالث الذي بغيابه يفقد التقييم الصورة ثلاثية الأبعاد الأقرب للواقع فالدولة العميقة للإمبراطوريات الأوروبية والأخويات المؤسسة للولايات المتحدة الأمريكية و الدولة العميقة للحركة الصهيونية العالمية منذ التأسيس إلى زمننا الحاضر دور واضح جلي, وهنا تختلط الأجندات الدينية والصراعات الثقافية والعرقية العابرة للأجيال.
بدأت إسرائيل كعصابات وكيبوتزات لمهاجرين أيديولوجيين، استُخدموا ضمن مخطط أكبر وأعمق من أهدافهم في البحث عن حياة أمنة بعيدًا عن الاضطهاد في دولهم, بينما كانت دول سايكس بيكو على حداثتها وعجزها البنيوي وتناقضاتها التي اُسست وقُسمت على معطياتها المدروسة بدقة, كانت تملك رجالاتِ دولة وإنسان متجذر واضح الهوية, بينما إسرائيل كانت تعاني على مستوى الإنسان المتجذر بأرضه ومستوى مقومات الدولة, مع العمل إستراتيجيًا على حل هاتين المعضلتين في الأبعاد الثلاثة المذكورة آنفًا، كان لابد من مشروعين إستراتيجيين كبيرين في المنطقة العربية أولهما: القضاء على الإنسان المتجذر في أرضه المعتز بهويته، وثانيهما: تحطيم مفهوم الدولة لمصلحة مفهوم الميليشيات المتناحرة. منذ أول انقلاب عسكري في سوريا 1949 بقيادة حسني الزعيم وما تلاه من تسونامي الطغم العسكرية في كل الدول العربية, كان لابد من إنشاء دول عسكريتارية، هدفها المركزي: تدمير الإنسان، ومحو الهوية، وطمس الذاكرة التاريخية؛ ولتنفيذ هذا المشروع كان لابد من الدولة المركزية الاستخباراتية القوية المقودة بالأيديولوجيا (القومية والاشتراكية) أو بالقبلية الدينية الإقصائية التي تسيطر على مفاتيح الحياة كاملة حتى تذل الإنسان وتفقده الارتباط بالأرض، وكان لها ما تريد في كل الدول العربية, وكان تتويج نهاية المشروع بثورات الربيع العربي التي أثبتت أن الانسان العربي وغير العربي في دولنا العربية والإسلامية لم يعد متمسكا بأرضه ويبحث عن وطن بديل. بينما في إسرائيل أصبح امتلاك جواز إسرائيلي لعرب الثمانية وأربعين -على سبيل المثال- يُعدُّ نعمة وليس بنقمة. ولتفتيت مفهوم الدولة ومؤسساتها وتحويل دولة العصابة الواحدة العميلة أو الفرد الوحيد العميل إلى دول ميليشيات متناحرة على أسس دينية وعرقية كان لابد من إنهاء مفهوم الدولة المركزية التي لم تعد الأبعاد الثلاثة بحاجة لها بعد أن أنهت مهمتها في تحطيم الإنسان, وهنا كان لابد من مشروع تصدير الثورة الخمينية بدعم من الأبعاد الثلاثة، ولعب البعد الثالث الدور الأخطر في إنضاجها لطبيعته الدينية الثقافية وتجذره في الأجندات العابرة للأزمنة. ولإنضاج هذا التوجه كان لابد من حضانات مكانية وفترة زمنية، وكانت الحاضنة الأمثل هي لبنان، والجنين المنتظر هو حزب الله. بالطبع لم يكن يفيد وضع المشروع الإستراتيجي الثاني قبل الأول لأن الإنسان الكريم المتشبث بأرضه المعتز بهويته يمكنه إعادة بناء الدولة المركزية ومؤسساتها ولو دُمرت حجرًا فوق حجر تحت أي عنوان .
دور إيران انتهى في المرحلة الثانية كما انتهى عصر الدول المركزية العسكرية الاستخباراتية ودول القبلية الدينية القوية المسيطرة على مفاصل الحياة. وهذه حقيقة علينا أن ندركها جيدًا؛ لأن إيران ليست خارج هذين المشروعين الضخمين؛ فقد حطمت الإنسان الإيراني، بينما كانت تنهي مفهوم الدول خارج حدودها، والآن سوف تنتقل الأبعاد الثلاثة لفعل الشيء نفسه داخل إيران بتحويلها هي نفسها لدولة ميليشيات.
ولمن يسأل عن المخرج من هذه المخططات الشيطانية، فالجواب بسيط: فمشروع النهوض يبدأ بإعادة بناء الإنسان وتمكينه في أرضه ولتحقيق هذا هناك سلاح الوعي، وثانيًا سلاح خَلْقِ النموذج الأصيل وليس التابع للأبعاد الثلاث. ولفعل هذا لابد أن يوجه المال للفكر وللأدمغة النظيفة الحرة، لبناء المرجعية التي دُمِرت تحت مطرقة المشروعين.