فور أن بدأت الحرب اللعينة الجارية فى السودان لأكثر من 15 شهرا حتى اليوم، كتبت فى نفس هذا المكان مقالا غاية فى التشاؤم ، حذرت فيه من سيناريوهات المصائر الأسوأ ، وقلت وقتها بوضوح صادم ، أن تحطيم الجيش السودانى لا قدر الله ، قد لا يعنى أقل من استصدار شهادة وفاة للسودان الذى نعرفه ، وكنت أظن وقتها أن الاحتمال المفزع بعيد لكنه وارد ، رغم جولات تفاوض متسكعة فى العواصم القريبة والبعيدة ، لم تثمر حتى فى اتفاق على فتح طرق ومسارات نقل مساعدات لملايين المنكوبين .
وبعد كل ما مضى من فظاعات الحرب الملعونة ، تبدو خرائط السودان متفسخة ، وتبدو خطوط التقسيم مرسومة غائرة فى الأرض ، فلم ينجح الجيش السودانى حتى الآن فى سحق قوات “الدعم السريع” المتمردة ، واضطر قائد الجيش “عبد الفتاح البرهان” ، إلى مغادرة مقر القيادة العامة للقوات المسلحة والعاصمة “الخرطوم” قبل شهور ، واتخذ لنفسه ولحكومته ملاذا فى ميناء “بورتسودان” ، ورغم استعادة الجيش لمناطق فى الخرطوم ، خصوصا فى “أم درمان” وما حولها ، إضافة لمناطق قيادة عسكرية ، أهمها قاعدة ومطار “وادى سيدنا” ، فيما ظلت جماعات المتمردين من “الدعم السريع” فى أغلب نواحى العاصمة المثلثة ، تقتل وتنهب وتعيث فسادا فى الأعيان المدنية العامة والخاصة ، وتحركت بسلاسة فى خارج “الخرطوم” ، وسيطرت على أغلب ولايات “دارفور” الخمس ، وتحارب لإكمال السيطرة على “الفاشر” أكبر مدن “دارفور” ، ومن الغرب إلى الوسط ، كانت ضربة استيلاء قوات “الدعم السريع” على ولاية “الجزيرة” قلب السودان الزراعى ، ثم من بعدها أخيرا إلى منطقة “جبل موية” ، ثم جنوبها إلى ولاية “سنار” ومدينة “سنجة” ، مع مخاطر متزايدة فى ولايات “كردفان” الثلاث وولايات “النيل الأزرق” و”النيل الأبيض” و”القضارف” ، ومع كل نوبة تراجع ، لا تصدر عن الجيش روايات مفيدة ولا مقنعة ، تشرح أسباب التساقط السريع للحاميات العسكرية وهروب قواتها ، فيما تبدو قوات “الدعم السريع” منتشية منتفخة ، وتقول أنها صارت تسيطر على نحو سبعين بالمئة من إجمالى أراضى السودان ، فيما لم تتبق تحت سيطرة الجيش الفعلية ، سوى ولايات فى شمال السودان وبعض شرقه وجنوبه ، وبقطع النظر عن مدى دقة ادعاءات الطرفين المتحاربين ، فقد دخل السودان الحبيب إلى أسوأ كوابيسه ، وصارنحو نصف سكان السودان شركاء فى أحوال التشرد والمجاعات والنزوح واللجوء إلى خارج البلاد ، وكل منطقة تدخلها قوات “الدعم السريع” ، يهرب أغلب سكانها خوفا وهلعا ، وأطراف الحرب تتكاثر إلى ما لا نهاية ، فما كان يسمى “حركات الكفاح المسلح” دخلت إلى حلبات الدم الجديدة ، وانحازت بعض فصائلها إلى الجيش ، كما يجرى فى “الفاشر” وما حولها ، بينما تدعم حركات أخرى حرب “الدعم السريع” ضد الجيش عمليا ، كما يجرى من حركة “عبد العزيز الحلو” فى “كردفان” و”جبال النوبة” ، وفى أجواء الفوضى والانفلات والبؤس العام ، عاودت أثيوبيا ـ من خلال ميليشيات “فانو” الأمهرية ـ هجماتها على منطقة “الفشقة” الغنية الخصبة زراعيا ، التى كان الجيش حرر أغلبها سابقا ، وكأن السودان ـ لاقدر الله ـ تحول إلى تركة ، يتناهشها الفرقاء من السودانيين وعواصم الجوار ، فيما تخفق كل محاولات التفاوض ، ووضع حد للحرب ، ونسمع كل أسبوع تقريبا عن مؤتمرات فى عواصم جوار لقوى مدنية متشاكسة ، لا يصل أيا منها إلى حل ، ولا حتى إلى بيان مشترك فى العموميات ، كما جرى مثلا فى مؤتمر “القاهرة” قبل أسابيع ، وتنصل قوى مشاركة وازنة من بيانه الختامى قبل أن يجف حبره .
وصحيح ، أنه لا طرف بعينه انتصر بالكامل فى الحرب الملعونة حتى الآن ، لكن الهزيمة وهوانها كانت من نصيب السودان كله ، الذى لم يشهد فى عمره الطويل بعد استقلاله عام 1956 ، سوى سنوات معدودة من استقرار صورى ، وتناوبت عليه صور الحكم العسكرى فالمدنى ، ومن دون نجاح لأى منها فى وضع السودان على مسار استقرار وتنمية متصلة ، فالبلد شاسع المساحة حتى بعد انفصال ثلثه الجنوبى رسميا عام 2011 ، وموارده الطبيعية هائلة ومتنوعة ، وتركيبه السكانى مختلط بين قبائل وإثنيات عرقية عربية وأفريقية وغيرها ، وحدوده سائبة مع أغلب دول جواره المأزومة الهشة هى الأخرى ، وهو ما يزيد ويضاعف مصادر الخطر من حوله وفى داخله ، ويجعله مطمعا للمتصارعين فى البيئة الإقليمية والدولية ، خصوصا فى هذه المرحلة من عمر العالم والمنطقة فى قلبه ، مرحلة الانفجارات والحروب الطاحنة انتقالا من عالم إلى آخر ، بينما لا يملك السودان حصانة داخلية تحميه وتحفظ تماسكه ، فقد ولد السودان ما بعد الاستقلال بعلة صارت عاهة مستديمة ، هى الضعف المريع لجهاز الدولة العسكرى والمدنى ، وهو ما جعل تكوينه رخوا دائما بلا عمود فقرى ناظم ، فلا أحزاب ولا تيارات جامعة للتنوع السودانى الكثيف ، ولا تنمية مؤثرة تذيب كيانات وعشائر وجهات ما قبل الدولة ، وتخلق مجتمعا متجانسا ولو فى الحد الأدنى ، ولا حتى قوة قهر وصهر للجميع فى بوتقة دولة ، فالجيش السودانى الذى حكم أغلب أوقات ما بعد الاستقلال ، كان دائما رمزيا ومخترقا وضعيفا بالجملة ، ولم يقم أبدا على أساس التجنيد الوطنى العام ، وكان مدار سيطرته وحضوره مقصورا غالبا على العاصمة وما حولها ، وهو ما شجع دائما على حضور ونمو حركات تمرد فى الأطراف البعيدة ، كان أولها حركات تمرد فى جنوب السودان بطابعه الأفريقى ، وقد ظلت تحارب جيش الخرطوم منذ ما قبل الاستقلال ، وبلغت ذروة عملها فى عهد الجنرال “عمر البشير” وحكمه “الإخوانى” ، واستفادت حركة التمرد من تعبئة “جهادية” جهولة ، صورت الصدام كما لو كان حربا دينية ، فانشق السودان فى نهاية الحروب الدموية إلى شمال وجنوب ، ثم جاء الدور على حروب غرب السودان فى “دارفور” ، ومساحتها وحدها أكبر من مساحة فرنسا ، وولدت فى سياقها جرثومة “الدعم السريع” ، وعبر مراحل “جنجويدية” إجرامية ، آلت إلى صعود “محمد حمدان دقلو” المعروف باسم الجنرال “حميدتى” ، وكان “البشير” يصفه بأنه “حمايتى” لا “حميدتى” ، وتضخم النتوء “الحميدتى” بعد سقوط حكم “البشير” ، وصرنا إزاء جيشين لا جيش واحد ، وإزاء جنرالين فى قمة سلطة المرحلة الانتقالية المتطاولة المتعثرة ، وإزاء صراع تفاقم بين “البرهان” رئيس مجلس السيادة ونائبه “حميدتى” ، وإزاء مشهد عجيب كاريكاتورى فى “الخرطوم” ، تتقافز فيه أسماء لقوى مدنية مرتبطة عضويا بالتمويل والتوجيه الأجنبى ، وإزاء مخاوف من انتقال سريع للاحتكام إلى الشعب فى انتخابات عامة ، وهو ما أغرى “حميدتى” باللجوء إلى لعبته القاتلة ، فقد كان تسليح وعديد قوات الدعم السريع قد تكاثر طفريا ، وكانت أوراق الاتفاقات الإطارية تتطاير ، وهو ما دفع “حميدتى” بتعليمه الأولى الابتدائى ، وبروح قائد العصابة الخاطفة الناهبة لكنوز السودان وذهبه من “دارفور” إلى “كردفان” ، وباتصالاته الخليجية مع دول فائقة الغنى والطمع ، وباستفادته من حدود السودان السائبة ، وببعض امتداداته القبلية غرب حدود السودان ، وكانت تلك كلها موارد مؤثرة فى ضربة “حميدتى” الأخيرة ، فلم يجد حرجا مع كل هذه الفوضى فى أن يعلن نفسه زعيما وراعيا للديمقراطية ، مقابل الديكتاتورية المنسوبة لشخص الجنرال “البرهان” ، وأعلن الحرب على الجيش بدعوى حماية ما أسماه “خيار الشعب” فى الحرية والسلام والعدالة ، وبدت اللعبة الهزلية جذابة لقوى وشخصيات مدنية متطلعة للسلطة والثراء الفردى ، ثم تحول الهزل سريعا إلى مآسى دماء تسيل بغير حساب ، وإلى شقاء وهلاك متصل للسودان والسودانيين ، مع تكرار النغمة “الجهادية” القديمة نفسها على الطرف المقابل ، وتجنيد جماعات المستنفرين دينيا لصالح الجيش ، ومن دون أن يضيف ذلك شيئا غير الوبال المتقادم نفسه ، فالطرفان يهتفان “الله أكبر” عند كل مذبحة ، وفى صفوفها معا قطاعات مما يسمى “الحركة الإسلامية” فى السودان ، ولا مانع عند “حميدتى” من تقبل عمامة “الشيخ” بعد رتبة “الجنرال” ، فهى أشياء تشترى من الأسواق ، وعنده المال المسروق الكافى ، الذى يصوره إماما وديمقراطيا وجنرالا بارعا ، يسعى ـ كما يتقولون ـ لجعل الحكم فى يد المدنيين الديمقراطيين ، وفى الطريق يهوى رجاله ومرتزقته بالمعاول على رأس السودان ، ويحرقون بالنار ما تبقى من اسمه ورسمه ، ويحطمون ما تبقى من الجيش وانضباطه وهويته السودانية شبه الجامعة ، وفى الوضع السودانى الراهن ، فما من قيمة لكلام هازل أو جاد عن الديمقراطية ونوع الحكم ، فالخطر الآن يجتاح السودان نفسه ، وينذر بخلع ما تبقى من جذور وركائز الدولة السودانية ، ويهدد بقاء الجيش كحجر زاوية وحيد فى الصرح السودانى الافتراضى ، ويفتح أبواب الجحيم لحروب فناء أهلى تبدأ فلا تنتهى .
المصدر: القدس العربي