غسل عار الصامتين على تجريف ملايين السوريين بالتباكي على بسطات الكتب

إبراهيم الجبين

تُرى، ما الذي كان يتوقّعه أولئك الذين يسمّون أنفسهم “مثقفين” ممن عقدوا صفقات أمنية مع أجهزة نظام الأسد، وصمتوا لسنوات على تدمير سوريا، وقتل واعتقال مئات الآلاف من المدنيين وتهجير الملايين من بيوتهم، من نظام حكم لم يتردّد في ارتكاب كافة جرائم الحرب، من استخدام الكيماوي إلى حفرة التضامن؟
يشعر هؤلاء الآن بصدمة نتيجة قرار صادر عن “محافظة دمشق” بتجريف بسطات الكتب التي اشتهرت بها العاصمة السورية، التي تعاني منذ سنوات، وأمام أنظار وأسماع هؤلاء، من تغيير ديموغرافي جائر وتحويل متعمّد لهويتها من عاصمة الأمويين التاريخية ومدينة العشرة آلاف عام من الحضارة إلى ساحة للطم والتطبير، وفضاء يغرّد فيه صوت الرادود بترانيمه المدوية، وأشهرها “قدح من درعا الشرر، وخصم مهدينا ظهر، من حرستا ننتظر أول علامة”.
نُهبت من دمشق خلال السنوات الدامية الماضية ملامحها، وصمت هؤلاء، بل تواطؤوا مع المجرم، وزيّنوا صورته، بحيث بدا وكأنه نظام يحترم المبدعين والمثقفين ويسمح لهم بالعيش في كنفه رغم موقفهم المعارض له (إذا كان موقف بعضهم معارضاً بالفعل).
“جسر الجامعة”، الذي مسخوا اسمه إلى “جسر الرئيس”، معبر أرواح الطلاب والطالبات من المدى الدمشقي إلى تلال البرامكة المطلة على روح الشام، المكان الذي التفّت فيه أصابع العشاق على بعضها البعض، في مشوار ليلي وآخر في هاجرة الشام التي فتنت قاطنيها. كان هذا الجسر طريقاً يفصل بين عالمين، علوي وسفلي، في المرتفع العالي منه (وهو يبدو شاهقاً وكأنه واحد من جسور الصين القديمة المصنوعة من الحبال والخيزران التي تعلو الوديان السحيقة المرعبة، على الرغم من أن أمتاراً قليلة تفصله عن سطح الأرض). كان صوت “المقاصف الطلابية” وجدالات شباب وشابات الجامعة يروي حكاية التغيير السورية التي لم تتوقف لحظة عن المحاولة، يميناً ويساراً ووسطاً، موجات لم تعلن اليأس، ولم تبلع ألسنتها كما فعلت من تسمّى بـ”نخب الصمت على الأسد”.
في دمشق الآن كتاب وكاتبات، قراء وقارئات، بمثابة عنفات حياة حقيقية لم تقبل تجميل صورة النظام الوحشي، ابتعدت إلى صبرها الطويل رافضة المشاركة في لعبة الخداع هذه التي قبض البعض ثمنها ملوثاً بدماء السوريين وكراماتهم
أما جهة الجسر السفلية، فهي نقيض النقائض عما كان يدور فوق؛ اجتمعت فيها سوريا كلها بشرائحها وألوانها، لتكون أكثر من محطة انتقال إلى أي مكان وكل مكان. أجيال الحافلات القديمة، جيلاً يسلم الآخر، كانت تنقل أرواحاً أخرى نحو ما لم يكن لأحد أن يخمّن، بل لم يكن أي من العابرين يرغب في توقع ما سيرى بعد أن ينطلق في رحلته من تحت جسر الجامعة “جسر رئيسهم”.
***
تحت ذلك السقف السحري، نمت صداقات من نوع خاص وفريد، بين العابرين وسوريين اختاروا تجارة الكتاب العتيق، في “بسطات” كانت تعرض كل شيء. يتجلى فيها، وحسب تنوع المارة، تنوعُ الكتب المعروضة؛ وكنت تجد إلى جوار كتب الفلسفة المطبوعة في بدايات القرن العشرين، كتباً عن الطبخ، وأخرى عن أحكام الجهاد والوضوء والنفقة، وغير بعيد عن تلك الأغلفة كانت صور المغنيات من سميرة توفيق إلى سيبيل تنافس صور تشي غيفارا وعلي بن أبي طالب.
سلاسل تعلّقت بها نفوس القراء، من مجلات “العربي” و”الكرمل” و”المختار” و”عالم المعرفة”، و”عالم المسرح” وقبلها “الرسالة” و”المجمع العلمي العربي” وغيرها مما هو أعلى قيمة أو أقل، كانت تُجرى الصفقات عليها مع باعة الكتب قرب تلك البسطات، والثقة لم تكن أمراً هيناً آنذاك؛ فمن يدري أي من طرفي تلك الصفقات كان ينسّق مع المخابرات؟ لذلك كانت الصداقات بين البائع والمشتري حين تقوم، تكون قد تأسست على مهلٍ بعرى وثيقة تنسجها المساررات والهمسات، والاتفاقات السرية على الاستلام والتسليم بعيداً عن العيون.
كثيراً ما ساعد باعة بسطات الكتب مثقفي وكتاب سوريا، بشراء الكتب القديمة منهم حين تضيق بهم الأحوال، وكثيراً ما أقرضوهم ريثما يقبضون مكافآتهم عن مقالاتهم في الصحف، وكثيراً ما تناقلوا فيما بينهم أسرار الكتاب الذين يريدون التخلص من هدايا غليظة كانت تصلهم من مؤلفين رديئين، فيتبرعون بها لبسطات الكتب هي والإهداءات والتوقيعات التي كانت تُكتب على صفحاتها الأولى، وفي بعض المرات كانوا يبيعونها بالكيلوغرام ليعاد بيعها إلى عربات الفلافل والفول والصبار والترمس للاستفادة من ورقها في أرزاقهم.
***
اليوم، يتم تجريف هذا كله، ويرحل هذا العالم إلى غياهب نظام الأسد. وقد سبقت هذه الجريمة جرائم لا عدّ لها ولا حصر، وعقوبات قاسية تم إنزالها بصورة دمشق الثقافية لأجل منفعة شبكة ضيقة تم تعهيد رسم صورة دمشق إليها.
وقبل العام 2011، صمت هؤلاء على تغيير ساحات دمشق ومعالمها ومعرضها الدولي الشهير وتحويلها إلى تنصيبات للرداءة والعنف والدموية المخفية التي كشرت عن أنيابها في الوقت المناسب لها، عند أول صرخة حرية. وبعد العام 2011، تواصل التغيير والمسخ والعدوان، وتواصلت معه طأطأة الرؤوس.
مُسخت المؤسسات الثقافية، ومُسخت المجلات والمطبوعات، مُسخت النشاطات الفنية والموسيقية والإنتاج السينمائي والدرامي والمسرحي، مُسخت الصحافة، مُسخ بيت نزار، وصمت هؤلاء. مُسخت قداسة وهيبة الجامع الأموي بمظاهر وهتافات همجية علت أصواتها في صحنه، وصمت هؤلاء، مُسخ بردى وفروعه السبعة، وصمت هؤلاء، مُسخت الطباعة التي تميّزت بها أحياء دمشق، من القنوات إلى الميدان، مُسخت صفقات الكتب القديمة وأصبحت صفقات لتبادل الكبتاغون، وصمت هؤلاء. مُسخت الآثار والمقابر التاريخية والحمامات والخانات وقلعة دمشق التي صارت “صالة أعراس” دون أن ينبس أحد منهم ببنت شفة.
التواطؤ كان مفتاح المسخ العام وسبيله وبوابته التي مرّت منها رياح الشر المسمومة.
اليوم يتكامل ذلك بقتل المعلم الذي طالما ارتبط بفقراء المثقفين والمبدعين، الذين لم تكن تتيح لهم ظروفهم شراء الكتب بأسعار باهظة من المكتبات (التي تم مسخها وإغلاقها هي الأخرى)، بسطات الكتب وأهلها. وصدق محافظ دمشق، محمد طارق كريشاتي، دون أن يقصد، حين قال إن “الهدف من إزالة البسطات تنظيمي بحت، لأن الأرصفة مخصّصة للمواطنين”. بالفعل، الأرصفة مخصّصة للمواطنين، كما قال، وليس في سوريا الآن “مواطنون”، فالمواطن يتمتع بحقوق وتترتب عليه واجبات، وحين يتقاعد عن هذه ويتقاعس عن تلك لا يعود مواطناً، خاصة حين يكون من المثقفين أو ممن يدّعون أنهم كذلك، فيتقبل كل تلك الجرائم بحق سوريا والثقافة السورية والإنسان السوري، بل ويسهم في المجزرة من تحت الطاولات، عبر تشويه صورة انتفاضة الشعب السوري، وعبر عمله من الباطن مع منابر تابعة لإيران وحزب الله والحشد الشعبي وممولة منهم، عندها لا يحق له أن يفتح فمه بالشكوى بعد صمت بذيء طويل.
وأكثر ما في حالة هؤلاء سخرية هو تلفيقهم لفكرة أنهم موجة جديدة من “أدب المقاومة” في الداخل السوري تحت حكم الأسد، كما كان محمود درويش وفدوى طوقان وسميح القاسم “أدب مقاومة” في الداخل الفلسطيني تحت سطوة الاحتلال الإسرائيلي. ولكن شتّان بين الحالين والمقامين، لا في حساب الضمائر ولا في حساب الأخلاق ولا في ميزان المستوى الإبداعي المنتج، ويا لها من استحضارات كاريكاتورية تليق حقاً بالحشوة الثقافية المحيطة بالأسد!
***
في دمشق الآن، كتاب وكاتبات، قراء وقارئات، بمثابة عنفات حياة حقيقية لم تقبل تجميل صورة النظام الوحشي، ابتعدت إلى صبرها الطويل، رافضة المشاركة في لعبة الخداع هذه، التي قبض البعض ثمنها ملوثاً بدماء السوريين وكراماتهم. في دمشق نساء ورجال لا زالوا ينظرون إلى عقارب الساعة الشامية التي تتحرّك عقاربها “تكّة كل مئة سنة”، فلا يعود لظواهر مثل الاستبداد وملحقاته أثرٌ في نهر تاريخ المدينة العظيم وتصبح مجرد نقطة تكاد لا تُرى.
فلا يحاول أحد التشاطر على السوريين اليوم، بسعيه لغسل عاره عبر التباكي على “بسطات الكتب”، القافلة الجديدة من مهجّري سوريا التي سبقتها قوافل وقوافل ضحكتم عليها من قبل وسخرتم من آلام أهلها.
ستدافع دمشق عن هويتها، وستعود معالمها من جديد، عريقة وأصيلة، كما عادت بعد تيمورلنك وغيره من الغزاة، وسيندثر ذلك الإرث البشع للقوة الغاشمة وإكسسواراتها السياسية والثقافية، ويطويه التاريخ، وسنعود لنتسكّع أمام بسطات الكتب في “أرصفة المواطنين الحقيقيين” في الحلبوني وشارع الملك فيصل والمرجة وتحت الجسر.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. قرار محافظة دمشق بإزالة بسطات الكتب التي اشتهرت بها العاصمة السورية والذي برره المحافظ إن “الهدف من إزالة البسطات تنظيمي بحت، لأن الأرصفة مخصّصة للمواطنين”. بالفعل، الأرصفة مخصّصة للمواطنين، ولكن هل في سوريا الآن “مواطنون”؟ لأن المواطن يتمتع بحقوق وتترتب عليه واجبات، سورية الآن شبه دولة فهل كان ينقصها هذا التجميل؟.

زر الذهاب إلى الأعلى