شكلت مسألة الحرية أحد أبرز مقولات، وتنظيرات، وإشكاليات الخطابات الفلسفية التاريخية والمعاصرة التى تغيرت، من مرحلة إلى أخرى من مراحل التغير والتحول الحضارى في عالمنا، وذلك لأن شكل كل نظام اجتماعى، وبنية سياسية، تفرض محدداتها وبناء القوة داخلها ، وتنظيمها الدستوري والقانوني على مقاربتها لمسألة الحرية والقانون. فى العلاقة الإشكالية بين الحرية، والقانون، كانت ولا تزال هى الأهم، ومقاربة هذه الثنائية، والإشكالية المركزية فى الفكر الإنسانى، خضعت ولاتزال لكل نظام للسلطة ، من المجتمعات القديمة فى الحضارات المختلفة إلي الآن وغدا، حيث تفرض السلطة ذاتها علي طبيعة الاستجابة للإشكالية . من البطريركية السياسية ، والطغيانية، فى الحضارات المختلفة إلى النظم السياسية الليبرالية فى أعقاب الدولة/ الأمة والتطور الرأسمالى، وتقدم هذه النظم الليبرالية التى شكلت أحد أبرز المراجع الفلسفية والسياسية والاجتماعية، والثقافية فى الفكر العربى الحديث تحت الكولونيالية، وبعدها، وإلى الآن.
فى مقاربة هذه الثنائية الحرية، والقانون، هناك عديد من الفكر الرغائبى، والشعاراتى السائد ، الذي يطرح هذه الثنائية، خارج التركيبات الثنائية المتضادة السياسية ، والاجتماعية، والدينية، وغالبا ما تطرح من منظورات خطابية شعاراتية، خارج السياقات الموضوعية، ومن ثم لا تعدو كونها محضُ خطاب معارض فى الفراغ، فى ظل سطحية الأسس التى تنهض عليها هذه الخطابات دونما أسس فلسفية، وسياسية، وثقافية ذات عمق، ومتابعة للواقع الموضوعى. التحولات فى هذه الثنائية والإشكالية باتت أكثر تعقيدا وأثارة لأسئلة مختلفة فى النظم الليبرالية التمثيلية فى الدول الأكثر تطورًا فى عالمنا، وخاصة فى ظل ثورة الاستهلاك المفرط، وعالم الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعى، والإناسة الروبوتية، وأزمات هذه الأنظمة.
ومن الحرى القول أننا لا نبحث فى الحرية فى ذاتها، وإنما الحرية بين الناس، وطبيعة النظامين السياسى، والاجتماعى،- والدينى- فى مجتمعاتنا العربية، وهياكلها، وسلطاتها، وقيودها على الحريات العامة، والعقل النقدى الحر، وأيضا توظفيها السياسى للدين، والتدين الشعبى فى التحريض على الحرية بشكل عام!
لا يمكن تاريخيا مقاربة الحرية لاسيما فى النظم السياسية الديمقراطية التمثيلية، والاستبدادية، والتسلطية، دونما مقاربة علاقتها بالقانون.
الحرية كمفهوم فلسفى وسياسى لا يطرح فى تجريد وعمومية، وإنما فى سياقات موضوعية – سياسية واجتماعية ودينية واقتصادية، ودينية وثقافية-، وأيضا فى ثنائية إشكالية مع القانون، والنظام!
إشكالية الحرية والنظام هى أحد أبرز إشكاليات النظم السياسية والاستبدادية والتسلطية فى دولة ما بعد الاستقلال فى العالم العربى، التى أخذت برأسمالية الدولة الوطنية، وركزت على فرض القيود على الحريات العامة، من خلال الأنظمة القانونية المنظمة للحريات العامة والشخصية التى تم إقرارها فى دساتيرها بعد الاستقلال. نصت هذه الدساتير على حريات الرأى، والتعبير، والبحث العلمى، والصحافة والإعلام، والتنظيم، إلا أن القوانين المنظمة لهذه الحريات قامت بفرض القيود الثقيلة عليها، على نحو أدى إلى تصفية فعلية للحقوق الدستورية للمواطنين، وذلك فى ظل هيمنة دولة الأمن مابعد الكولونيالية، وفرض تصوراتها على المجتمع، بحيث أصبح أمن الدولة، والنظام، والاستقرار السياسى، هو القيمة العليا للأنظمة العربية ما بعد الاستعمار!
فى مقابل المصادرة الفعلية للحريات العامة والشخصية لصالح أمن الدولة، قامت السلطات العامة العربية بالتركيز على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن من خلال دعم السلع والخدمات المقدمة للمواطنين، وخاصة الأغلبيات الشعبية، والفئات الوسطى من خلال الحق فى التعليم، والصحة والدواء المجانى، وبعض الحقوق الثقافية. لا شك أن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، أدت إلى بعض الدعم للأنظمة السياسية الاستبدادية والتسلطية، وباتت تمثل أحد مصادر الشرعية السياسية لهذه الأنظمة، مع الدفاع عن الاستقلال الوطنى، ومواجهة الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين شعاراتيا -باستثناء مصر، وسوريا، والعراق، والأردن-، والزعامة السياسية التاريخية- الكاريزما الناصرية، وزعامة بورقيبة فى تونس، أو الدور التاريخى للحزب الحاكم ، على نحو ما حدث فى التجربة البورقيبة، ودعم حقوق المرأة -، أو الدور التاريخى لمقاومة الاستعمار الفرنسى على نحو ما تم فى المثال الجزائرى، أو دولة المخزن فى المغرب.
كانت التناقضات بين النصوص الدستورية المقررة للحريات العامة والشخصية، والقيود القانونية عليها، هى أبرز الإشكاليات بين الحرية، وبين القانون. أن إدراك القانون فى الوعى السياسى، والعقيدة السياسية لقادة النظم العربية بعد الاستقلال ، تمثل فى أنه أحد أدوات النظام، الوظيفية، فى الضبط السياسى والأمنى والاجتماعى، وهو ما يتناقض مع فلسفة القانون الحديث الذى يقرُ الحريات، وينظمها من خلال الدستور، والقانون، ولا يصادرها فعليا على نحو ما أدى إلى تطور النظم السياسية والاجتماعية الليبرالية الغربية وساهم فى تطور الرأسماليات الغربية، وشكل مجموعة من الحوافز الفردية، والجماعية للإبداع والتقدم العلمى، والفكرى، والسياسى، وأدى إلى تفجير القدرات الفردية، والجماعية فى هذه المجتمعات المتقدمة.
القانون والحرية فى النظم الليبرالية، يهدف إلى تعظيمها، وتنظيمها، بين المصالح الاجتماعية المتصارعة، وبحيث لا تؤدى إلى الفوضي، ومن ثم تطورت الحقوق والحريات العامة، وتم دمج بعض الحريات الجديدة ، وتحويلها إلى حقوق لم تكن مقررة سابقاً على نحو ما تشهده المجتعات الأكثر تطوراً فى عالمنا.
هاجس الأمن، واستقرار النظام واستمراريته، كان ولا يزال شاغل الطبقات السياسية الحاكمة عربيًا، ومن هنا تم مصادرة حريات الفكر والتعبير والبحث الأكاديمى، وذلك تحت رهابُ المثقفين، واعتبارهم قوة قلق، تثير الأسئلة، وتحاول نقد السياسات العامة للنظام، ومن ثم كانت الصحافة والإعلام ما قبل الثورة الرقمية تحت سيطرة النظام، ومملوكة له! امتدت الضوابط إلى الحريات السياسية، والحق فى التنظيم السياسى، والمبادرات الفردية والجماعية، على نحو أدى إلى هيمنة ظاهرة موت السياسة فى العالم العربى.
أدت هذه الظاهرة إلى ضحالة وسطحية الفكر السياسى فى هذه المجتمعات -أيا كانت اتجاهاته الإيديولوجية-، وخاصة انفصاله عن الواقع الموضوعى فى كل بلد، ومصادرة المرجعية الغربية من هنا ظهر فكر شعاراتى ليبرالى، دونما فلسفة ليبرالية فى تطوراتها الفكرية، ومدارسها!
وفكر يسارى، دون قراءة مصادرة الماركسية وتطوراتها فى المدارس الماركسية، ورأينا ماركسيون لم يقرأوا ماركس، ولينين، وماوتس تونج، وما بعدهم فى الفكر العالمى الماركسى! والاستثناءات قليلة من الليبراليين، والماركسيين، بل ولدي بعض القوميين المصريين، والعرب.
لا شك أن إشكالية الحرية والقانون، أدت إلى فكر قانوني ركز على أولوية الأمن القومى والوطنى فى مواجهة مفاهيم الحريات العامة، والشخصية. انفصل هذا الفكر القانوني العربى عن المرجعيات الفلسفية القانونية الغربية، وتطوراتها فى النظم الدستورية والقضاء الدستورى المقارن، لصالح فكر محلى يركز على مفهوم الضوابط والإجراءات المقيدة للحريات العامة، فى العالم العربى.
مع الثورة الرقمية والمجال العام الرقمى الحر انفجرت مكبوتات الوعى الجمعى، وباتت الحريات الرقمية، وكأنها نقيض القانون والنظام، وتحولت ثقافة الفوضى، وكأنها هى التعبير الأسمى عن الحريات، وهو ما أثر على الواقع الفعلى الموضوعى وساهم فى تمدد وانتشار ثقافة اللا نظام والفوضى فى غالب البلدان العربية.
المصدر: الأهرام