استثمرت الولايات المتحدة دعمها الاقتصادي والعسكري الكبير الذي قدّمته لدول الحلفاء والاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية لهزيمة النازية والفاشية، أموالاً وأغذية وأسلحة وذخائر ومشاركة مباشرة في القتال، في فرض رؤيتها خلال تأسيس الأمم المتحدة وهيكلها (الجمعية العامة، مجلس الأمن، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، مجلس الوصاية، محكمة العدل الدولية، والأمانة العامة) ومنظماتها الفرعية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية والوكالة الدولية للطاقة الذرّية… إلخ)، حيث جاءت الأنظمة الداخلية للأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية ملبّيةً تطلّعها إلى احتلال موقع مميز في النظام الدولي، وجعلتها في موقع المتحكّم في المجتمع الدولي وتفاعلاته وتطوّراته.
استمرّ هذه الوضع حتى خرقه الاتحاد السوفييتي ببروزه، بعد امتلاكه أسلحة نووية، قوّة موازنة وانخراطه في تنافس فكري وسياسي واقتصادي معها، وعمله على لعب دور دولي بنشر عقيدته الفكرية، وكسب مواقع نفوذ خارجية عبر دعم حركات التحرّر من الاستعمار الغربي. وأدخل هذا المجتمع الدولي فيما عُرف بالحرب الباردة التي استمرّت عقودا، انتهت عام 1989 وتكرّست نهايتها بانهيار الاتحاد السوفييتي وتفكّكه عام 1991. وهذا منحها، الولايات المتحدة، صفة القوة العظمى الوحيدة في العالم، وعاد النظام الدولي ليعمل بآلياته القديمة تحت قيادتها مع تصعيدها سياسياً وعسكرياً ضد مظاهر التمرّد على قيادتها النظام الدولي خلال عقود الحرب الباردة عبر ردع هذه الظواهر بعسكرة السياسة الخارجية، واستخدام القوة من دون تفويض من الأمم المتحدة، وتوسيع حلف الناتو بضم دول أوروبا الشرقية ومدّه نحو الحدود الروسية، وتوجّهها إلى فرض قوانينها على بقية الدول من خلال العقوبات الثانوية، معاقبة دول تتعامل مع دولة معاقبة أميركيا.
لقد سعت إلى فرض وجهة نظرها على العالم عبر توظيف المؤسّسات الدولية، من البنك وصندوق النقد الدولي ووصفته للإصلاح الاقتصادي التي تؤدّي إلى تعميق الفروق الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء، وتثير الانقسامات الاجتماعية في الدول المدينة؛ إلى منظمة التجارة العالمية للتحكّم بحركة السوق الدولية، مروراً بالوكالة الدولية للطاقة النووية لتقييد انتشار الأسلحة النووية، لتوظيف قدرتها الردعية في صالحها؛ إلى العمل على فرض قيمها الاجتماعية، الفردية والمثلية وزواج المثليين، على بقية المجتمعات على الضدّ من ثقافاتها وقيمها الدينية والاجتماعية. علماً أن القيم والمعايير الأخلاقية والاجتماعية الغربية تشكّل معضلة كبيرة في الحضارات غير الأوروبية؛ حيث لا تزال الخصوصيّات على تنوّعها، إسلامية، مسيحية، يهودية، بوذية، هندوسية، تلعب دوراً في تحديد قناعات (ومواقف) أمم وشعوب كثيرة وكبيرة، ليس تجاوزها أمراً سهلاً، ليس لصحّتها بالضرورة، بل لما تمثله لشعوبها، فالمسلمون الذين عاشوا في ظل قيم محدّدة أكثر من 14 قرناً، وتأتي قوة خارجية، عهدهم بها قوة مستعمرة ومضطهدة لهم وناهبة ثرواتهم، وتفرض عليهم الانتقال إلى قيم أخرى ومعايير أخرى، ليس بتجاهل قيمهم ومعاييرهم فقط، بل وبنقضها وتسفيهها وإخراجها من الحياة العامة، السياسية والحقوقية والاجتماعية، لن يتقبلوا الأمر ولا بالقوة القاهرة، فما زال الخروج من نمط المواطنة المرتبطة بالدين الإسلامي، والذي ما زال قابعا في مخيال جزء كبير منهم، يماثل الخيانة الوطنية في الدولة الحديثة، فالإسلام ليس عقيدة دينية فقط، بل وثقافية واجتماعية ونفسية، جزء رئيس في شخصية المسلم.
السرد والسيطرة على الرواية قوة مقرّرة في الواقع العملي
لم يستتبّ الوضع لها طويلاً، حيث قادت ممارساتها الخشنة باستفزاز روسيا والصين، اللتيْن انخرطتا مع عدة دول من آسيا الوسطى في منظمة شنغهاي للتعاون، ومع الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا في تجمّع الدول سريعة النمو: البريكس، وعملتا على تحدّي الهيمنة والسيطرة الأميركية؛ بإطلاق موجة جديدة من تنافس الدول العظمى.
لم تكف الوسائل التقليدية في مجابهة التحدّي الروسي الصيني، فلجأت الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى الحرب التجارية والتوسّع في سياسة العقوبات الاقتصادية، وتشكيل تحالفات عسكرية وأمنية واقتصادية لتطويق روسيا والصين، والعمل على اختراق مجتمعاتهما سياسيا وثقافيا بترويج القيم الليبرالية واقتصاد السوق والفردية المطلقة تحت عنوان “الديمقراطية في مواجهة الاستبدادية”، ومحاصرتهما اقتصاديا وتقنياً وتحريض شعوبهما عليهما إعلاميا كي تهزّ تماسك هذه المجتمعات، وتدفعها إلى التمرّد على الأنظمة السلطوية فيهما.
غدا العالم في ظل انفجار التنافس بين القوى العظمى تحت تأثير فلسفتين ونظامين سياسيين واجتماعيين متناقضين: الفردية والليبرالية والديمقراطية من جهة والجماعية والانضباط السياسي والاجتماعي والسلطوية من جهة أخرى؛ كل منهما يحاول نشر فلسفته ونظامه السياسي وجعله نموذجا عالميا. ولا يمكن تجاهل المشروعيْن، وما ينطويان عليه من أخطار على العالم، خصوصاً في ضوء إصرار أصحاب كل مشروع منهما على تحقيق النصر على المشروع الثاني؛ وأن التنافس وتوازن القوى الدقيق والحرج بينهما يضعان العالم على صفيح ساخن، ما يستدعي التفكير في السبل الممكنة على المستويين، القريب والبعيد، لاحتواء أخطار الصراع بينهما وحماية الأمن القومي الشامل، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، لشعوب العالم منه.
تفعيل معاييرنا ومنظارنا الخاص المرتبط بثقافتنا وقيمنا ومصالحنا، مع الأخذ بالاعتبار حصول تقاطعات، قائمة وممكنة، مع المبادئ الفكرية والسياسية التي تتبنّاها الدول الأخرى
لعلّ أولى خطوات المواجهة الكشف عن المشروعين وأهدافهما وأدواتهما ورجالاتهما، والتنبيه من أخطارهما وتعزيز الحذر والحيطة من الدعوات الملتبسة التي تفتح الطرق لتسلّلهما إلى فضاءات الشعوب الأخرى، فالتحرّر من الاستعمارين، القديم والحديث، الذي حققته دول كثيرة لم يعُد كافياً للتحرّر والاستقلال الفعلي، حيث نشأ استعمار آخر خفي أكثر تأثيراً وأكثر ضرراً. استعمار أساسه برمجة (وتوليف) النخب والقوى الفاعلة في المجتمعات وتنميط ردود أفعالها عبر الضخّ الإعلامي، بمؤثراته القوية بالصوت والصورة، وبحمولة فلسفية واجتماعية ضخمة ومكثفة، وتحويلها إلى بوق يردد ما ينشر الغرب ومنابره الفكرية والإعلامية والفنية؛ ففي عالم السياسة الرواية التي يمكن تسويقها والانطباع الذي يمكن خلقه هما وليس الوقائع ما يؤثر في الرأي العام، ما يجعل السرد والسيطرة على الرواية قوة مقرّرة في الواقع العملي.
ثاني خطوات المواجهة إرساء تحالف دولي من الدول والشعوب المتضرّرة من الصراع، ومن فحوى كل مشروع منهما على حدة. تحالف شبيه بتحالف عدم الانحياز الذي تشكّل إبان احتدام الحرب الباردة مع الحرص على تجنّب المنزلق الذي وقع فيه التحالف السابق بوقوعه في حبائل الدعاية السوفييتية وانحيازه لها.
وأما مواجهة أخطار المشروعين عربياً وسورياً، فتستوجب أن يكون لنا منظورنا الخاص للدول والقيم الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية نحكم عليها من خلال رؤانا وقيمنا الفكرية والأخلاقية. ما يعني أن يكون لنا قولٌ في الإسلام غير ما يقوله الغرب والشرق عنه، هو في عُرفهما دين تمييز بين الرجل والمرأة ودين قسوة وقتل ودينٌ يحثّ على الكراهية، فيما هو على الضد من ذلك كله، فالتمييز ضد المسلمين في الدول الغربية الديمقراطية أوضح من أن يجري إنكاره، ولنا في خطاب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، اليوم الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2020، خير دليل حيث تعهّد فيه بمكافحة “التطرّف الإسلامي” والقضاء على “الانعزالية” والدفاع عن قيم العلمانية مهما كان الثمن، وبأنّ الإسلام “عقيدة في أزمة عالمية”؟، ومنع ارتداء الحجاب في المؤسّسات الحكومية والمدارس، لا أحد يشير إلى ارتداء اليهود القلنسوة؛ حتى الوزراء في حكومة الكيان الصهيوني يضعونها على رؤوسهم من دون حرج.
لنا أن يكون لنا قولٌ في روسيا والصين غير ما يقوله الغرب عنهما، وأن يكون لنا قولٌ في الغرب غير ما تقوله روسيا والصين عنه
كان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، قد دعا إلى تحويل الإسلام إلى دين شعائري، يهتم بالعبادات فقط، والسويد، التي جرت فيها عدّة عمليات تدنيس وحرق للقرآن الكريم بحماية الشرطة، تمارس سياسة واضحة في التشجيع على كراهية المسلمين. وسعت روسيا، من خلال كنيستها الأرثوذكسية، إلى استقطاب المسيحيين، بذريعة حمايتهم من الخطر الإسلامي. أقوال ومواقف تعبّر عن كراهية تاريخية هي امتداد للحروب الصليبية بالنسبة للغرب وبطاقة انتساب بالنسبة لروسيا التي كان وزير خارجيتها الأسبق، أندري كوزيرف، قد أعلن عام 1991 أنهم، أي الروس، سدٌّ يحمي أوروبا من المد الأخضر، يقصد المد الإسلامي. وأن يكون لنا قول في الإسلام السياسي وتهمة الإرهاب التي أُلصقت به غير ما يقوله الغرب والشرق عنه، وأن يكون لنا قولٌ في الغرب والشرق غير ما يقوله الإسلام السياسي عنهما. وأن يكون لنا قولٌ في الأنظمة العربية غير ما يقوله الغرب عنها تحت مسميات أنظمة معتدلة، وهي التي تميل إلى تبنّي خيارات الغرب السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتنحاز له دوليا، وأخرى متشدّدة، وهي التي ترفض الاصطفاف في صفه، من دون أن يعني هذا إعطاء الأخيرة شيكاً على بياض، واعتبارها نموذجا صالحا للحكم كونها ضد الغرب؛ حيث لا بد من تقويمها، بدلالة تعاملها مع شعوبها وتحقيقها مصالحها في كنف الحرّية والكرامة والعدالة والمساواة. وأن يكون لنا قولٌ في إسرائيل غير ما يقوله الغرب عنها، واحة ديمقراطية في محيط بدائي، وأن يكون لنا قولٌ في التطبيع معها غير ما يقوله الغرب عنه باعتبار مدخلاً إلى الآمن والازدهار، فالتطبيع امتداد لحرب الابادة الجماعية غرضه طي صفحة الشعب الفلسطيني. وأن يكون لنا قولٌ في النظام الإيراني غير ما يقوله الغرب فيه، وأن يكون لنا قولٌ في الغرب غير ما يقوله النظام الإيراني عنه. وأن يكون لنا قولٌ في روسيا والصين غير ما يقوله الغرب عنهما، وأن يكون لنا قولٌ في الغرب غير ما تقوله روسيا والصين عنه.
… وهكذا، ما يعني تفعيل معاييرنا ومنظارنا الخاص المرتبط بثقافتنا وقيمنا ومصالحنا، مع الأخذ بالاعتبار حصول تقاطعات، قائمة وممكنة، مع المبادئ الفكرية والسياسية التي تتبنّاها الدول الأخرى في الغرب والشرق، ومع الأحكام والسياسات التي تتّخذها على خلفية هذه المبادئ. بمعنى أخذ المبادئ المفيدة والسياسات المنسجمة معها وتجاهل السياسات التي تتعارض معها، فالبحث عن الجدوى في المبادئ أهم من الوقوف عند هذه السياسات غير المنسجمة معها والتنكّر للمبادئ بذريعة خرق أصحابها لها.
المصدر: العربي الجديد