(1) مقدمة :
يمكن أن يكون مشروع المفكر المبدع والفيلسوف محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي واحدا من أهم ماكتب في ذلك الموضوع , فهو أصيل في منهجه , عميق في تحليله , مستوف لأدوات البحث , موسوعي المعرفة . حتى ليمكن القول إن مثقفا عربيا لم يقرأ الجابري ويفهمه ليس بمثقف يعيش عصره .
أقول ذلك بغض النظر عن النتائج التي انتهى إليها , فسواء كنت تميل لتلك النتائج أو تخالفها إلى هذا القدر أو ذاك فلايمكن إلا أن تعترف بأهمية البحث الفائقة في وضع العقل العربي تحت مجهر الفحص المعرفي والتاريخاني . في مكوناته الثابتة نسبيا وفي علاقة تلك المكونات بعضها ببعض من جهة , وعلاقة كل منها بالمؤثرات الخارجية من جهة أخرى وبخاصة بفلسفة أرسطو اليونانية وبالفلسفة الهرمسية التي ورثتها في الاسكندرية وفي تفاعل تلك الفلسفة الهرمسية ” الأفلاطونية المحدثة ” مع الفلسفات الشرقية الغنوصية لتستعيد مكانة لها داخل العقل العربي فيما اعتبره الجابري أحد مكونات العقل العربي ” العرفان “.
ليست مكونات العقل العربي التي صنفها الجابري تعريفات تمثل اكتشافا لحقائق معرفية كما هي النظريات الفيزيائية وكما – ربما – يتوهم البعض , هي بالأحرى مقاربة مفهومية يتم توظيفها من أجل تحليل آلية عمل العقل العربي , فالبيان والعرفان والبرهان لم تكن في أي وقت من الأوقات كيانات صلبة مغلقة وثابتة بصورة مطلقة , ويعكس ذلك بوضوح كيف أن أعلاما بارزين في المسيرة التاريخية المعرفية العربية جمعوا بين آليتين لانتاج المعرفة في وقت واحد , فالامام الغزالي كان إمام ” البيان ” في اتخاذ النص مرجعيته ومحاربة عرفان الشيعة والاسماعيلية الباطني الهرمسي لكنه مد يده في ذات الوقت للفلسفة اليونانية فتناول منها المنطق وشيئا من أرسطو في معركته الايديولوجية , ثم ماذا حدث بعد ذلك ؟ لقد ترك البيان والبرهان وذهب نحو العرفان في التصوف ” ليبرره من وجهة نظر تيار أهل السنة والجماعة وليمنحه الشرعية الضرورية لاعتباره ابنا شرعيا لذلك التيار وليس دخيلا عليه , ولم يكتف بهذا بل انغمس هو انغماسا تاما بالتصوف العرفاني تاركا وراءه كلا من البيان الذي اختلط بالمنطق وبأرسطو ذات يوم , وأعلن في أواخر ايامه أنه ذاق من حلاوة المعرفة والذوبان في الايمان الصوفي مالم يجده سابقا قط .
فتح البحث المعمق الجاد للجابري الباب واسعا أمام التأمل في العقل العربي , هو لم يمنح الثقافة العربية بناء منجزا لتنام عليه بل على النقيض هو منحها ماهو أثمن وأهم وهو القدرة والمبادرة على فعل ما قصرت في القيام به حتى الآن ودفعها وتحفيزها للقيام بذلك , أن تتأمل الداخل بدل مجرد النظر للخارج . وليس الداخل هنا هو التاريخ أو المنتج العقلي بل العقل ذاته , أي تأمل آلية المصنع بدلا من تأمل المنتج .
ملاحظة أخيرة لهذه المقدمة التي قصدت بها التمهيد لقراءات متعددة لأفكار الجابري في كتابه الثمين ” تكوين العقل العربي ” فبخلاف هذا التيار الثقافوي الضحل والمشحون بالأهواء الكارهة للعرب والاسلام الذي يسمم الثقافة العربية اليوم , المتخذ من النقد ستارا للهدم والتشكيك بكل مكونات الثقافة العربية الاسلامية والتاريخ العربي الاسلامي . فقد كان الجابري ينطلق في نقده من ضرورة استعادة العقلانية العربية التي توقفت عند ابن رشد وتمييز تلك العقلانية عن الجوانب الأخرى التي كانت بمثابة الكابح والقيد على العقل العربي ” العرفان الهرمسي وجزئيا البيان .
لقد كان الجابري عميق الانتماء لعروبته الحضارية منذ أول صفحة في كتابه وحتى آخر صفحة , وهو حين يبرز الجانب السلبي لنمط التفكير البياني مثلا لايغفل تثمين جهود أعلامه , ولا قيمته المعرفية , لقد توقف مندهشا من العبقرية العربية التي أنتجت الفقه والنحو والعروض على نحو معرفي غير مسبوق بين الأمم خلال أقل من قرن واحد هو عصر التدوين والترجمة وذلك انطلاقا من العام 132 للهجرة
أما في نهاية الكتاب فهو حين يصل لفلسفة ابن رشد يبين كيف أن تلك الفلسفة هي الذروة التي وصل إليها العقل العربي عبر رحلته الطويلة من عصر التدوين والترجمة وحتى القرن السادس للهجرة وهنا يتوقف العقل العربي ليس عند تلك الذروة ولكن لينتكس نحو الوديان في فعل تراجعي , أما لماذا حدث ذلك فهو موضوع مازال مفتوحا للجدل وسوف أقف عنده لاحقا .
نقد العقل العربي هو من حيث موضوعه اعتراف بعمق العروبة التي أنتجت ليس فقط ثقافة لها سماتها الخاصة بل ما هو أعمق غورا , عقلا عربيا , وخلال بحثه النقدي الجاد والمبدع لم يخرج الجابري عن أن يكون داخل ذلك العقل منتميا للحضاره التي أنتجته وليس مزدريا لتلك الحضارة ولا منخلعا عنها .
في الجزء الأول من قراءته النقدية لكتاب د.محمد عابد الجابري ” تكوين العقل العربي” بدء من مقدمة عن الكتاب الذي فتح فيه الباب د.الجابري بالبحث المعمق الجاد الواسع أمام التأمل في العقل العربي , و لم يمنح الثقافة العربية بناء منجزا لتنام عليه بل على النقيض، منطلقاً بنقده من ضرورة استعادة العقلانية العربية التي توقفت عند ابن رشد وتمييز تلك العقلانية عن الجوانب الأخرى.