قلة من الدارسين الذين يتناولون ثورة 23 تموز/ يوليو 1952 من خلال المعايير العلمية والبحثية التي تضعها في مكانتها التاريخية التي تستحقها، بما لها وما عليها، فهي أخطأت وأصابت، فشلت في مواضع كثيرة، ونجحت في مواضع أخرى أكثر.
كما أن كثيرين يتناولونها من خلال الموقف من شخص جمال عبد الناصر، قائدها وزعيمها، القرب منه والبعد عنه، سياسيًا وفكريًا، وهذا برأينا المتواضع خطأً كبير في تناول حدث تاريخي بهذه الضخامة والتأثير، كانت له ارتداداته وامتداداته على صعيد المنطقة والعالم، وفي عصر شهد تحولات كبرى، وصعود قوىً على المسرح الدولي، وتراجع أخرى.
أيضا، وفي صف المدافعين عنها، والمنتمين إليها، هناك من “يؤدلج” الثورة ويصنفها كنظرية علمية، وبالتالي يحنطها ويقولبها أو يجمدها، وهي لم تكن كذلك البتة.
فثورة يوليو/ تموز مشروع نهضة أمة، أكثر منها نظرية، وحركة شعب أكثر منها حركة فئة من “الضباط الأحرار”، أو زعيم، فرد، ومن خلال هذه الرؤية يجب النظر اليها وتقييمها، والوقوف عندها في ذكراها المجيدة المتجددة، لأخذ الدروس والعبر منها، في مستقبل أمة وأوطان، تتناهشها المشاريع الخارجية من معظم دول الجوار، إضافة للقوى العالمية الكبرى التي تفرض إرادتها وهيمنتها بأشكال مختلفة، ومتعددة.
النظرة الموضوعية، التي نؤمن بها، تجعلنا نقف عند المعاني الكبرى التي جسدتها كمشروع في عناصره المتعددة التي بدونها لا يمكن الحديث عن مستقبل أوطاننا وأمتنا، وهي الوحدة في مواجهة التجزئة والتشظي والتشرذم وزعزعة الكيانات من داخلها، والديمقراطية في مواجهة الاستبداد والاستئثار والطغيان، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الفئوية والاستغلال والتمييز، والتنمية المستقلة في مواجهة الالحاق والتبعية والهيمنة، والاستقلال الوطني في مواجهة الاحتلالات بأشكالها المختلفة، والأصالة والتجدد الحضاري، في مواجهة تيارات العزلة والانغلاق أو الاقتلاع من الجذور.
تحت هذه العناوين الكبرى للنهضة عملت ثورة يوليو، وفي سياقات متوازية، وضمن أولويات الواقع وضروراته، فخاضت معارك متعددة في وقت واحد، بلا هوادة، وفي مدى زمني غير طويل، نسبيًا، مقارنة بثورات عالمية أخرى، حفظها التاريخ ووضعها في مكانتها التي تستحق ضمن السيرورة التاريخية للشعوب والإنسانية عامة.
ولأن ثورة يوليو مشروع، أكثر منها إيديولوجيا، استنبطت قوانينها ومقولاتها من تحديات الواقع وظروفه، ولم تأت بمقولات جاهزة ومسبقة، فكانت لها أولوياتها الخاصة، وانشغالاتها الكبرى، ومعاركها المستمرة، التي لا يمكن فهمها ونقدها إلا من خلال رؤيتها في سياقها التاريخي الذي فرض عليها أجندته وأحداثه.
قيل الكثير والكثير جدًا عن ثورة يوليو، خصوصًا أنه مضى نصف قرن على رحيل قائدها، وتوقف عند ذلك اليوم دوران عجلاتها باتجاه الفعل التاريخي والمستقبل، وأشبعت نقدًا لها، أو دفاعًا عنها، وما يعنينا هنا، بعد موجتين من ثورات الربيع العربي في العقد الأخير هو الوقوف عند ما أرادت هذه الثورات تمثيله، وما أوجدته، من قوى دافعة باتجاه المستقبل الذي يحلم به الملايين ممن خرجوا خلال العشر سنوات الماضية، وبعضها مستمر للآن بقوة وعنفوان، بدءً من تونس وصولًا إلى الجزائر والسودان ولبنان والعراق، مرورًا بمصر وسورية وليبيا واليمن، وأين تتقاطع هذه الثورات التي تمثلها حركة الشعوب المتطلعة للحرية والكرامة والديمقراطية، واحترام حقوقها الأصيلة، مع المشروع الشامل لثورة 23 يوليو التي نحن بصدد إحياء ذكراها من خلال هذا الملف المتواضع، انحيازًا لأمتنا وقضايا أوطاننا، التي نحلم ونعمل لمجدها ورفعتها، وتبوئها مكانتها التي تستحقها بين شعوب وأمم المعمورة. إن ثورات الربيع العربي التي انطلقت لأسباب ومطالب، وطنية، محلية، في مجملها تبنت كمضامين عناصر مشروع النهضة العربية، ولم تكن بعيدة عنها إطلاقًا، وإن كان باديًا عليها بقوة أولوية بعض تلك العناصر كالديمقراطية والعدالة، ولكن لا تغيب عن أي متبصر في خطاب تلك الثورات، وما أفرزته، مطالب أخرى، غير بعيد عنها باقي عناصر وثوابت مشروع النهضة، المعنين به، كالاستقلال والتنمية المستقلة، ووحدة أوطاننا، وتجددها الحضاري للحقاق بركب الأمم الأخرى.
بمعنى ما فإن ثورات الربيع العربي، وفي طليعتها الثورة السورية، ليست بعيدة، في المآل، أو منفصلة عما يعتبر مشروعًا للنهضة العربية الذي نعتقد أن ثورة يوليو وضعت أسسه الأولى خلال مسيرتها قبل أكثر من نصف قرن مضى، وحاولت تجسيده، فواجهت الكثير من التحديات وتغلبت عليها، وفشلت في تخطي الكثير من الصعاب التي أوقعتها في نكسات وكوارث وهزائم.
بين ثورة يوليو وثورات الربيع العربي الحالية عروة وثقى، لا تغيب عن ذهن أي باحث منصف، تتمثل في ارتباطهما الوثيق بحركة التاريخ والمستقبل، وذلك ليس افتئاتًا على الحقيقة والواقع، أو تحميلاً له بأكثر مما يحتمل، ووفق هذا الفهم والرؤية لا يعني ذلك القفز فوق الخصوصيات الوطنية وسيادة الدول، فإقرارنا بتلك الحقائق لا يعني أبدًا طمس الهوية الجامعة، والتطلعات المشتركة، بقدر ما يعني البحث عن صيغ وطرق للتعامل معها بشكل علمي موضوعي.
ثورة يوليو، كمشروع نهضة ورؤية، هي ثورة المستقبل الذي تتطلع إليه الشعوب العربية، كما كانت في حينها، ثورة في سياق محاولات النهوض، والتجدد الذي توقف منذ مشروع محمد علي، بعوامل خارجية وداخلية، وكل ذلك في حركة صاعدة إلى الأمام، لا تقف عند تخوم أو حدود.