قبل أيّام من الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها قريباً، أوحى الوضع العام في تونس أنّ الأمر قد استتبَّ للرئيس قيس سعيّد، فأقصى خصومه، وزجّ عدداً كبيراً من المُترشّحين للانتخابات في السجون، وأدخل الرعب في نفوس التونسيين عبر ضرب الحرّيات والقضاء، باسطاً استبداده في كامل التراب التونسي. ورافق هذه الممارسات بعد انقلابه تراجعٌ في النشاط الاقتصادي، وزيادةٌ في معدّلات الفقر وتراجعٌ في مستوى المعيشة، التي تسبب بها تأزُّم اقتصاد البلاد الذي أصابه الشلل في عهده وبيديه. إلّا أنّ التظاهرات التي خرجت يوم الجمعة (13 سبتمبر/ أيلول الجاري)، وطالبت بإسقاط النظام دفعةً واحدةً، حتّى قبل إجراء الانتخابات، بيَّنت أن ثمَّة مطبَّات سيواجهها مسار سعيّد الاستفرادي، إذا ما استمرّت تلك التظاهرات وتصاعدت. ويُعوَّل على هذه التحرّكات، بعدما ضُرِبَ قسم من المُعارَضة وانكفأ قسم آخر منها، في أن تعيد البلاد إلى مسار الانتقال الديمقراطي، الذي يبدو أنّ جمهوره ما زال متمسّكاً به، كما لو أنّ ثورة الياسمين قد حدثت البارحة، بوجوهها الشابة التي تتحمّل الضيق المعيشي، لكنّها تأبى التضييق على حرّياتها.
وأثار خروج هذه التظاهرات ملاحظات عدّة، منها (وهو الأكثر أهمّية)، أنّها لم تنتظر حتّى تجرى الانتخابات وتراهن على سقوط سعيّد عبر صناديق الاقتراع، فهي بذلك أسقطت الأوهام كلّها التي أعمت عيون كثيرين، مدركةً أنّ إسقاطه لن يكون سوى عبر الشارع والاحتجاجات لكي يكون لفعلها التأثير الأكبر في تجييش الجمهور وإعادة الثقة للجماهير وبقدرتها على الفعل، بعد سنوات من السلبية والخوف وضياع الأهداف. أمّا الملاحظة الثانية فهي تتعلّق بتأسيس الحركة الاحتجاجية الجديدة، “الشبكة التونسية للحقوق والحرّيات” صاحبة الدعوة إلى التظاهر رافعةً شعار إسقاط النظام، التي تشكّلت من ائتلاف أحزاب سياسية ومؤسّسات مجتمع مدني وجمعيات حقوقية، وضعت خلافاتها جانباً، وقرّرت العمل معاً لتحقيق هدفٍ يعجز عنه جسمٌ سياسي وحده، وهذا ربّما يدفع أحزاباً وحركاتٍ سياسيةً أخرى، ممّن تشاغلوا بخلافات داخلية أو بينية، إلى الانخراط في هذا الائتلاف لزيادة التأثير في الشارع، وصياغة استراتيجيات متكاملة للتحرّك وللمراحل المُقبلة.
وكانت هذه التظاهرة مفاجئةً لكثيرين من الصحافيين والمراقبين، في تونس وخارجها، ممّن نفضوا أيديهم من المُعارَضة التونسية، بعدما فعل سعيّد فيها ما فعل من سجنٍ واعتقالٍ وترهيبٍ وإقصاء، في موجةٍ من انتهاكات للحرّيات وللحقوق، والتي استفتحها بزجّ قيادات حركة النهضة في السجون بعد انقلابه على البرلمان والدستور في 25 يوليو/ تموز 2021، فيما أُطلِق عليه “تدابير استثنائية”. كما أنّها تأتي وسط ضياع البوصلة لدى معارضين كانوا من أشدّ الناس حساسيةً تجاه حال الحرّيات والديمقراطية، غير أنّهم تراجعوا عن معارضة تدابيره الانقلابية والاستبدادية، ربّما ظناً منهم أنّها ستوفّرهم وتستهدف منافسيهم من الإسلاميين فحسب، متناسين أنّ من يستهل حكمه القمعي باعتقال الإسلاميين سيكمل ليستهدف اليساريين والقوميين والعروبيين والليبراليين، الذين ينتظرون في لوائح الاعتقال والتضييق الطويلة التي لديه.
يبدو قيس سعيّد رجلاً عاجزاً عن إنجاز أيّ أمر وإتمامه، حتّى لو كان بناء تلك المنظومة التي يحتاجها المُستبدّ عادةً لتمكين حكمه سنواتٍ مقبلة
طوال سنوات حكمه، حضَّر قيس سعيّد الأرضية للانقضاض على الحكم في تونس والاستفراد به، وفرض ديكتاتوريته. كما جدولَ كلَّ خطواته وفق آليةٍ كانت واضحةً ومعروفةَ النتائج. بعد ذلك، هندَسَ شكل الحكم الذي أراد الوصول إليه؛ إذ بعد تعليقه عمل البرلمان وإقالة رئيس الوزراء وتوليه السلطة التنفيذية وتعطيل العمل بالدستور وإدارة البلاد عبر المراسيم الرئاسية، وضع خصومه السياسيين في السجون، وبدأ بضرب الحرّيات العامّة وحرّية الصحافة، وضايق مؤسّسات المجتمع المدني وحاول ضربها، وبات كلّ تونسي مُستهدفاً بالاعتقال بعد فرض الرقابة على الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي. كما صاغ دستوراً على مقاسه، وأصدر قانوناً جديداً للانتخابات، في الوقت الذي أدار فيه ظهره لمشكلات البلاد الاقتصادية والمالية، ما أدّى إلى استفحال الأزمات المعيشية وتأزُّم الاقتصاد وازدياد المديونية للصناديق الدولية، فوصلت البلاد إلى حافة الانهيار.
وفي مدى فترة حكمة التي اقتربت من إكمال سنواتها الخمس، لم يواجه سعيّد معارضةً حقيقةً، ما جعله لا يكترث لأزمات البلاد، وأوقف عمله لمحاربة الخصوم وتثبيت حكمه، لذلك لم تظهر أيُّ بادرة لتغييره بعدما تبيّن أنّه لن يغيّر مساره الكارثي. أمّا مع خروج الاحتجاجات الجديدة فقد استجدّ أمر يمكن أن يتطوّر ويُؤدّي إلى وقف مساره نحو حكم البلاد لدورة رئاسية جديدة، تبيَّن أنّه استكمل التحضيرات كلّها لكي يفوز بها، وربّما يضع في باله الثالثة، وهكذا. وإزاء هذا الواقع، تتوفّر للمعارضة فرصةٌ موضوعيةٌ تسمح لها بالاستمرار في الاحتجاجات وتحقيق انتصار يُنحّي سعيّد عن السلطة، من دون أن يكون لسقوطه وقع مدوٍّ في البلاد، يُؤثّر على مؤسّساتها وسلمها الأهلي. إذ تبيّن أنّه خلال فترة حكم سعيِّد، لم يستطع الرجل بناء منظومة حكم استبدادية متكاملة، كما قُيّض للرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي أن يفعل خلال فترة حكمه مصر، على سبيل المثال. منظومة حكم توفّر لسعيّد الحماية، وتدافع عنه من خطر الشارع، إن طاولت أظفاره وجه الرئيس.
لم يكن معقولاً ألّا ترى أحزابٌ تونسيةٌ عريقةٌ، وطنياً وسياسياً، في تعليق عمل البرلمان وفي وقف العمل بالدستور انقلاباً
مَردّ ذلك أن سعيّد بدا رجلاً عاجزاً عن إنجاز أيّ أمر واتمامه، حتّى لو كان بناء تلك المنظومة التي يحتاجها المُستبدّ عادةً لتمكين حكمه سنواتٍ مقبلة، وذلك لسبب بسيط يتعلَّق بشخص سعيّد نفسه، لأنّه لا يثق بغيره من البشر. إضافة إلى ذلك، يعتبر سعيّد نفسه كلّي القدرة من خلال السعي إلى إعلاء نفسه إلى مرتبة “إله”، وبالتالي، هو يرى الآخرين أقلّ منه مرتبةً فلا يمكنهم تنفيذ ما يراه لأنّهم ضعفاء في نظره وقاصرين، بينما هو الوحيد الذي يمتلك القدرة على العمل في أمّة من الكسولين والعجزة، فكيف بهم يعارضونه؟ كما أنّه يراهم فاسدين؛ فمن لم يكن منهم فاسداً هو في نظره مشروع فاسد، بينما هو الوطني الوحيد وسط جمهور من الخونة، وهو الشريف، نظيف الكفّ الوحيد، بين سربٍ كبيرٍ من الحيتان الفاسدين.
إذا ما تَسنّى للمعارضة، في سياق احتجاجاتها المُستجِدّة، خلع سعيّد في الشارع، أو حتّى عبر الانتخابات، تبقى أمامها مهمّةٌ صعبةٌ وطويلةٌ تتطلّب الحزم والحضور وقوّة الضغط، وهي تفكيك الاستبداد الذي أعاد سعيّد إليه الروح في تونس بعد أن كانت تخطو خطواتها الواثقة في مسار الانتقال الديمقراطي. كما أنّ من المهمّ تأسيس جمعيات ومنظّمات يكون هدفها البحث عن أدوات تمكين الظاهرة الاستبدادية في المجتمع والدولة والتخلصّ منها، عبر الإصلاحات القضائية والدستورية والمؤسّساتية. كذلك، من المهم زيادة منعة الجماهير تجاه الاستبداد وزرع الاستعداد الفطري فيها لمواجهته. ومن المهمّ أيضاً لهذه المنظّمات والأحزاب التي تضع مصلحة المواطنين أولويةً في نضالها ألّا تنساق وراء شعارات شعبوية يرفعها رئيس يتولّى حكم البلاد، بينما يضمر الاستفراد بالحكم فيها. إذ لم يكن من المعقول ألّا ترى أحزابٌ تونسيةٌ عريقةٌ في النضال المجتمعي والوطني والسياسي في تعليق عمل البرلمان، وفي وقف العمل بالدستور، انقلاباً، وهي خطوات تعدّ ألف باء الانقلابات، وصعود الظاهرة الاستبدادية.
المصدر: العربي الجديد