كان عبد الناصر حاضرًا في بيتنا على الرغم من غيابه، يعيش معنا يوميًا من دون أن يكون موجودًا؛ كان حاضرًا في أسماء كثيرٍ من أفراد العائلة، وفي الصور والكاسيتات، وفي الكتب والحديث السياسي والمقارنات، وحاضرًا في كل مرة يتحدث فيها كبار العائلة عن آلام النزوح ومرارته في حزيران 1967.
ولم يكن من النادر أن أرى الدموع في عيني جدي ووالدي في كل مرة يأتي فيها ذكره، وما زلت أحفظ بيتًا من شعر جدي في مطلع قصيدة كتبها يوم رحيله “أيا واردَ الماء الطهور لغسله… تعال، ففي هذي العيون غديرُ”. وفي أول مرة ذهبت فيها إلى القاهرة أوصاني والدي، بعد مضي ما يزيد على عشرين عامًا على وفاة ناصر، بقراءة الفاتحة عند قبره في مسجد عبد الناصر بكوبري القبة في القاهرة.
وقد شكل ذلك لي إلهامًا ومحرضًا في كثير من الأحيان، لكنه تحول فيما بعد إلى عقدة حقيقية في مرحلة من المراحل لا يمكن القفز فوقها أو تجاوزها، بحكم ارتباطي الوجداني بالتجربة الناصرية الذي قد يمنع قراءتها جيدًا، ولم أستطع فعل ذلك حقًا إلا بعد أن قرأت ياسين الحافظ، وهذا أتاح لي، بحسب ادعائي، تجاوزه لكن من دون قتله، تجاوزه مع الاحتفاظ باحترام التجربة وتقديرها، ليس على طريقة القراءات السائدة التي يمكن لها أن تنقلب بين ليلة وضحاها من التقديس إلى التدنيس. عبر ياسين الحافظ عن ذلك عندما رأى أنها التجربة الوحيدة التي تستحق النقد، وأن نقدها يأتي من بوابة احترامها.
نختلف مع عبد الناصر كثيرًا، وغالبًا بمعايير اليوم أكثر من الأمس، لكننا لا نستطيع إلا أن نحترمه ونحترم تجربته، أقله من حيث ملامسة التجربة لوجدان شرائح شعبية عريضة في المنطقة العربية، وربما يكمن سرّ الوجدانية هذه في صدق عبد الناصر، وفي انحيازه لمصالحهم، وفي نزاهته، فضلًا عن حضور عنصري الكرامة والتحدي طوال تجربته.
مع ذلك، تحتاج تجربة عبد الناصر إلى قراءة موضوعية بعيدًا من القراءات الأيديولوجية، الدينية والشيوعية والقومية؛ قراءة لا تسعى للذوبان فيها وتبجيلها والتخثر عندها، وتبتعد في الآن نفسه من الانزلاق نحو مناصبتها العداء سلفًا، ما يمنعنا من الإفادة من إيجابياتها وتجاوز سلبياتها. ولا شك في أن القراءة هذه تحتاج إلى معايير، أهمها قراءتها في زمنين، زمنها وزمننا؛ أي قراءة التجربة استنادًا إلى الأحوال السياسية الإقليمية والدولية، ومستوى الوعي العربي السائد، ودرجة تطور النخب السياسية الثقافية، في زمنها وزمننا.
لا يمكن الركون إلى قراءة تجربة عبد الناصر بمنظار الإخوان المسلمين، فهي قراءة غير موضوعية في أغلب الأحيان. وفي الحقيقة، نادرًا ما قرأت رؤية موضوعية إلى التجربة الناصرية لعضو في تنظيم الإخوان، وربما يكون محمد السيد حبيب، نائب المرشد الأول لجماعة الإخوان في مصر، من النادرين الذين قالوا كلامًا يستحق أن يُسمع: “الإخوان لم يكرهوا جمال عبدالناصر لشخصه، ولكن إذا كنا موضوعيين نقول إن جمال كانت له إيجابياته الكبيرة، وسلبياته الكبيرة أيضًا، فلا يمكن أن ننسى له اتحاده مع سورية وحرب اليمن وقوانين يوليو والمصانع التي شيدها بمصر، أيضًا لن نغفل السد العالي، جميعها أعمال ضخمة ولا يستطيع أحد إنكارها”، ويتابع قائلًا “من ناحية أخرى فإن ناصر، لم يلتزم بإقامة حياة ديمقراطية كما كان مخططًا ضمن المبادئ الست للثورة”. إن الرؤى التي تختزل عبد الناصر وتسجنه في تصور أغلب القيادات الإخوانية، رؤى غير بريئة، تمامًا مثل الرؤى التي تقرأ مسيرة جماعة الإخوان المسلمين، طوال نحو مئة عام، قراءة مختزلة تحشرها في سجون الرؤى غير البريئة لأنظمة الحكم الاستبدادية في المنطقة.
لكن أبشع ما تعرضت له ثورة 23 يوليو هو مقاربتها استنادًا إلى التجارب السياسية الكارثية التي جاءت بعدها، وحاولت تقليدها، وهي مقاربات في معظمها سطحية أو غير بريئة؛ إذ كثيرًا ما يُعيد بعض السياسيين والمثقفين، جهلًا أو مكرًا في الغالب الأعم، وأحيانًا بسبب رؤى قاصرة أو جزئية، كوارثَ الحاضر إلى التجربة الناصرية؛ فيربطون بين السيسي أو صدام حسين أو الأسد أو القذافي وعبد الناصر ربطًا كاملًا، بطريقة غير منصفة، تستند إلى أن أولئك جميعهم قد وُلدوا من رحم عبد الناصر، مردِّدين عبارة سطحية ومكرّرة مضمونها “لولا عبد الناصر لما سيطر العسكر في المنطقة العربية”، مع أن التجربة السورية 1946-1958 كانت حافلة بالانقلابات العسكرية.
هناك نقد صحيح لتجربة عبد الناصر من جانب أن التجارب التي جاءت بعد عبد الناصر لها جذر في تجربته ذاتها، لكن لا يمكن الادعاء أن تجربة عبد الناصر مسؤولة عن انحطاط التجارب هذه، خصوصًا أنها لم تستفد من أخطاء عبد الناصر من جهة، وانحدرت بالتجربة إلى القاع من جهة ثانية؛ فكل من حاول تقليدها أو الادعاء أنه استمرار لها لم ينتج إلا المهازل والكوارث.
هناك عناصر مشتركة بين التجارب هذه بالتأكيد؛ الانتماء إلى المؤسسة العسكرية، عبادة الفرد، وتهميش أو قتل الديمقراطية، انتهاكات حقوق الإنسان… وغيرها، لكن هناك أيضًا اختلافات جوهرية عن تجربة ناصر. ليس لدى التجارب هذه أي مشروع سوى الاحتفاظ بالسلطة، وكلها استولت على المال العام، وأسهمت في إنتاج أو تعزيز الانقسامات العربية، وكلها فرطت باستقلال بلدانها، بينما كان ناصر حقًا صاحب مشروع عام، وطني وعربي، مشروع قد نختلف أو نتفق معه، لكنه كان عمومًا محاولة نهضوية جدية، ولا نكاد نعثر على تجربة سياسية مماثلة في المنطقة العربية، باستثناء تجربة محمد علي قبل قرنين، امتدّ تأثيرها الروحي والسياسي إلى المنطقة وخارجها. كانت مسألة الكرامة الوطنية حاضرة جدًا في روح التجربة وسلوكها، وهي إحدى مآثر عبد الناصر، وكل التجارب التي جاءت بعدها كانت بلا كرامة.
لم يكن عبد الناصر مفكرًا، لكن تفكيره وممارسته، موضوعيًا، كانا أكثر مقاربة للواقع وحاجاته من كثير من المثقفين والسياسيين العرب؛ صحيح أنه كان تجريبيًا، لكنه كان متقدمًا على أداء ومواقف الأحزاب القومية العربية والأحزاب الأيديولوجية الشيوعية في محطات عديدة. ينبغي للقراءة الموضوعية لتجربة ناصر أن تلحظ مرحلته التي كان فيها الوعي القومي العربي رومانسيًا، والوعي الماركسي العربي دوغمائيًا، والمفارقة هي أن هذين النمطين من الوعي لا يزالان سائدين إلى يومنا، على الرغم من مرور نصف قرن على وفاة ناصر.
بعد وفاة ناصر، أراد كثيرون، في المنطقة وخارجها، عرب وأجانب، أن يقولوا لنا إن عبد الناصر لم يكن أكثر من حلم أو فيلم جميل، وعليكم أن تستيقظوا، وإنه كان استثناء ومرحلة عابرة. وجرت أيضًا محاولات حثيثة ومحمومة لتزييف تراث عبد الناصر وإفراغه من محتواه، لأسباب سياسية وأيديولوجية، ربما بسبب استمرار حضور ناصر في الواقع الراهن أو استمرار الأهداف التي سعى لها. هذا كله يمكن فهمه وتفسيره، لكن الأخطر والأغرب هو ما جاء على يدي من تبنوا تجربته، وعدّوها مشعل هداية.
إنها لمشكلة حقيقية أن يبقى ناصر متقدمًا على الناصريين الذين عاشوا في زمنه، والناصريين الذين جاؤوا من بعده، على الرغم من مرور نصف قرن على وفاته. لقد قدَّم ناصريون كثيرون تجربة عبد الناصر بطريقة لا تشبهه، وصدَّروا صورة سكونية أو تجزيئية أو مزيفة لإرثه، ولم يتعامل معظمهم مع التجربة بوصفها تجربة دينامية مفتوحة دائمًا على التطور، وفي بعض الأحيان اتخذ بعضهم -للأسف- مواقف سياسية بعيدة من روح تجربته، خصوصًا تلك المواقف التي صبَّت في طاحونة الاستبداد، وضد ثورات الشعوب.
على الرغم من انحيازنا إلى روح التجربة الناصرية، لكن ينبغي لنا الاعتراف أن عوامل هزيمتها كانت تكمن في داخلها وخارجها في آن معًا؛ فواحدة من نقاط ضعف الحركة الناصرية مثلًا أنها كانت حركة شعبية واسعة غير متجانسة، وغير منظمة، وكان وجود عبد الناصر العامل الرئيس في وحدتها، ومن الطبيعي، بعد غيابه، أن تبرز التناقضات في ما بينها. نحن في حاجة إلى استيعاب التجربة الناصرية ونقدها وتجاوزها، فغالبًا ما تُقتل التجارب العظيمة بتجسيدها في جماعات مغلقة تستمر بالارتباط الوجداني بالتجربة واجترارها من دون نقدها وإعادة قراءتها في ضوء الراهن، ما ينتج أيديولوجية معيقة غير قادرة على التفاعل الإيجابي مع العصر.
إذا أردنا أن يكون للناصرية، أو في الأحرى لروحها العامة، دورٌ وفعلٌ في واقع اليوم، فإن واحدة من النقاط المهمة على هذه الطريق هي الانطلاق من النقطة التي وصل إليها عبد الناصر؛ ضرورة الديمقراطية، واستيعاب وهضم الإرث الناصري، وتجاوزه إلى وعي يستلهم روح التجربة من جهة، ويستجيب بفاعلية لحاجات وأهداف الواقع من جهة أخرى.
روح 23 يوليو أو روح الناصرية، اليوم، ليست شيئًا آخر غير تلك الحركة الثقافية والسياسية الدافعة باتجاه تحول دول المنطقة إلى دول وطنية ديمقراطية حديثة، بوصفها السبيل لتصبح الشعوب رقمًا أساسيًا في المعادلات السياسية، وتعيش في داخل العصر لا خارجه.