الإفراط في التفاؤل المستقبليّ والثقة بالنفس سمةٌ عامة لقادة المشروع الصهيونيّ الإحلاليّ الدخيل، منذ النشأة والبدايات، ويتجلّى هذا “التفاؤل” المفرط في كلام متكرّر له عن شرق أوسط عربيّ وخليجيّ يطبّع معه توالياً، وعن ازدهار آتٍ بالتأكيد يكون “العقل الإسرائيلي” موجِّهَهُ ومديره، والمال العربي مموِّلَهُ وشريكاً فيه!
اليوم، وقبل انجلاء غبار المعركة وتكشّف نتائجها في فلسطين ولبنان وعموم المنطقة العربية بلوغاً إلى إيران، يستعجل نتنياهو النهاية، ويعد باستكمال قريب لحلقات التطبيع، وبخاصة مع السعودية، كأنّه يقول واثقاً جدّاً إنّ غزّة انتهت، ومثلها حزب الله وإيران، وإن مشروع “الممانعة” والمقاومة قُضي عليه، وينبغي الشروع في التفكير بمرحلة ما بعد، فالنصر الإسرائيلي، بحسب رؤية نتنياهو المتفائلة، أُنجز وتحقّق، فليبدأ الإعداد لليوم التالي.
بالعودة إلى الثالث من مايو/ أيار 2024، كشف مكتب نتنياهو يومذاك عن خطة لمستقبل غزّة على طريقة “خطة مارشال” الأميركية لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والهدف تحقيق “ازدهار غزّة كجزء من البنية الإقليمية لاتفاقيات التطبيع”، والتخلص من الخطر الذي تشكله باعتبارها “معقلاً أمامياً لإيران”. ووفقاً للخطّة التي نُشرت بالعبرية على شكل وثيقة، ثمة ثلاث خطوات لنجاح هذا المشروع الذي عاد نتنياهو إلى التذكير به قبل أيام في تصريح مقتضب: الخطوة الأولى تحمل عنوان “المساعدات الإنسانية” وتمتدّ على 12 شهراً تنشئ “إسرائيل” خلالها مناطق آمنة خالية من سيطرة حركة حماس، بدءاً من شمال القطاع لتنتشر ببطء جنوباً. وسيوزّع تحالف من الدول العربية (السعودية والإمارات ومصر والبحرين والأردن والمغرب) المساعدات الإنسانية (السخاء من جيوب الآخرين!)، ويشرف عليها في المناطق الآمنة، فيما سيدير فلسطينيو غزّة المناطق الآمنة تحت إشراف الدول العربية.
تمتدّ المرحلة الثانية من خمس إلى عشر سنوات، تحتفظ فيها “إسرائيل” بالمسؤولية الشاملة عن الأمن في غزّة، بينما تنشئ الدول العربية هيئة متعدّدة الأطراف، تسمّى “هيئة إعادة التأهيل” تتولى الإشراف على إعادة إعمار غزّة وتمويلها، ويسيّر فلسطينيو غزّة شؤون “هيئة إعادة الإعمار” التي ستتولى مسؤولية إدارة المناطق الآمنة. وتتضمّن المرحلة الثانية هذه برنامجاً لمكافحة التطرّف.
عنوان المرحلة الثالثة “الحكم الذاتي” مع احتفاظ “إسرائيل” بحقّ العمل ضد “التهديدات الأمنية” في غزّة، حيث تنتقل السلطة ببطء إلى حكومة محلية في القطاع أو حكومة فلسطينية موحّدة (تشمل الضفة الغربية) مع اشتراط على هذه الحكومة أن تجتثّ “التطرّف” وتجرّد قطاع غزّة من السلاح. وفي المرحلة النهائية من الخطة، يدير الفلسطينيون القطاع بشكل مستقل، وينضمون إلى “اتفاقيات أبراهام”.
لا يدرك “ملك إسرائيل” غير المتوّج أنّ الأوهام والأحلام الجميلة ليست كلّها قابلة لأن تمسي واقعاً متحققاً
وبحسب هذه الخطة – الوثيقة، التي يردّها نتنياهو إلى دائرة الضوء، فإن جزءاً من جهود إعادة الإعمار سيشمل “إعادة إعمار من لا شيء” وإنشاء مدن جديدة “من الصفر”، لتضمّ تصاميم جديدة وتخطيطاً حديثاً. وتسلّط الخطة الضوء على مزايا عديدة ستنعم بها الدول المعنية، وتتمثل الميزة الرئيسة، فضلاً عن الأمن في جنوب الكيان المحتل، بالتطبيع مع السعودية. أما المزايا لدول الخليج فتشمل اتفاقيات دفاعية مع الولايات المتحدة، والوصول غير المقيّد إلى موانئ غزة على البحر الأبيض المتوسط، من خلال السكك الحديد وخطوط الأنابيب. ووفق الخطة: إذا نجحت تجربة غزّة، فمن الممكن تكرارها في اليمن وسورية ولبنان. وبالنسبة إلى سكان غزّة، فإن أكبر “المزايا” بعد انتهاء سيطرة “حماس” ستتمثل بالاستثمار الضخم في القطاع، وتوفير فرص العمل الضخمة، فضلاً عن مسار التوحيد مع الضفة الغربية وتحقيق الحكم الذاتي.
وتتجسّد الخطة الإقليمية الأوسع في تكثيف المشاريع الضخمة مثل “نيوم” السعودية وتنفيذها في سيناء، ما يحوّل غزّة إلى ميناء صناعي مهم في المتوسط، يكون بمثابة المركز الرئيس لتصدير النفط السعودي والمواد الخام من الخليج، وليس البضائع الغزّية فحسب. وتدعو الخطة إلى إنشاء منطقة تجارية حرّة ضخمة تشمل سديروت وغزّة والعريش، ما يتيح لـ “إسرائيل” وغزّة ومصر الإفادة من الموقع على نحو تعاوني. ومن خلال الجمع بين الاستثمارات الجديدة في البنية التحتية وتكامل المنطقة، ستساعد حقول الغاز المكتشفة حديثاً شمال غزّة في دعم الصناعة المزدهرة. وستبنى حقول للطاقة الشمسية في سيناء إلى جانب محطّات تحلية المياه التي ستساعد في تعويض آثار تغيّر المناخ. ومن الأفكار المطروحة تحويل غزّة إلى مركز أساسيّ لتصنيع السيارات الكهربائية، على أمل أن يساعد هذا التكامل في تحويل غزّة والعريش وسديروت إلى منافس للصناعات الصينية الرخيصة.
يقيم نتنياهو في مخيّلته الخصبة فردوساً اقتصادياً فائق الازدهار ويراه موجوداً متحقّقاً، على طريقة من يُطلق كذبةً ويصدّقها
بهذا المشروع “الوردي” الخياليّ الافتراضيّ يعد بنيامين نتنياهو نفسه “وعد إبليس بالجنة”. يقيم في مخيّلته الخصبة فردوساً اقتصادياً فائق الازدهار ويراه موجوداً متحقّقاً، على طريقة من يُطلق كذبةً ويصدّقها. لا يدرك “ملك إسرائيل” غير المتوّج أنّ الأوهام والأحلام الجميلة ليست كلّها قابلة لأن تمسي واقعاً متحققاً.
لعلّه غير مدرك أيضاً أن خداع المرابي التاريخي لا يصحّ على الدوام، فمن عساه يشكّ لحظةً في أن خطة اقتصادية “ورديّة” كهذه سيقطف المرابي الصهيوني وحده ثمارها وخيراتها وثرواتها، ولن يترك له شريكاً فيها بعد أن تستتبّ له مع شركائه الأميركيين والغربيين الهيمنة الاقتصادية والمالية والعسكرية، وسيجرّد عرب الثروات والتطبيع حتى من الملابس التي تستر عريهم وعارهم، وسيستولي على كل شيء، الأرض وما فوقها وما في باطنها، وسيجمع في أرض العرب والمسلمين يهود العالم كلّه، ويغدق عليهم من أموال العرب ونفطهم وغازهم، وسيكون قومه أسياد المنطقة بلا منازع، مرّة واحدة وإلى الأبد، وسيكون أهل المنطقة عبيداً عند السيد الصهيوني، وستزول الحضارتان العربية والإسلامية بلا عودة.
هل يفيق العرب من جهلهم لحجم الخطر الصهيوني على وجودهم؟ هل ينقذون أنفسهم من زوال أكيد؟ هل يصغون إلى النصح والتنبيه بشأن هذا الخطر الزاحف الوشيك؟ بوجود “إسرائيل” والمرابي التاريخي الجشع والنهم، سارق أرض فلسطين، لن تبقى لكم ثروات وخيرات ومدن تزدهون بها يا عرب التطبيع والانبطاح والتفريط بفلسطين والحقوق العربية.
المصدر: العربي الجديد
قادة الكيان الصهhيوني منذ نشأتهم يحاولون إيهام الآخرين بإنتصا رهم من خلال التفاؤل بالإ نتصار، هل هو إنطلاق من الواقع ؟ أم سياسة لمواجهة أعدا ئهم ضمن الحrب النفسية؟ اليوم يستعجل رئيس حكومة دويلة “إسر ائيل” نتNياهو وقبل انجلاء غبار المعركة وتكشّف نتائجها بالإنتصار على الجميع ورسم خارطة المنطقة والتطبيع مع أنظمة عربية.