إيران المُتريثة

محمود علوش

منذ اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران نهاية يوليو/ تموز الماضي، توعّد المسؤولون الإيرانيون برد انتقامي قاس ضد إسرائيل. ومع مُضي نحو شهر، لا تبدو إيران في عجلة من أمرها للانتقام بينما توازن بدقة التكاليف المُترتبة على خياراتها المحدودة للقيام بعرض جديد للقوة يُعيد ترميم الرّدع المُتصدّع مع إسرائيل، ولا يرفع مخاطر التورّط المباشر في الحرب. لقد وضعت طهران وحليفها حزب الله، منذ اغتيال هنية والقائد الكبير في الحزب فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، إسرائيل والولايات المتحدة ودول المنطقة في حالة من عدم اليقين بشأن ردّهما المُنتظر. كما سوّقا تريّثهما في الرد ورقة ضغط لتعزيز موقف “حماس” في المفاوضات للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزّة. مع ذلك، لدى طهران وحزب الله دوافع أخرى أكثر أهمية كي يكونا أكثر حذراً في تشكيل خطواتهما المقبلة.

يسود اعتقاد في طهران بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو يعمل على توريطها في حرب إقليمية لرفع تكاليف انخراطها بالوكالة في حرب 7 أكتوبر بدلاً من إبقائها مُنخفضة كما الحال منذ اندلاع الحرب. ويبدو هذا الاعتقاد واقعياً إلى حد كبير. يُواجه نتنياهو مأزقاً استراتيجياً كبيراً في الحرب، فهو لم ينجح في تحقيق أهدافه المُعلنة في غزة بوضوح. ومن جانب آخر، جلب الانخراط المحدود لحلفاء إيران في الحرب، خصوصاً حزب الله في لبنان مُعضلة أمنية استراتيجية جديدة لإسرائيل على جبهتها الشمالية. وتتمثل المناورة الأكثر خطورة لنتنياهو بمحاولة نشر الحرب في الشرق الأوسط بصورة أكبر عبر إذلال إيران وحزب الله من خلال تنفيذ عمليات اغتيال لقادة كبار في قلب طهران والضاحية الجنوبية لبيروت لإظهار التفوّق الاستراتيجي الإسرائيلي بطريقةٍ لا تترك لإيران وحزب الله خياراً آخر سوى التورّط في لعبة نتنياهو العالية المخاطر. ووفق هذا المنظور، إن رداً قوياً من إيران وحزب الله يبدو هدفاً إسرائيلياً، لأنه سيمنح نتنياهو فرصة لتوجيه ضربة عسكرية قوية إلى إيران وحزب الله، ولإجبار الولايات المتحدة على الانخراط في حرب أوسع لحماية إسرائيل.

لا تزال إيران تُفضل إدارة صراعها مع إسرائيل والولايات المتحدة بالطريقة التي فعلتها في العقود الماضية، من خلال القتال عبر وكلاء إقليميين

وفي الواقع، تضع مناورة نتنياهو إيران وحزب الله في مأزق كبير. إن استعراضاً جديداً للقوة لإظهار الردع قد يُحقق ما يُريده نتنياهو في نهاية المطاف وهو إشعال حرب إقليمية. كما أن تجنّب استعراض القوة سيُعزز التفوق الاستراتيجي الإسرائيلي في الصراع ويُرسل رسالة ضُعف قد تُشجع إسرائيل على المُضي في اللعب على حافة الهاوية. وفي الحالين، التكاليف المُترتبة على إيران وحزب الله عالية. لقد فشل استعراض القوة الإيراني في إبريل/ نيسان الماضي، عندما شنت طهران هجوماً صاروخياً مباشراً على إسرائيل، في ردع الإسرائيليين عن مواصلة تجاهل قواعد الردع والاشتباك الإقليمية السائدة منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ما يجعل أي رد إيراني على غرار هجوم إبريل بدون قيمة إذا لم ينجح في إعادة ترميم قواعد الردع، علاوة على أنّه يجلب مخاطر التورط الإيراني المباشر في الحرب. ويُشير تريّث إيران وحزب الله في الرد على اغتيال هنيّة وشكر، إلى أنهما لا يزالان يوليان أهمية قصوى لتجنب سيناريو حرب إقليمية. وإذا كانت عقيدة “الصبر الاستراتيجي” التي تتبناها إيران وحلفاؤها في الحرب مُصممة في الأساس للحد من تكاليف الاندفاعة الإسرائيلية عليهم، فإنها لا تزال تعود بالفائدة الكبيرة ما دامت تُجنبهم الوقوع في فخ نتنياهو.

تُشكل دبلوماسية القنوات الخلفية فرصة لإيران للخروج من مأزق الرد الانتقامي وما يحمله من مخاطر كبيرة عليها

حتى في الوقت، الذي تبدو فيه إيران قادرة على تجاهل الرد العسكري المباشر على إسرائيل، فإن المأزق، الذي يواجه حزب الله في استعادة قواعد الردع والاشتباك مع إسرائيل بعد اغتيال شكر وتوسع نطاق الهجمات الإسرائيلية على لبنان، يُبقي المخاطر عالية على استراتيجية إيران. ظروف تطور المواجهة بين إسرائيل وحزب الله إلى حرب واسعة مُتوفرة إلى حد كبير وقد يكون رد انتقامي كبير لحزب الله بمثابة الضوء الأخضر لها. ومثل هذه الحرب، إن وقعت، ستُشكل تهديداً وجودياً لأقوى حليف لإيران في المنطقة. علاوة على ذلك، لا تزال إيران تُفضل إدارة صراعها مع إسرائيل والولايات المتحدة بالطريقة التي فعلتها في العقود الماضية، من خلال القتال عبر وكلاء إقليميين. وتنظر إلى خروج حزب الله من هذه الحرب بأقل الأضرار على أنه مصلحة استراتيجية كبيرة لها لردع مخاطر تعرّضها لهجوم مباشر في المستقبل. كما أن فوز الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة يُشير إلى رغبة طهران في تعظيم فرص إعادة إحياء الاتفاق النووي مع الغرب للتغلب على الصعوبات الاقتصادية المتزايدة التي تواجهها في الداخل.

خطأ في حسابات استعراض القوة لا يُخاطر فحسب بتوريط إيران في حرب وفي استدعاء حرب إسرائيلية شاملة على حزب الله، بل يُشكل أيضاً تهديداً وجودياً للنظام الإيراني. في الوقت الراهن، تُشكل دبلوماسية القنوات الخلفية فرصة لإيران للخروج من مأزق الرد الانتقامي وما يحمله من مخاطر كبيرة عليها. لكنّ اندفاعة نتنياهو في تعميق نشر الحرب في المنطقة واللحظة الأميركية الراهنة المنشغلة في الانتخابات الرئاسية، واحتمال عودة ترامب إلى البيت الأبيض، كلها عوامل تُقوض من الخيارات المتبقية لإيران للحفاظ على عقيدة الصبر الاستراتيجي.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى