تفكّك المليشيا في السودان مسألة وقت

مدى الفاتح

بعد أيّام من اندلاع حرب السودان، في إبريل/ نيسان من العام الماضي (2023)، توسّعت قوات الدعم السريع في أعمال السلب والنهب واحتلال البيوت. حتّى ذلك الوقت، كان خطاب المتمرّدين متماسكاً، فكان مبنياً على الرغبة في تغيير الوضع القائم واستعادة المسار الديمقراطي وملاحقة أفراد النظام السابق. كان ذلك الخطاب يُبرّر الاعتداء على مناطق، مثل كافوري وحيّ المطار وأحياءَ أخرى تقع في مساحات استراتيجية في قلب الخرطوم. وفق الدعاية التي كان يُطلِقها متحمّسون للتمرّد، المقصود بالانتهاكات، وباقتحام البيوت، كان “الكيزان”؛ الكلمة التي تعني المنتمين إلى الحركة الإسلامية، أو إلى حزب الرئيس عمر البشير، المحلول، ما كان يوحي بأنّ بقيّة السكّان سيكونون في أمان. إلّا أنّ الانتهاكات ما لبثت أن توسّعت فتخطّت حدود المناطق الراقية، التي استباحها المتمرّدون، على اعتبار أنّ جميع سكّانها “فلول” أو مستفيدون من النظام السابق. هنا عجزت دعاية التمرّد في أن تبرّر أو أن تفسّر سبب اعتدائها على أشخاص لا علاقة لهم بالسياسة، ناهيك عن نظام سابق أو لاحق. أحسّ الذين ظنّوا في البداية أنّ حرب “الدعم السريع” ستكون موجّهة إلى أعدائه وإلى من انخرطوا في مواجهة معه من الجيش السوداني، بأنّ لا أحدَ أصبح في منأىً عن القتل أو النهب أو الاغتصاب. شملت الصدمة أيضاً أولئك الذين اعتبروا أنّهم في تحالف مع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، باعتبار أنّ عدوّهم (الجيش أو النظام السابق) واحد.
في مسقط رأسي، بلدة حلفاية الملوك، التي تقع في قلب مدينة الخرطوم بحري، وقعت انتهاكات كثيرة، وقتل أبرياء كثيرون جرّاء إطلاق قذائف عشوائية. أطلقت قوات الدعم السريع، التي استعادت ثقافةَ المليشيا، قذائفها عشوائياً، ولم تكن تأبه بأعداد الضحايا. كنت أقول إنّ منطقةَ الحلفاية مستهدفةٌ، ليس لوقوعها في ملتقى طرق، وبالقرب من الجسر الرابط بين الخرطوم بحري وأم درمان، بل لأنّها أيضاً من أعرق مناطق الخرطوم. كانت البلدة مستهدفةً، مثلها مثل المتاحف ودار الوثائق والمكتبات الإذاعية وغيرها من الدوائر الأرشيفية، التي استُهدِفت، ليس لموقعها الاستراتيجي، بل لأنّ تخريبها كان أحد أهداف المتمرّدين.

. أحسّ الذين ظنّوا أنّ “الدعم السريع” ستوجّه حربها إلى أعدائها، بأنّ لا أحدَ أصبح في منأىً عن القتل أو النهب أو الاغتصاب

مثلما كان الحديث عن جلب الديمقراطية بواسطة مليشيا دقلو (حميدتي) مثيراً للسخرية، لم يصمد منطق الحرب على الفلول، ففي جانب دقلو، الذي يعتبر التمثيل الأوضح للنظام السابق، اجتمعت ضمن القيادات الإعلامية والسياسية والعسكرية للمليشيا أسماءٌ كانت معروفةً بقربها من الرئيس المعزول عمر البشير، من أبرزها حسبو عبد الرحمن، الذي هو “كوز” من ناحية أنّه كان نائباً للأمين العام لما يعرف بـ”الحركة الإسلامية”، ونائباً للبشير. ولَّد هذا التناقض خطاباً جديداً مفاده بأنّ الحرب قَبَليّة، لتستعيد المليشيا بذلك خطاب “الجنجويد” العنصري، الذي كانت تؤمن به قيادتها، التي فشلت سنواتٌ من الاحتواء والتبني في أنسنتها. ليس “الكيزان” فقط، قبائل الوسط والشمال جميعها احتكرت السلطة والثروة في السودان منذ الاستقلال. هذا الخطاب، الذي وسّع دائرة الاستهداف، كان يُفسِّر التسامحَ مع حواضن “الجنجويد” وأبنائهم، الذين كانوا يُستثنون من القتل والتعذيب، بمن فيهم أولئك المعروفون بقربهم من النظام السابق أو بانتمائهم إلى الجيش.
أراد هذا الخطاب العنصري أن يشيع بلبلةً، وأن يُخبِر أبناء قبائل الجنجويد (العاملين في القوّات المسلّحة وفي مرافق الدولة الحسّاسة) أنّ مصلحتهم مع ابنهم حميدتي، وأنّ وجودهم في معسكر “الدولة القديمة” يجعل منهم كلابَ صيدٍ وخونةً ضدّ مصالح أهلهم. صحيحٌ أنّ بعضهم اقتنعوا بهذا الخطاب فانحازوا إلى المليشيا التي امتلكت كثيراً من المال والإغراءات، إلّا أنّ الهدف الأساسي لهذا الخطاب، وهو إيجاد اصطفاف قَبَلي وانشقاق في صفوف الجيش المتكوّن من جميع أنحاء السودان، لم يتحقّق.
الخطابات المُتعدّدة، والتفسيرات المُختلفة للحرب، كانت مفيدةً في البداية، فكان معسكر المليشيا يجمع المرتبطين بحميدتي، كما كان يجمع الناقمين على قيادة الجيش الحالية، خاصّة الذين انتُزِع منهم الحكم في أكتوبر/تشرين الأول 2021، كما جمع مع هذا العنصرِيّين من أبناء القبائل، الذين رأوا في هذا التمرّد فرصةً للانتقام من مكوّنات قَبَلية كانوا يرون أنّها منافسة. خطاب المليشيا الموازي الآخر، الذي ساهم فيه للأسف مثقّفون وكُتّابٌ، كان مبنياً على الحقد الطبقي المحض، وعلى أنّه حان لمن كان يعيش على هامش المجتمع أن يمدّ يديه ويغرف ممّا يراه أمامه كلّه، من مال وبيوت وسيارات، وحتّى نساء. لم يمدّ هذا الخطاب المليشيا بكثير من المُستعدِّين المحلّيين لـ”الغَرْف” المجّاني فقط، بل سهّل عملية جلب المرتزقة، الذين وصلوا بعشرات الآلاف، من مختلف دول الجوار. شكّلت هذه الحرب، مع وعود السرقة الآمنة والإفلات من العقاب، فرصةً للغنى السريع لكثيرين من المجرمين الدوليين، الذين قدموا بحثاً عن الغنائم. هذا الخطاب، الذي وحّد كثيرين ضمن هدف واحد، هو إنشاء مليشيا ذات قوّةٍ ومواردَ كافية لتحدّي الجيش السوداني، سيكون سبب تفكّك هذه المليشيا، خاصّة مع انقطاع الصلة بين القيادة العسكرية والقوات في الأرض، وهو ما يظهر في فقدانها التوازن، ودخولها في كثير من الاشتباكات بين المكوّنات المتباينة.
كان التحرّر من الانضباط مفيداً في ظلّ حرب الشوارع الخاطفة، التي بادرت إليها المليشيا، وسمحت لقادة المناطق والارتكازات بالتصرّف من دون الرجوع إلى أحد، لكنّ إحدى المشكلات أنّ هذه الفوضى لن تلبث أن تنتقل إلى الداخل، فتتشكّل مراكزُ قوى، وينفرد كلُّ قائد بمجموعته أميرَ حرب. ومع توقّف المرتّبات الرسمية، للغالب الأعم من المقاتلين، يفرض كلّ أمير حرب سيطرته على البقعة التي يوجد فيها، فيفرض الإتاوات، ويتحكّم في الأنشطة التجارية والمعابر، وهو الأمر، الذي يتطوّر أحياناً قتالاً بين الأمراء حول المغانم والنفوذ، وهو قتال يتّخذ في أغلب الأحيان طبيعةً عرقيةً.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى