قد تمهد هذه العملية الطريق للتوصل إلى تسوية بدلاً من المضي في القتال حتى النهاية، كما حدث في الحرب العالمية الثانية.
أوكرانيا حققت تقدماً مفاجئاً بتوغل قواتها داخل الأراضي الروسية، مما أحرج روسيا والغرب على حد سواء، وقد يسهم في دفع الأطراف نحو مفاوضات سلام على رغم أن السلام يبدو بعيد المنال في الوقت الحالي.
أثبتت أوكرانيا طوال فترة الحرب مع روسيا، قدرة ملحوظة على مباغتة عدوها الأكبر بخطوات غير متوقعة. فمنذ صد هجوم القوات الروسية في فبراير (شباط) عام 2022، واصل الأوكرانيون تحقيق انتصارات كبيرة على العدو عززت معنوياتهم.
إلا أن التحرك المفاجئ الذي قامت به كييف هذا الأسبوع والمتمثل في توغل قواتها داخل الأراضي الروسية، كان مثيراً للاهتمام أكثر بكثير من الضربات السابقة التي سددتها. فقد حدث ذلك في وقت كان المحللون العسكريون الغربيون يستنتجون أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أصبحت لديه اليد الطولى في حرب الاستنزاف الطاحنة مع جارته الأصغر حجماً أوكرانيا، مما قد يدفع هذه الأخيرة نحو تقديم تنازلات في الأشهر المقبلة، وقبول مطالبه لإنهاء الحرب. ونتيجة لذلك، فوجئ الغرب والكرملين بهذه التطورات الأخيرة.
ويعد منتقدو الحكمة الاستراتيجية للخطوة الجريئة التي أقدمت عليها كييف، هذه النقلة مجرد اضطراب موقت، أو عثرة في ساحة المعركة، أكثر منها نقطة تحول استراتيجية، وهو ما يشبه معركة الثغرة التي خاضها هتلر في الحرب العالمية الثانية، والتي عطلت خطط الحلفاء لمدة 10 أيام في ديسمبر (كانون الأول) عام 1944. ولكنها في نهاية المطاف استنزفت ما تبقى من قوات احتياط لجيشه.
من خلال استيلائها على جزء واسع من الأراضي في غرب روسيا نفسها، أطاحت كييف بقوة الدعاية التي يروج لها بوتين داخل بلاده، وللسردية التي صورها نظامه عن تحقيق تقدم روسي نحو النصر في الحرب الدائرة في أوكرانيا.
وفي المقابل، قد لا يبدو التوغل لمسافة ستة أميال (9.56 كلم) في غضون أسبوع واحد داخل الأراضي الروسية، بمثابة “حرب خاطفة حاسمة” (وفق التعبير الألماني Blitzkrieg). لكن بالنسبة إلى الروس، فإن تحقيق مثل هذه الوتيرة في المنطقة الجنوبية سيكون موضع ترحيب كبير. ففي تلك المنطقة، كانت مكاسبها الميدانية الأخيرة بطيئة ومكلفة للغاية، ويمكن مقارنتها بـ”معركة السوم” Battle of the Somme الشاقة في عام 1916 (إحدى كبرى المعارك وأكثرها دموية في الحرب العالمية الأولى، دارت قرب نهر السوم في فرنسا، وشاركت فيها قوات بريطانية وفرنسية ضد الإمبراطورية الألمانية).
كما أن مواصلة حرب استنزاف مطولة تصب في الواقع في مصلحة الكرملين، لأن لديه المزيد من الجنود الذين يمكنه التضحية بهم واستخدامهم وقوداً في أتون المعارك الطاحنة، مقارنة بما تستطيع كييف أن تحشده.
إن حجم الضحايا في الصراع الراهن بين الجانبين مرتفع للغاية، ويتجاوز حتى الخسائر الفادحة التي شهدناها في الحرب الشرسة التي شنها فلاديمير بوتين في الشيشان بعد عام 1999. لكن على رغم الكلفة البشرية الكبيرة، لم تقم لا أوكرانيا ولا روسيا بتعبئة كاملة لسكانهما لخوض هذا الصراع كما حدث أثناء الحرب العالمية الثانية.
وفي هذا الإطار، يأخذ مستشارو “حلف شمال الأطلسي” (ناتو) على السلطات الأوكرانية، عدم قيامها بتجنيد الشباب في سن الدراسة، في وقت يتحمل آباؤهم العبء الأكبر من الجهد ويموتون على جبهات القتال. وفي الوقت نفسه، تجنب بوتين أيضاً التجنيد الجماعي في مدن رئيسة مثل العاصمة موسكو و”سانت بطرسبورغ”، وقام بدلاً من ذلك باستقطاب مجندين من مناطق أبعد.
وبدلاً من خوض القتال حتى النهاية كما حدث في الحرب العالمية الثانية، ربما تكون كل من كييف وموسكو في صدد المناورة من أجل التوصل إلى تسوية سلمية تتيح الخروج من هذه الفوضى المستمرة – تسوية قد تسمح لكل من بوتين وزيلينسكي بإنقاذ ماء الوجه.
وقد يوفر النجاح العسكري الذي تحقق هذا الأسبوع للرئيس زيلينسكي الورقة التي يحتاج إليها لبدء محادثات سلام من موقع قوة جديد. وكانت حكومته قد تواصلت بصورة سرية في الأسابيع الأخيرة مع حلفاء روسيا – مثل الصين وتركيا – لاستكشاف إمكان التوصل إلى اتفاق محتمل لوقف النار، أو حتى التفاوض على شروط السلام.
إضافة إلى ذلك، لن ينسى زيلينسكي التمرد الذي واجهه في الداخل عندما اقترح إجراء محادثات مع بوتين قبل نحو خمسة أعوام. وفيما قد يشعر كثير من الجنود وأرامل القتلى وأيتامهم بالغضب أمام الخسائر التي تكبدتها أوكرانيا منذ عام 2022، وبـ”خيانة” لهم إذا ما أجريت أي مفاوضات سلام مع موسكو، إلا أنهم قد يكونون أكثر انفتاحاً لقبول وقف “مشرف” للنزاع، خصوصاً بعد النجاحات الأوكرانية الأخيرة في ساحة المعركة.
وبعيداً من محادثات السلام، ثمة كثير من المناقشات الحرجة الأخرى التي يتعين إجراؤها، بما في ذلك المخاوف المتعلقة بسلامة وأمن خطوط أنابيب الغاز المعرضة للخطر بسبب الحرب الجارية، والاضطرابات الاقتصادية المترتبة عن الصراع المطول، وإمكانية إجراء مفاوضات على أي عمليات تبادل للأراضي بين الطرفين.
على الجانب الآخر، يمكن القول إن إحكام بوتين قبضته على وسائل الإعلام الروسية، يعني أن في إمكانه إعلان النصر وإنهاء الحرب في أي لحظة.
وربما توجد فرصة ضئيلة لوقف العنف المستمر في أوكرانيا إذا ما أدرك كل من الكرملين وكييف المنافع التي قد يحصدانها حتى لو لم يكن اتفاق السلام مرضياً تماماً لأي منهما. وعلى رغم أن هذا السلام قد يفضي إلى هدنة موقتة فحسب، فإنه بالنسبة إلى كثير من الجنود العاديين من الطرفين، سيكون بمثابة محطة منقذة للأرواح.
هل من سلام يلوح في الأفق؟ من المؤسف أن السلام ليس مرجحاً في وقت قريب. لكن التطورات الميدانية الأخيرة غير المتوقعة التي شهدها هذا الأسبوع، قد تدفع بالرئيس الروسي إلى إعادة النظر في موقفه. فقواته لا تحقق التقدم اللازم بالسرعة الكافية في ساحة المعركة، بينما الدعم الغربي لأوكرانيا عاد في ازدياد مطرد على مدى الأشهر الأخيرة.
قد يتعثر هذا الدعم مرة جديدة إذا ما فاز الرئيس السابق دونالد ترمب بانتخابات الرئاسة الأميركية. لكن إذا خسر، فسيواجه بوتين أربع سنوات أخرى من الحرب “بالوكالة” ضد بلاده، بقيادة الولايات المتحدة.
المصدر: اندبندنت عربية