في 30 يوليو/تموز 2024 اغتالت إسرائيل – بغارة جوية على الضاحية الجنوية في بيروت – فؤاد شكر القيادي في حزب الله. وقد غلب على معالجة الحدث – كالعادة – المنظوران السياسي والعسكري في ظل تطورات الحرب الجارية على غزة والتي توسعت رقعتها خارج الحدود لتشمل دولاً عدة منها لبنان وإيران. ولكن ثمة جانب مهمّ من الحدث لم تتم مناقشته؛ بالرغم من أنه أثار بعض الجدل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو الملف العسكري للقيادي المقتول، فشكر هو – بحسب التقارير – المسؤول العسكري الأول لحزب الله، وشغَل عضوية مجلس شورى حزب الله، وعمل – أيضًا – في أعلى هيئة عسكرية للحزب وهي “المجلس الجهادي”، وكان له دورٌ مركزيٌّ – بحكم منصبه وطبيعة عمله – في مساعدة مقاتلي حزب الله وقوات جيش النظام السوري في الحملة العسكرية على بعض المدن السورية ضد قوات المعارضة في سوريا بعد الثورة التي اندلعت عام 2011. وكانت الخزانة الأميركية قد فرضت عقوبات عليه؛ بسبب دعمه للأعمال الوحشية في سوريا إلى جانب سجله في العمل العسكري ضد أميركا وإسرائيل.
يرجع الجدل المثار إذًا إلى طبيعة شخصية شكر المركّبة؛ فقد جمعَ بين مقاومة إسرائيل ومشاركة النظام السوري في قصف المدن الثائرة وقتل المحتجين. وتثير هذه الطبيعة المركبة العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى نقاش جدّي على أسس أخلاقية وفقهية تحديدًا؛ لأن الحسابات السياسية والانتماءات الأيديولوجية هي التي تُسهم في تعقيد الموقف وفي الجدل الذي يثار في كل مناسبة تخص المقاومة الفلسطينية وعلاقتها بإيران. بل إن أساس الإشكال – في رأيي – يتمثل في أن الفكر السياسي الحركي قد اخترع موازين بديلة عن الموازين الشرعية في تقويم الأشخاص والقضايا، وصياغة الأولويات وتحديد المهم وما يجب السكوت عنه وتنحيته جانبًا. وقد دفع هذا إلى التورط – أحيانًا – في تحويل الحسابات السياسية إلى عقائد دينية ومبادئ أخلاقية حاكمة على آخرة الفاعلين السياسيين أيضًا وليس فقط دنياهم، فتوهم أن دعم القضية الفلسطينية – وحده – يكفي لغسل جميع الذنوب والخطايا ولمغفرة الله في الآخرة أيضًا، وأن مجرد الشهادة في المواجهة مع إسرائيل تكفي – وحدها – لنيل درجة النبيين والصديقين والصالحين في الآخرة.
ولتحرير المسألة علينا أن نناقش ثلاثة أمور مركزية: معايير تقويم الفعل والفاعل، ونظام الحقوق الذي هو عصب الشريعة الإسلامية، وتحديد المبدئي والمصلحي.
لنبدأ بالأمر الأول وهو معايير تقويم الفعل والفاعل وثمرتها في النقاش السياسي الجاري. نقرّ – بداية – بأن ثمة فارقًا بين الفعل السياسي والفعل الفردي. فموازين السياسة تفرض على السياسيين وأصحاب القرار ترتيب الأولويات التي تنطوي – بالضرورة – على المفاضلة في القيمة والانحياز إلى قضايا على حساب قضايا أخرى؛ وفق اعتبارات مختلفة (سياسية أو عقدية أو قومية أو وطنية). وتفرض الحسابات السياسية – أيضًا – العمل بناء على الواقع والمتوقَّع، والقيام بجملة من الموازنات بين المصالح والمفاسد، والتفاوض، والبناء على المشتركات وتنحية الخلافات، واستثمار كل الإمكانات المتاحة لخدمة هدف سياسي محدد. ويُشبه الفعلُ السياسي أن يكون مثل رمي حجر في بِركة ماء، يَصدر عنه أفعال “متولدة”، فالفاعل بفعل واحد مباشر هو رمي الحجر ولكن تولد عن فعله أفعال أخرى. فالسؤال هنا بالنسبة للفعل السياسي يتناول نقطتين: تحديد المسؤولية عن الأفعال المتولدة، وإمكان التحكم بها بعد وقوعها.
وتقود سمات الفعل السياسي السابقة إلى عدة اعتبارات يجب توضيحها:
الأول: خصوصية الفاعل السياسي؛ فما تفرضه عليه واجبات المنصب وإكراهاته (role-based obligation) تختلف عن موقف الجمهور، ومن ثم لا يَلزم الجمهورَ ما يَلزم الفاعلَ السياسيّ بحيث يكون عليهم أن يتبنَّوا مواقفه كاملة وأن يدافعوا عن صوابها بل وأن ينهجوا نَهجه أيضًا، لأننا سنكون – عند ذلك – أمام حالة تحزّب عقائدي لا أمام فعل سياسي عقلانيّ.
الثاني: تتفاوت مرتبة الفعل السياسيّ بحسب طبيعة الفاعل: دولةً كان أو ما دون الدولة. فالعلاقة بين الدول تخضع لنظام خاص في الفعل والحسابات واللغة الديبلوماسية، من ذلك أن المديح والنقد والاحتجاج له موازينه وأساليبه المنظمة التي تعبّر عن الندّية. وتنطوي اللغة الديبلوماسية على التحفظ والتلميح أكثر من الإفصاح. أما العلاقة بين دولة وكيانات أو جماعات فلا تنطوي على أي نوع من الندية، ولا تخضع لنظام يضبطها، فالمديح والثناء – في هذه الحالة – يضحّي بواجب إنكار المنكر؛ لأن الأدنى ليس في موقف يخوله القيام بذلك، ثم إن المديح ينطوي على استثمار سياسيّ رمزيّ هو بالأساس سبب تقديم الدعم للطرف الأدنى، وفي مثل هذا الاستثمار تغيب اللغة الديبلوماسية ليكون الإفصاح والمبالغة وغياب القيود سيدَ الموقف، بل يكون مقصود المديح والثناء الواقع من الطرف الأدنى هو تمجيد الفاعل (وهو حكم كليّ) لا بيان حسن الفعل نفسه (وهو حكم جزئي)، وفرقٌ كبير بين الثناء على الفعل والثناء على الفاعل.
الثالث: يختلف وزن الفعل بحسب فاعله، فخطايا الدولة أثرها بالغ وفادح؛ بالنظر إلى إمكاناتها وقدراتها متنوعة القوى وبالغة السطوة. والمصالح والمفاسد المترتبة على فعل الدولة إنما تُقاس بقدر آثارها لا بقدر صورة الفعل نفسه، فمَن قتل ألف شخصٍ بفعلٍ واحد، يُقاس وِزره بالألف الذين قتلهم لا بالفعل الواحد الذي فعله.
الرابع: التقويم لا يقوم على النظر المجرد إلى صورة الفعل؛ بمعزل عن مقاصد فاعله والسياق الذي وقع فيه الفعل، والنتائج المترتبة على الفعل. فصورة الفعل لا تكفي للحكم بأنه فعل أخلاقيٌّ، ولذلك فرّق الحديث النبوي بين من يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ومن يقاتل حَمِيّة أو لأغراض أخرى، ويدخل في ذلك اليوم بالنسبة للدول خدمةُ أجندات قومية ووطنية وعقائدية، وتقوم القرائن التي يعرفها المحللون السياسيون جيّدًا مقام ما أُضمر من نوايا الأشخاص والدول، وسيكون لهذا أثر بالغٌ على الفرق بين الثناء على الفعل والثناء على الفاعل؛ لأن الفعل يمكن أن يكون حسنًا مع أن الفاعل سيئ، ولهذا تَغَلب الإمام محمد بن إدريس الشافعي على هذه المشكلة بالنسبة للأشخاص فحَكم بما هو غالب على الشخص؛ لأن جميع الناس يخلطون عملاً صالحًا وآخر سيئًا.
نأتي الآن إلى الأمر الثاني وهو نظام الحقوق. فقد أدت غلبة التسييس على الحركة الإسلامية إلى هدر نظام الحقوق الذي هو عصب الشريعة الإسلامية، ومدارُه على قسمة الحقوق إلى حقوق الله وحقوق العباد. وقد قرر الفقهاء قاعدة تقول: حقوق العباد مبنيّة على المشاحَّة وحقوق الله مبنية على المسامحة، وقد جاء في الحديث النبوي أن الدماء هي أول ما يُقضى به بين الناس يوم القيامة، وقد توهم أناسٌ أن مجرد توجيه البوصلة إلى إسرائيل يكفي لنيل مغفرة الله العامة عن باقي الأفعال في غير تلك الساحة. ولكن الشريعة تقرر أن جريمة القتل يتعلق بها ثلاثة حقوق: الأول: حق الله، وتُقبل فيه التوبة عند جمهور أهل العلم؛ إذا تاب القاتل قبل موته. الثاني: حق المقتول، وهذا لا تنفع فيه توبة القاتل شيئًا. الثالث: حق أولياء المقتول الذين هم أهله، وفي حالة سوريا واليمن ومن قبل ذلك العراق وغيرها، تَسبب القتل في الكثير من الأضرار بأولياء المقتولين، من تشريد وتهجير وألوان العذاب المختلفة، وهذا الحق لا يسقط إلا إذا وقعت المسامحة فيه. وإذا كانت هذه الحقوق الثلاثة ثانوية في حسابات السياسيين؛ نظرًا لطبيعة الفعل السياسي المركبة كما سبق بيانه، فإنه لا شيء يسوّغ للجمهور أن يقللوا من شأنها أو أن يتناسوها؛ لأن في ذلك إهمالاً لعصب الشريعة، ومفاضلةً بين الدماء على أسس جاهلية، وتغليبًا للسياسي على الحقوقيّ. وعادةً ما ينشغل السياسيون والمحللون بالحسابات الاستراتيجية؛ لأنها هي التي تحدد أولويات الفعل السياسي، ومن ثم يهملون الآثار الإنسانية للفعل السياسي ويصبح نظام الحقوق كله ثانويًّا، وهذا من آثار علمنة المجال السياسي.
نأتي الآن إلى المسألة الثالثة وهي المبدئي والمصلحي. يدور النقاش هنا حول موقفين: الأول: مبدئي بمعنى الثبات وعدم القابلية للتفاوض، والثاني: مصلحي بمعنى التغير وفق اعتبارات عملية تخضع لموازين القوة والمصالح. فما طرحه الفقه الإسلامي عامةً بخصوص (العدو) هو موقف مصلحيّ وليس مبدئيًّا، ولهذا يخضع هذا الموقف لاعتبارات عملية تقديرية، ولا يميز الفقه هنا بين عدو وعدو، ولكن مركزة قضية ما وجعلها هي – وحدها – ميزان المغفرة والإيمان والشهادة لن يتصادم مع عموم الموروث الفقهي فقط بل سيؤدي إلى التضحية – في سبيل القضية المركزية – بنظام الحقوق وغيره مما سبق، ووضع موازين جديدة للتقويمات الدنيوية والآخروية. ومن اللافت أن المبدئية عند أصحاب الموقف المبدئي لا تعني إلا عدم التجزئة في التعامل مع العدو المباشر فقط، والتجزئة في التعامل مع حلفائه وفيهم من لا تكاد تميز بينه وبين العدو نفسه، والتجزئة كذلك في باقي القضايا عامة.
يفرض الموقف المبدئي الاتساق في تطبيق المعيار نفسه في جميع الحالات المتشابهة أو المتناظرة، أما الموقف المصلحي فهو موقف براغماتي وتجزيئي ومتغير باستمرار، وقد يفتقر إلى الاتساق؛ لأنه يخضع لحسابات يفرضها السياق والتحيزات المتنوعة المشار إليها سابقًا، ولكن لا يعي أصحاب المواقف التجزيئية أنهم – بذلك – يوفرون لخصومهم أيضًا شرعية مساوية تستند إلى المعيار نفسه وإن اختلفت في شكل تطبيقه.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا