إن نتائج تعيين أعضاء مجلس الشعب بسورية مؤخرا -وأصر على كلمة تعيين – هذه الظاهرة التي تتكرر بكل مناسبة وهي إطلاق الرصاص وبكميات وكأننا بجبهة قتالية بامتياز وخاصة في وسط الأحياء المدنية السكانية بمدينة حلب، إن دلت على شيء فهي تدل على انحطاط خلقي وتردي بمعنى المسؤولية المدنية للمواطن، أم اننا نعيش فترة غياب كامل وشامل لمعنى القانون واحترامه ونعيش في خضم دولة عصابات، والذي قادني الى كتابة هذه الكلمات التي تبين دور القيم والاخلاق والرقي الفكري بالمجتمعات للنهوض بها.
نعلم جيداً أنه لكل مجتمع قانون جزائي يطبق على كل مجرم ، مخالف ، معتدي على حق الغير ، وهناك شواهد عديدة أن الكثير من هذه العقوبات قد تضاعفت مع مر الزمن، اعتقادا أن بذلك يستطيع المشرعون الوقوف امام تصاعد وتيرة الجريمة وانتشارها المتزايد ولكن بالحقيقة هذا لم يحد مطلقا عنها ، مما أجبر المجتمعات على البحث عن وسيلة أمام هذه الظاهرة ، فوجدت أن لكل جريمة مسببات ومبررات لمرتكبيها ، وهنا تكمن الطريقة الحقيقة بمواجهة الجريمة ، معرفة تلك الاسباب والعمل على بترها كليا من المجتمع وأغلبها يعود الى ( وضع اقتصادي ، مفهوم ثقافي ، تراجع خلقي ) ، إذاً تشديد العقاب ليس الحل بل تطوير الفكر وتثقيف الفرد اكبر وسيلة للوقوف امام ما يسمى مخالفة قانونية بشتى مستوياتها من جريمة القتل وحتى مخالفة السير بالطريق العام ، هذا الاستنتاج يقودنا وبشكل مباشر الى عملية سبر للمجتمع الذي نعيشه، والعودة بالزمن عدة عقود ولربما أكثر، قد تصل الى قرن، كي نتفهم المجتمع بكل نواحيه، منطلقين من الاسرة عبوراً بالمناهج التربوية وما يطرح بالساحة من ثقافة عبر منابر الجوامع ووسائل الإعلام والمسارح والمواد القانونية التي تحمي حقوق هذا الفرد من نفسه أولًا قبل حمايته من الغير ، ونسأل أنفسنا هل هناك خطة فعلية مبنية على أسس علمية أكاديمية تسعى للرقي بالمواطن منذ طفولته وحتى وصوله للمناصب ذات المسؤولية الوطنية ، أم نسير على هامش الحياة متأثرين بقشور الحضارات الأخرى ، معتقدين أنه التطور والرقي بحد ذاته ، وهذا يقودنا أيضا الى مفهوم الوعي وتطوره لدى الفرد ودور القائمين على إدارة المجتمع لتتبع ذلك والبحث المستمر عن الوسائل الفكرية الصحيحة لإدخالها للمجتمع ومراقبة نتائجها .
كثيرون يتحدثون اليوم عن القيم والخلقيات في المجتمعات ومنهم من راح في حديثه الى اعماق التاريخ بحثا عن جذور تلك القيم ليتبين أنها تراكمية عبر الزمن، وأن تلك القيم الدينية هي قيم إنسانية ولما كانت إنسانية فلابد أن تتغير بتغير الانسان، لذلك أصبح الانسان عبداً لنفسه ولمؤسسته الدينية ولم يعد قط عبداً لإله.
من هذا المنطلق أصبح من الضروري إعادة النظر بكل المؤسسات التي تدير شؤون المواطن وخاصة منها الفكرية التربوية معتمدة على الطبقة المثقفة والمبدعة بشأن الفرد بالمجتمع وكيفية تعامله مع من يدير شؤونه وبالوقت ذاته أخوه بالمواطنة والانسانية، لذلك سنحاول التعرف على المثقف ومفاهيمه انطلاقاً من واجباته بالمجتمع ليتم الاصلاح الفكري المنشود والرقي بالمواطن لدرجة الانسانية.
يصف البعض الانسان المثقف وفق المفهوم الاصطلاحي ناقدٌ اجتماعيٌّ، همُّه أن يحدِّد، ويحلِّل، ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل، نظامٍ أكثر إنسانية، وأكثر عقلانية، كما أنه الممثِّل لقوَّةٍ محرِّكةٍ اجتماعيًّا، يمتلك من خلالها القدرةَ على تطوير المجتمع، من خلال تطوير أفكار هذا المجتمع ومفاهيمه الضرورية.
والمثقف يملك قدرًا من الثقافة التي تؤهله لقدرٍ من النظرة الشمولية، وقدرٍ من الالتزام الفكري والسياسي تجاه مجتمعه، وهو مبدع كل يوم، يستطيع بهذا الإبداع الثقافي أن يفصل بين تهذيبات القول وتجليات الفكر، بين الثقافة وعدم الثقافة، بين التحضر والتطور.
إلى هنا يتضح مفهوم المثقف عمومًا، فما دور المثقف خاصةٍ في تكوين البنية الفكرية للمجتمع، والمساهمة في تحديد هويته الثقافية، والتي يمكن من خلالها تمييزُه عن غيره؟ ومن خلال دوره بالمجتمع يتضح لنا المعنى أكثر.
في البداية سنجد أن هناك نوعين للمثقف:
– موسوعي: وهو الملمُّ بأكثر من مجالٍ ثقافيٍّ.
– تخصصي: وهو المتخصص في أحد العلوم الإنسانية، كالاجتماع والسياسة مثلاً.
وفي نهاية كلامنا ليتضح لنا أكثر معنى كلمة مثقف أنه من المفيد أن نُبَلْوِر دور المثقف في ثلاث مهام أساسيَّةٍ:
1- بث الثقافة السليمة
إشاعة القيم الحقيقية، وإثارة وعي الأمَّة حول القضايا الراهنة والمصيرية، وتمكين أفراد المجتمع من التمييز بين الثقافة الأصيلة والثقافة الدخيلة، وبين ما هو خرافة وانحراف وما هو حقيقة وهو المسؤول عن الوصول بوعي الأمة إلى المستوى الذي يؤهِّلها للقيام بدورها الحضاري في إطارٍ من الترابط بين الثقافة والسياسة.
2- النقد،
هو من الوظائف الأساسية لتطوير أيٍّ عمل، سواء كان ثقافيًّا أو سياسيًّا أو اجتماعيًّا، وينبغي للمثقف وهو يمارس النقد التوافرُ على خلفيةٍ قادرةٍ على تحديد المساحات الخاضعة للنقد، من حيث طبيعتها وخصائصُها والظروفُ التي تمرُّ بها ودرجةُ أولوياتها؛ لكي تكون العملية إيجابيةً وباتجاه البناء والتقويم والتجديد والتطوير، بالإضافة إلى ذلك تقع على المثقف تنمية الحس النقديِّ عند الأمة؛ لكي تتفاعل مع عملية التجديد والتطوير.
3- تبنِّي قضايا الأمة والدفاع عنها
فالمثقف هو لسان حال المجتمع، يتبنى قضاياه ويدافع عنها، ولا يجوز له أن يتخلَّى أو يتقاعس أو ينظر لها نظرةً فوقيةً، تفوِّت عليه دوره الحقيقي في الوسط الاجتماعي؛ ولكي يكون المثقف أكثر مصداقيةً ينبغي أن يكون أول مُضحٍّ من أجل الأمة وقضاياها المصيرية، وأشد التزامًا بالقيم، وأكثر تعهُّدًا بالمبادئ، محتكمًا إلى الأسس الدينية والأخلاقية، وأن لا يتجاوز في سلوكه الحدود الشرعية، وتمثل هذه المهمة الحقل التطبيقي للمثقف، ودائرة مصداقيته وسط الأمة، وعليها يتوقف نجاحه في أداء مهمته، ولا يعني إسناد هذا الدور إلى المثقف إلغاءً لدور غيره ممن تقع عليهم مهامٌّ أخرى ومسؤوليات تختلف طبيعتها عن هذه المسؤوليات، فعندما يمارس المثقف دوره وسط الأمة، لا يحجِّم دور الفقيه والمفكِّر الإسلامي وإنما يتداخَل ويتكامَل معهما .
بينت بشكل موجز دور المثقف ، يتبقى لدينا توضيح دور الاعلامي والمؤسسات الاعلامية ، وكلنا يعلم أن هذا الميدان يعتمد بشكل مباشر على المثقف الذي يمتهن الاعلام لينقل رسالة خلقية إنسانية يوجهها الى شتى طبقات المجتمع إن كان عبر البرامج الاذاعية ، أو المسرح والقصص الادبية التي تحمل رسالة خلقية يتم ايصالها للقارئ ، ومن خلالها يتم تثقيف المواطن بشتى المستويات وأقسام الحياة وتوضيح دوره بالوطن كمواطن ولفت انتباهه الى حقوقه ومن الأكيد سنصل بطريقة سلمية الى اقتلاع تلك المفاهيم والعادات التي يقوم بها البعض كما بينت عن تعيين بعض أفراد مجلس الشعب معبرين عن فرحتهم، غير مبالين بحياة الآخرين، ولا حتى أولادهم أو أصدقائهم المبتهجين معهم، وبلا شك هو مثال من الأمثلة التي يمكن نثبت من خلالها دور المثقف في نقل المفاهيم الحقيقية للقيم بالمجتمع.