لا يمكن التهرّب من الاعتقاد أن القمع السياسي، بمعنى هوان القهر وخزي الإذلال، مع وجود ظواهر وأساليب أخرى، هو أحد أكثر مظاهر الاستبداد القهري الذي يُمَارس، بدرجات وطرق مختلفة، مع الادّعاء الكاذب بوجود ديمقراطية ما، في مختلف البلدان المغاربية. ومن قوة الإثارة التي يتضمّنها هذا المعطى يجوز الكلام، ولو بشيءٍ من التعميم المقصود، عن ثلاثة أجيال من المناضلين السياسيين ضحايا الاستبداد المغاربي المذكور، تعرّضوا، على مدى يتجاوز ستة عقود بعد “الاستقلالات”، لثلاثة أصناف، وربما أكثر، من الطبائع، أو السياسات، التي قوّضت الأبنية التنظيمية التي اعتمدتها في العمل والنضال، وفككت عناصر الإيديولوجيات التعبوية، وغير التعبوية، التي “تمترست” في الشعارات الإصلاحية والانقلابية والثورية، لا تحيد عن صياغتها في الممارسة، وأكثر من ذلك أن تلك الطبائع، أو السياسات، أفلحت في تنفيذ وجهين من “أقوى” أوجهها عَنَتا: ضَمِنَت بِوَجْهٍ نوعاً من الولاء المُبَرَّر بالعجز، وبالوجه الآخر الإزاحة التامة للأفعال التي كانت تفعل في التناقضات القائمة وتستغلها للتحريض ضد المخطّطات الرسمية، أو تستخدمها لتجنيد المناضلين والأنصار.
تحقق ذلك بعدما استقوت الأنظمة الحاكمة بالأجهزة القمعية والمخابراتية التي أعدتها لذلك، في وقتٍ كان فيه تنظيم الجيش، أو إعادة تنظيمه في بعض التجارب، قد حقّق مراده من تثبيت الاستقرار، وفرض السيطرة، وبسط النفوذ الوطني على الجغرافيا المُسَيَّجة بالحدود الموروثة، بعدما صارت تُعْتَبَر وطنية لا يمكن زحزحتها بأي شكل أو قوة. ويذكر هنا أنَّ مِنْ أفخم الإنجازات التي قامت بها تلك الأنظمة أنها وضعت لهذا “الهيكل الوطني” أناشيد تتغنّى به، ورايات ترفرف، في جو من الفرح المفتعل، أو المطلوب، لمختلف الممارسات الخاصة والعامة التي صدرت عنه، مع التأكيد على أن الشعارات التي صيغت لمصاحبة ذلك والإلحاح عليه، أصبحت تُرَدَّدُ تلقائيا، من كثرة الحفظ والتَمَثُّل، لتبرير الوطنية الشوفينية، أو الولاء الطوعي، أو الخوف المرعوب والحياد المطلوب.
المقصود بالاستبداد المغاربي، الذي أصبح نهجا سلطويا و”تقليدا” ناجعا، أنه الأسلوب الخاص، المعادي لكل تصور ديمقراطي، الذي يتمتع به الحاكم، ويكون بين يديْه، من خلال الأجهزة المختلفة التي تضمنه وتُطَبِّقُه، أهم سلطة، فيها المدلول الاستثنائي للتحكم الفردي، يلتجئ إليها لمواجهة الأوضاع القائمة، أو التي يكون، حسب نوع من التنظير التحكمي، من المتوقع أن تقوم، لعل من أهمها ثلاثة: التناقضات المجتمعية العامة، بصرف النظر عن حدتها أو سكونها، التي قد تتجمع في أفق ما يكون من بين أهدافه، مرسومة أو مستهامة، المطالبة بالإصلاح، أو العمل من أجل التغيير الشامل، أو الانقلاب العسكري الحاسم أيضا. وثانيها، ما يمكن الاصطلاح على تسميته، بحكم تلك التناقضات المجتمعية العامة، بالمعارضة السياسية التي يقْدِمُ عليها المناضل السياسي، أو النقابي، أو الحقوقي، في الوقت الذي يعمل على إبرازها داخل المجتمع وفق ما قد “يفرضه” عليه أسلوب (التحليل الملموس للواقع الملموس)، من زاوية الصراع والأولويات والمصالح، من تصورات أو اختيارات أو مهام. وثالثها المحاولة الانقلابية أو الثورية المترتبة، في كثير من الأحيان، عن المستويين المذكورين من قبل (التناقضات، المعارضة)، وخصوصا أنّ المفهوم من هذه المحاولة أنها تكون مصحوبة بوعي سياسي قَطْعِيّ يستخدم أداة القوة المادية لبلوغ الهدف المتوخّى عن طريق العنف، يستوي في هذا أن تكون المحاولة حركة ثورية تحرض الشعب على الخلاص، أو “مؤامرة” عسكرية مرادها قلب النظام.
اصطناع سردية (ليبرالية) تتمنطق بالتهديد والوعيد، لفرض وجوده وبسط “الشرعية“
خَاصيّة الاستبداد المغاربي، وهو موجود، في نطاق الاختلافات، أو التعارضات، العامة بين النظم الحاكمة، رئاسية وملكية، بدرجاتٍ معينة، أنه كثيرا ما يَسْتَخْدِمُ التصور (الديمقراطي)، مبرّراً شكلياً، ولكنه مطلوب من الناحية الدعائية، لتطبيق إجراءاته الرادعة، أو تسويغ تصرفات سياسية معينة، استثنائية في الغالب، وكذلك اصطناع سردية (ليبرالية) تتمنطق بالتهديد والوعيد، لفرض وجوده وبسط “شرعيته”.
حقيقة هذا الاستبداد المغلف بـ”الديمقراطية” التحكمية أنه أصبح مُعَمّما، والأوضح من ذلك أنه بات مقبولا، ولا نعدم وجود، في الدوائر الاجتماعية والسياسية التي يتحكم فيها، من يدافع عنه ضدّا على مصالحه الشخصية، أو الفئوية، أو الطبقية، دفاعا لا تخفى مراميه، والمهم فيه أيضا أنه جزء من تصور (بنيوي) يراه المدافع هذا قادرا، دون غيره من التصوّرات السلطوية، على ضمان الاستقرار، وحماية الناس من (الفوضى الخلاقة)، والضامن للوحدة الوطنية الاندماجية ولو كانت قسرية. وفي بعض التجارب يراه آخرون الحُكْم المتميز الذي لولا سلطته لكان مصير البلاد والشعب في حالٍ من السوء لا مزيد بعده.
الاستبداد المغلف بـ”الديمقراطية” التحكمية أصبح مُعَمّما، والأوضح من ذلك أنه بات مقبولا
مما يثير في الحديث عن الاستبداد المغاربي أن ضحاياه، كما أشرت في البداية، ظلّوا، من ثلاثة أجيال ارتبطت أدوارهم في المجتمع، ونهضت أعمالهم في سبيل تطويره في علاقة مع الاختيارات التي اعتمدوها، على مفهومين أو تصورين متداخلين، هما السلطة والسيادة، بينما تَمَّ ذلك، في العموم، خلال ثلاثة أزمنة في مسار “الدولة الوطنية الحديثة”: المرحلة الاستقلالية التي تميزت، بالنسبة للاختيار “الوطني”، باختبار القوة السلطوية الوليدة، وتركيز أهدافها على صعيد المجتمع، وفي وجه النخب المصاحبة أو المعارضة. بينما تميز زَمَنٌ وَسِيطٌ بانفراد السلطة الحاكمة بكل شيء تقريبا، بناء على “التبعية” المعقودة مع مراكز أجنبية، غربية وشرقية، في ارتباط وثيق مع الأحلاف التي تشكلت في سياق الحرب الباردة، وكان عمادها العنف المنهجي وتحكيم القمع الشديد، وطبِيعَتُهُ وحشيةً في أغلب تجاربه، لِفَضّ النزاعات الاجتماعية، أو الاحتجاجات الشعبية، فضلا عن مواجهة حركات النضال الديمقراطي الشرعي الممنوعة أصلا. ويقال هذا، بالخصوص، في الشروط التي كانت فيها المعارضات السياسية، التقدمية والثورية، شاملة إلى حد ما، تمكنت من استقطاب قطاعات شعبية مختلفة، وضمنت، في بعض مراحل “عياء” الاستبداد، مشاركتَها في الاستحقاقات الانتخابية التي قرّرتها الدساتير الممنوحة بكثير من التحفظات والاستثناءات.
أما الزمن الثالث، الذي نعيش فصوله حالياً بكثير من اليأس، فهو الأجدر بالاهتمام، لأن الاستبداد فيه يُمَارَسُ بسلاسة مفترضة عندما لا نرى في الساحات الوطنية العمومية إلا من يُمَجِّدُ دورَه، ويستهوي نَجَاعَته، ويرغب جاهداً لكي يكون على منواله مُتَحَكِّما في تدبير شؤون بيته أو إدارته أو حزبه. هؤلاء كُثُر تمكنوا هم أنفسهم، نيابة عن الحاكم المستبد، أو بدعم منه، من طرد المناضل السياسي، وازدراء المعارض الوطني الليبرالي، والاستخفاف الهازئ بمختلف القائلين بالتغيير، ناعتين إياهم بالشرذمة و”الطابور الخامس” عملاء الأجنبي، (بالإحالة غالبا على الدولة الموجودة في الرقعة الجغرافية نفسها)، في وقتٍ لم يعد فيه للإصلاح تلك اللغة الوطنية، بعد الاستباحة، التي كانت له.
أما التغيير فقد انقلب العمل من أجله، بالسلبية التي كرّسها التدجين وأفلح الإرشاء في هزم مناصريه، إلى أن صار مَن يضرب به المثل يُخوَّنُ، أو يُدان أخلاقيا فَيُعْزَل ويموت “رمزياً” متأسيا على الماضي، نادبا حظه في حاضر عَيَّابٍ لا يَمَلُّ حُمَاتُه من تشنيع تصوراته واختياراته.
المقصود بالاستبداد المغاربي، الذي أصبح نهجاً سلطوياً و”تقليداً” ناجعاً، أنه الأسلوب الخاص، المعادي لكل تصور ديمقراطي، الذي يتمتع به الحاكم
إذا أضفنا ما كان للدين، في هذا السياق، من أثر واضح، وخصوصاً عندما يكون التأويل الديني سلاحا لتكفير المخالفين للسائد من الأوضاع الدنيوية، لأمكن أن ننعت الاستبداد المغاربي، ومن الحسرة أن جمال الدين الأفغاني لم يتوقع ذلك، بالتحكّم “الجبري” المطلق، وأنه قد كسب الرهان عندما عَمَّمَ أسلوبه الخاص في إدارة الشؤون المختلفة والمتنوعة، وفي مجالات ثقافية وتربوية أساسية كالتعليم، وعبر دروس الوطنية الأسيفة المُلَقَّنَة للعموم، من غير الحديث عن المجالات الأخرى ذات الصلة بالصحة وبالمعاملات التجارية والاقتصادية وبالإعلام والتكنولوجيا … إلخ. فأصبح من المسلّم به، في العرف، أنْ المعارض لا يكون إلا مجرّما، والناقد ناكداً، والوعي المكتسب بالحقوق والواجبات ممارسة فوضوية… تتنكّر لما للاستبداد من دور حاسم في بناء الاستقرار وتطوير الشعب.
الخلاصة أنّ حركات سياسية ونقابية كبرى، وشخصيات وطنية وتقدمية وثورية مؤثرة، إلى جانب أجيال من المناضلين المعروفين والمجهولين على السواء، لم يعد لهم جميعا، بسبب التحوّلات التي طرأت أيضاً على الوعي الذاتي، وعلى مفهوم المصلحة الشخصية أو الجماعية، وعلى الوجود الاجتماعي في علاقة بأساليب النضال والمعارضة … إلخ. من خلال التحويل المتواصل للاستبداد في الحكم إلى صيغة “ديمقراطية” تحكّمية، أيّ أثرٍ فعليّ في الحياة العامة، أو أي وجود حقيقي وَازِن في الصراعات المُصْطَخِبَة وتفاعلها المُتَحَوِّل. في هذا تعميمٌ مقصودٌ يُراد به، إذا نظرنا إليه من زاوية نسبية، أن مقاومة الاستبداد من مهام التطور الوطني، من المفروض أن تنطلق من الوعي النقدي بأهمية، إن لم تكن بحتمية، النضال الديمقراطي للخروج من الانحطاط الذي يسم الوجود الإنساني المغاربي بعامة.
المصدر: العربي الجديد