لماذا تراجعت إيران وإسرائيل عن حافة الهاوية؟‏

ولي نصر*       ترجمة: علاء الدين أبو زينة

‏‏كان الجانب المشرق في أزمة نيسان (أبريل) بين إيران وإسرائيل هو أن واشنطن وطهران تحدثتا خلف الكواليس طوال الأسبوعين اللذين استغرقتهما. وكان تواصلهما مفتاحا لتجنب الكارثة. وبينما ترسم الولايات المتحدة مسارها الدبلوماسي التالي، يجب أن تستفيد من هذا الانفتاح لتقليل خطر نشوب حرب أكبر. ويجب عليها إشراك إيران في مجموعة من القضايا الإقليمية، مثل تهديد الحوثيين للشحن الدولي في البحر الأحمر، والبناء على جهودها الدبلوماسية السابقة لإحلال الهدوء على الحدود الإسرائيلية اللبنانية.

*   *   *

أدى الفصل الأخير من الهجمات والهجمات المضادة بين إيران وإسرائيل في الأسبوعين الأولين من شهر نيسان (أبريل) إلى إحداث تغيير جذري في المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط. في الأول من نيسان (أبريل)، أسفرت غارة جوية إسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق عن مقتل سبعة من قادة الحرس الثوري الإسلامي، بينهم جنرالان. وبعد أسبوعين من ذلك، ردت إيران بإطلاق وابل من الطائرات من دون طيار والصواريخ على إسرائيل، والتي تم اعتراضها كلها تقريباً. وردت إسرائيل بسرعة على الهجوم الإيراني بشن هجومها الخاص بطائرة من دون طيار وصواريخ على قاعدة جوية في إيران. وتسبب هذا التبادل في الهجمات إلى إخراج حرب الظل التي يخوضها البلدان منذ أكثر من عقد إلى العلن.‏

‏أصبح من الواضح الآن أن الخصومة المتصاعدة بين إيران وإسرائيل ستشكل الأمن الإقليمي، وتحدد سياسة الشرق الأوسط في المستقبل المنظور. وينظر كل من الخصمين إلى الآخر على أنه عدو لدود يجب أن يهزمه بالوسائل العسكرية. وإذا تُركت هذه المنافسة الخطيرة بين البلدين من دون رادع، فإنها ستؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة، ويمكن أن تؤدي في النهاية إلى تفجير صراع يجر الولايات المتحدة إلى حرب مكلفة. ويتقع على عاتق واشنطن الآن صياغة استراتيجية دبلوماسية لتهدئة الاتجاهات التصعيدية التي عجلت بمواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل في نيسان (أبريل) -ويمكن أن تفعل مرة أخرى.‏

‏شبح حرب أكبر‏

أحدث الهجوم الذي شنته “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) تأثيراً كبيراً على هالة إسرائيل التي لا تقهر وقلل من شعورها بالأمن. وقد أطلقت إسرائيل رداً شرساً أعلنت أنه يهدف إلى تدمير حماس، وتحرير الرهائن الإسرائيليين الذين ما يزالون في غزة، واستعادة الثقة في قدرتها على ردع الهجمات الخارجية وحماية سكانها. وقد استعصى تحقيق الأهداف الثلاثة على إسرائيل حتى كتابة هذه السطور.‏

‏مثل حملتها على غزة، كانت الضربة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية مدفوعة في جزء منها بالرغبة في ضمان عدم تكرار هجوم بحجم 7 تشرين الأول (أكتوبر). وقتلت الغارة الإسرائيلية محمد رضا زاهدي؛ القائد في الحرس الثوري الذي نسق العمليات العسكرية لحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، والجماعات المسلحة الأخرى في المنطقة التي حشدتها طهران لتقديم الدعم لـ”حماس” في الأشهر الماضية. ومن خلال استهداف زاهدي، أوضحت إسرائيل أنها تعتبر إيران المسؤولة النهائية عن التسبب في الأزمة الحالية. وبقتل زاهدي في مجمع دبلوماسي، أظهرت استعدادها وقدرتها على اغتيال كبار المسؤولين الإيرانيين في أي مكان وفي أي وقت.‏

‏ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تضرب فيها إسرائيل قواعد إيرانية في سورية أو تقتل ضباطاً كباراً وقادة في الحرس الثوري هناك. حتى قبل هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كانت إسرائيل قد هاجمت البنية التحتية الصناعية والمنشآت العسكرية الإيرانية، وقتلت علماء نوويين داخل إيران، وضربت القواعد التي تستخدمها الميليشيات الشيعية العراقية بالقرب من الحدود العراقية السورية، واستهدفت بشكل روتيني قوافل الشاحنات المتجهة من إيران إلى سورية عبر العراق. وقد أصبحت الهجمات الإسرائيلية في سورية أكثر جرأة بدءاً من أوائل العام 2022، عندما لم تعد روسيا، بعد أن قلصت وجودها هناك بسبب التركيز على أوكرانيا، تتولى ضبط مكان وزمان الطائرات الإسرائيلية والطائرات من دون طيار التي يمكن أن تنفذ الضربات.‏

‏في كل تلك الحوادث، امتنعت إيران بشكل العام عن الرد المباشر. وكانت آخر مرة انخرطت فيها إيران في نشاط عسكري متبادل مع إسرائيل في شباط (فبراير) 2018، عندما ردت إسرائيل على دخول طائرة من دون طيار تشغّلها إيران مجالها الجوي (وهو اتهام نفته طهران) بتوجيه ضربة إلى مواقع إيرانية في سورية. وأعقبت ذلك مناوشات أسقطت فيها القوات السورية طائرة مقاتلة إسرائيلية من طراز “ف-16”. ومنذ ذلك الحين، تجنبت إيران المواجهة المباشرة لصالح ما تسميه سياسة “الصبر الاستراتيجي”، وركزت بدلًا من ذلك على بناء قدراتها العسكرية في سورية، وامتنعت عن اتخاذ إجراءات يمكن أن تؤدي إلى تصعيد مع إسرائيل.‏

‏لكنّ إيران غيرت استراتيجيتها عندما هاجمت إسرائيل قنصليتها. وفسّرت هذه الخطوة بأنها اعتبرت الهجوم استفزازاً كبيراً يستدعي رداً مباشراً. ولم ير قادة إيران سبباً وجيهاً لافتراض أن إسرائيل لن تصعد أكثر -ليس في سورية فحسب، ولكن في لبنان، وحتى في إيران- إذا فشلت طهران في استعادة الردع.‏

‏مع ذلك، كان حجم رد فعل إيران مفاجئاً ومقلقاً على حد سواء. وقد أعلنت طهران عن نواياها، وأبلغت الولايات المتحدة بردها المخطط له من خلال وسطاء أوروبيين وعرب. ثم، من خلال إطلاق مئات الطائرات من دون طيار والصواريخ على إسرائيل، أوضحت إيران أنها لن تستمر في ممارسة الصبر الاستراتيجي بعد الآن، وأنها سترد من الآن فصاعداً عند مهاجمتها.‏

‏تمكنت إسرائيل من صد معظم الطائرات من دون طيار والصواريخ الإيرانية بمساعدة المملكة المتحدة والولايات المتحدة وحلفائهما. ويغلب أن طهران توقعت مثل هذه النتيجة. لم تكن نية إيران إثارة حرب، وإنما مجرد إظهار استعدادها لمهاجمة إسرائيل. ومع ذلك، ردت إسرائيل بشن ضربة صاروخية على قاعدة جوية عسكرية رئيسية في وسط إيران. ويبدو أن تلك الضربة أنهت هذه الجولة من الهجمات المتبادلة، لكنها أكدت أيضاً أن القواعد التي أرشدت حرب الظل بين إيران وإسرائيل لسنوات لم تعد سارية. والآن، سوف يدعو أي هجوم من جانب أي من الجانبين إلى رد مباشر من جانب الطرف الآخر، ويثير شبح نشوب حرب أكبر.‏

‏خفض التسخين‏

‏ترغب واشنطن وحلفاؤها في تجنب مثل هذا التصعيد -وطهران تعرف ذلك. مباشرة بعد الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق، تصرفت الولايات المتحدة وشركاؤها في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط بسرعة لمنع الأزمة من التصاعد إلى حرب. وأكدت الولايات المتحدة لإيران أنها لم تكن تعرف خطط إسرائيل للضربة قبل تنفيذها، ثم أشارت إلى مخاوفها بشأن مخاطر نشوب حرب أكبر، سواء في التصريحات المعلنة أو عبر الوسطاء. كما تحدث دبلوماسيون عرب وأوروبيون يحملون رسائل من واشنطن إلى مسؤولين إيرانيين مباشرة. وحثوا طهران على عدم الرد على الهجوم الإسرائيلي مطلقاً، لكنهم أكدوا أيضاً أنه إذا حدث رد، فيجب معايرته ليكون بحجم ونطاق محدودين من الأهداف، حتى لا يثير المزيد من التصعيد. وبعد أن ردت إيران، أعادت واشنطن وحلفاؤها توجيه جهودهم، فاتجهوا هذه المرة إلى إسرائيل لتخفيف ردها.‏

‏وقد نجحت طفرة النشاط الدبلوماسي في احتواء الأزمة. وأوضحت أن الأولوية القصوى للولايات المتحدة هي منع الحرب في غزة من إشعال حريق إقليمي وجر الولايات المتحدة إلى حرب أخرى مكلفة في الشرق الأوسط. والحقيقة التي تعمل لصالح واشنطن هي أنه لا إيران ولا إسرائيل كانتا حريصتين على خوض صراع مباشر على الرغم من استعراضهما الأخير للقوة. من جهتها، تدرك إيران أن إسرائيل دولة نووية ذات قدرات تقليدية متفوقة وأن الحرب مع إسرائيل ستعني في النهاية الحرب مع الولايات المتحدة. ومن جانبها، تعرف إسرائيل أن من شأن صراع أكبر مع إيران أن يجبر “حزب الله” اللبناني على إطلاق المزيد من الصواريخ على المدن والمنشآت العسكرية الإسرائيلية. ومع ذلك، إذا كان للهدنة الهشة بين إيران وإسرائيل أن تصمد، فيجب على واشنطن أن تظل منخرطة بعمق. يجب أن تعمل بشكل وثيق مع إسرائيل لمعالجة المخاوف الأمنية للبلد، وينبغي أن تبني على التقدم الدبلوماسي الذي أحرزته مع إيران في الأسابيع الأخيرة.‏

‏مع ذلك، يلوح في الأفق احتمال حدوث تصعيد خطير آخر في المنطقة في الوقت نفسه، حيث يمكن أن يعجل التوغل الإسرائيلي في رفح في إثارة مواجهة أخرى إذا شعرت إيران وحلفاؤها بأنهم مضطرون إلى اتخاذ إجراءات مع تفاقم الأزمة الإنسانية هناك أو لمنع إبادة “حماس”. كما أن وقف إطلاق نار طويل الأمد بين إسرائيل و”حماس” يمكن أن يمهد الطريق لمزيد من الصراع، لأنه سيحرر إسرائيل لتقوم بالتركيز على “حزب الله” -كما ألمحت إلى أنها تنوي أن تفعل- أو استهداف إيران مرة أخرى في سورية. وليست إيران وإسرائيل مستعدتين للقتال الآن، لكنهما إذا استمرتا في رؤية بعضهما بعضا كتهديد مميت لا يمكن مواجهته إلا عسكرياً، فإن نشوب صراع مستقبلي سيكون شبه مؤكد.‏

‏تصاعد المخاطر

سيكون من شأن استعدادات البلدين لهذا الصراع أن تغير التوازن الأمني في المنطقة بالعديد من الطرق. وأولاها سيكون الانخراط في سباق للتسلح -بعد اشتباكهما العسكري الأخير، ستسرِّع إيران وإسرائيل مساعيهما للحصول على قدرات هجومية ودفاعية أكثر تقدماً. ولأن إيران وإسرائيل لا تشتركان في حدود مشتركة، فمن غير المرجح أن تتطلب الحرب بينهما دبابات ومدفعية وجنوداً مقارنة بخوضها بالصواريخ والطائرات من دون طيار -وعلى الجانب الإسرائيلي بالطائرات المقاتلة. ولن يجعل تكديس هذه الأسلحة من الحرب بين العدوين أكثر احتمالاً وأشد تدميراً فحسب؛ بل سيحفز تحشيداً عسكرياً مزعزعاً للاستقرار عبر كامل أنحاء المنطقة. وربما تعمل طهران، التي تدرك أنها لن تكون قادرة على الأرجح على مواكبة سباق تسلح تقليدي، على مضاعفة جهودها لتأمين امتلاك الأسلحة النووية.‏

‏سوف يتطلع كلا البلدين أيضاً إلى الحصول على الميزة الجغرافية. في الجولة الأخيرة من الهجمات، لم تعتمد الفعالية النسبية للضربات الإيرانية والإسرائيلية على القدرات التكنولوجية فحسب، وإنما اعتمدت أيضاً على مواقع إطلاقها. كان على الطائرات من دون طيار والصواريخ الإيرانية اجتياز العراق والأردن للوصول إلى إسرائيل، مما قلل من عنصر المفاجأة وأتاح للمملكة المتحدة والولايات المتحدة والشركاء الفرصة لاعتراض عدد كبير منها قبل أن تصل إلى أهدافها. وعلى النقيض من ذلك، من المرجح أن تكون إسرائيل قد شنت هجومها من المجال الجوي العراقي عبر الحدود الإيرانية.‏

‏لطالما اتبعت إيران استراتيجية تقوم على تسليح “حزب الله” بالصواريخ على حدود إسرائيل بينما تحاول حرمان إسرائيل من التمتع بمكانة مماثلة في البلدان المحيطة بإيران. ولم تستدع طهران “حزب الله” في آخر اشتباك، لكنها قد تفعل ذلك في المرة القادمة. وقد تسعى إيران أيضاً إلى زيادة قدراتها الصاروخية وفي الطائرات من دون طيار في سورية، التي تشترك في الحدود مع إسرائيل. وسيكون من شأن ذلك أن يشكل تهديداً كبيراً لإسرائيل، التي يغلب أن ترد من خلال تصعيد الهجمات على مواقع إيران و”حزب الله” في لبنان وسورية. وبالتالي، يمكن جر القوات الأميركية المتبقية في سورية لمحاربة تنظيم “داعش” إلى مهمة أخرى: الحيلولة دون حشد عسكري إيراني يمكن أن يؤدي إلى حرب إيرانية إسرائيلية.‏

‏بينما تقوم إيران بتعزيز قدرتها العسكرية على حدود إسرائيل، قد تعمد إسرائيل إلى الرد بالمثل من خلال ترسيخ وجودها الاستخباراتي والعسكري على حدود إيران. وتشك لأذربيجان والمنطقة الكردية في شمال العراق بالفعل مناطق انطلاق للعمليات الإسرائيلية. ومن المرجح أن توسع إسرائيل هذا الوجود، الأمر الذي سيستدعي ضغوطاً دبلوماسية وعسكرية إيرانية على كل من أذربيجان وكردستان العراق. وقد أجرت إيران مؤخراً مناورات عسكرية واسعة النطاق على حدودها مع أذربيجان وأطلقت صواريخ على قواعد استخبارات إسرائيلية مزعومة في المنطقة الكردية في شمال العراق. ويمكن أن تزداد حدة مثل هذه الضغوط لاحقاً. وقد تتطلع أذربيجان وحكومة إقليم كردستان بعد ذلك إلى تركيا والولايات المتحدة للحصول على الدعم الدبلوماسي والدفاع الجوي. وقد تكون تركيا قادرة على التوسط بين إيران وأذربيجان، لكن الولايات المتحدة وحدها هي القادرة على توفير الحماية لـ”حكومة إقليم كردستان” -ومن المرجح أن تتطلب هذه الحماية وجوداً عسكرياً أميركياً معززاً.‏

‏ربما يكون التوسع المحتمل لشراكات إسرائيل في الخليج العربي أكثر أهمية. ولدى إسرائيل علاقات رسمية وثيقة مع البحرين والإمارات العربية المتحدة، وتتعاون هاتان الدولتان، إلى جانب آخرين، مع إسرائيل في قضايا الاستخبارات والأمن. لكن إسرائيل ليس لديها حتى الآن قاعدة عمليات في هذه المنطقة يمكن أن تستهدف منها إيران مباشرة. وحتى قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كانت إيران تخشى من التوصل إلى اتفاق بوساطة أميركية تحصل فيه إسرائيل على قاعدة في المملكة العربية السعودية تحميها اتفاقية دفاع أميركية مع الرياض. وبما أن الرأي العام السعودي قد تحول بشكل حاد ضد إسرائيل منذ بداية الحرب في غزة، فإن هذا الاحتمال ليس وشيكاً. لكن محادثات التطبيع الإسرائيلية السعودية المتوقفة لن تمنع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية من تعميق شراكتهما الاستراتيجية. وستصبح هذه الشراكة حتماً متورطة في الصراع الإيراني الإسرائيلي، مما يعرض أمن دول الخليج للخطر ويقوض طموحاتها الاقتصادية.‏

‏بالنسبة لهذه البلدان، تشكل إمكانية إبرام اتفاق دفاعي مع واشنطن أحجية. إنها تتوق إلى مثل هذا التأكيد، لكنه سيجعلها أيضاً أهدافاً في أي صراع تكون إيران طرفاً فيه. ويمكن للصواريخ الإيرانية أن تصل إلى شواطئها في ثوان. ولا يغير الاتفاق الدبلوماسي هذه الحقيقة. ومن المفارقات أن اتفاقية الدفاع تكون أكثر جاذبية في سيناريو تكون فيه الولايات المتحدة وإيران قد خفضا التوترات بينهما.‏

‏لذلك، من المرجح أن تحاول دول الخليج البقاء في المنطقة الرمادية بين إيران وإسرائيل، على الأقل في الوقت الحالي. لكن الحفاظ على التوازن سيصبح أكثر صعوبة، حيث يواجه هذه الدول ضغوطاً من كل جانب لمنع الطرف الآخر من الوصول إلى أراضيها ومجالها الجوي. سوف تضغط إسرائيل على واشنطن لاستخدام نفوذها في عواصم الخليج لتأمين التعاون، في حين ستهدد إيران بعواقب على أولئك الذين يتعاونون. كما أن السكان العرب الغاضبين من الحرب في غزة سيضغطون على حكوماتهم لعدم مساعدة إسرائيل. وقد كشفت التجارب الأخيرة في المنطقة على صعوبة الإبحار في خطوط المعركة المتصلبة هذه.

‏سوف يعاني العراق أكثر من أي بلد آخر في لعبة شد الحبل بين إيران وإسرائيل. وقد استخدمت إيران مسبقاً الأراضي والميليشيات العراقية لدعم عملياتها في سورية ومهاجمة القواعد الأميركية في العراق وسورية، ونفذت المخابرات الإسرائيلية عمليات داخل إيران من المنطقة الكردية في شمال العراق. وخلال المواجهة الأخيرة، حلقت طائرات مسيرة وصواريخ إيرانية فوق العراق للوصول إلى إسرائيل، ومن المرجح أن تكون إسرائيل قد شنت هجومها على إيران من الأجواء العراقية. وسوف يصبح العراق أكثر أهمية كخط دفاع أول ضد الهجمات الصاروخية الإيرانية، الأمر الذي قد يشجع الولايات المتحدة على الاحتفاظ بوجودها العسكري في البلاد -بل وحتى توسيعه. ومن جانبها، ستكثف إيران الضغط على الحكومة العراقية لدفع الولايات المتحدة إلى الخروج. وعلى سبيل المثال، قد تزيد الميليشيات الشيعية من هجماتها على المنشآت العسكرية الأميركية والأفراد العسكريين الأميركيين في العراق. كما سترغب طهران في أن توقف “حكومة إقليم كردستان” تعاونها مع إسرائيل والولايات المتحدة. وقد نفذت إيران بالفعل هجمات صاروخية على أهداف في شمال العراق تزعم أنها مرتبطة بالموساد، وكالة الاستخبارات الإسرائيلية، وطلبت حكومة إقليم كردستان حماية الدفاع الجوي الأميركي ضد إيران. كل هذه المعارك بالوكالة ستعرض استقرار العراق الهش للخطر.‏

‏عودة إلى الحكم الرشيد‏

‏قد يجبر التصعيد بين إيران وإسرائيل الولايات المتحدة على التخلي عن خططها للحد من وجودها العسكري في الشرق الأوسط. وإذا كان هدف واشنطن هو تجنب التورط في حرب إقليمية، فعليها ضمان الاستقرار الإقليمي. وقد تكون غريزة واشنطن هي الاعتماد على عضلاتها العسكرية لردع إيران، لكنها في الحقيقة تحتاج إلى استراتيجية غير عسكرية في المقام الأول لاحتواء الصراع وإدارته. ويتعين عليها، كبداية، أن تستخدم كامل قوتها الدبلوماسية للعمل من أجل إنهاء الحرب في غزة، في أعقاب السعي الجاد والمستدام إلى إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة. وستكون هذه النتيجة ضرورية لبناء نظام إقليمي أوسع يقيد الدوافع التصعيدية التي تحرك الآن عملية صنع القرار الإيرانية والإسرائيلية على حد سواء. وقد كثفت الحرب في غزة تلك الدوافع، ومن خلال إنهائها فقط يمكن أن تهدأ التوترات.‏

‏يجب ألا تكون نهاية حرب بداية حرب أخرى في لبنان. سوف تحتاج إسرائيل و”حزب الله” إلى استعادة السلام البارد الذي حافظا عليه كل الوقت بين حربهما في العام 2006 و7 تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي. وسيكون النجاح على هذه الجبهة، مقترناً بخطوات نحو التوصل إلى حل سياسي للقضية الفلسطينية، أمراً بالغ الأهمية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وكذلك بين إسرائيل وبقية العالم العربي.‏

‏أما الجزء الأخير من الأحجية، فهو إيران نفسها. يجب أن تتجاوز إدارة التهديد الذي تشكله إيران الآن على إسرائيل تسليح إسرائيل وغرس الخوف من الانتقام الأميركي في طهران. ويجب على الولايات المتحدة أيضاً أن تفكر في تحرك دبلوماسي، على غرار جهودها للتوسط بين إسرائيل و”حزب الله” على مدى الأشهر الستة الماضية، لوضع خطوط حمراء بين إسرائيل وإيران. وسيوضح كل جانب أنواع الاستفزازات التي يعتبرها سبباً للتصعيد ويعقد اتفاقاً ضمنياً لتجنب تجاوز تلك العتبات. ولكي تبدأ مثل هذه العملية، يجب على الولايات المتحدة وإيران الحد من التوترات الخاصة بهما من خلال تجديد المناقشات حول برنامج إيران النووي والقضايا الإقليمية التي كانتا قد بدأتاها في سلطنة عُمان العام الماضي، لكنهما تخلتا عنها بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر). ومن مصلحة الولايات المتحدة استئناف هذه المحادثات التي يمكن أن تخفض حرارة التوتر بين إيران وإسرائيل. وسيكون هذا الخفض للتصعيد ضروريًا قبل أن تصبح أي انفراجة دبلوماسية فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني -وهي قضية ملحة زادت حدة التنافس الإيراني الإسرائيلي- ممكنة.‏

‏كان الجانب المشرق في أزمة نيسان (أبريل) هو أن واشنطن وطهران تحدثتا خلف الكواليس طوال الأسبوعين اللذين استغرقتهما. وكان تواصلهما مفتاحاً لتجنب الكارثة. وبينما ترسم الولايات المتحدة مسارها الدبلوماسي التالي، يجب أن تستفيد من هذا الانفتاح لتقليل خطر نشوب حرب أكبر. ويجب عليها إشراك إيران في مجموعة من القضايا الإقليمية، مثل تهديد الحوثيين للشحن الدولي في البحر الأحمر، والبناء على جهودها الدبلوماسية السابقة لإحلال الهدوء على الحدود الإسرائيلية اللبنانية. ليس هذا هو الوقت المناسب لعودة الولايات المتحدة إلى الخيارات العسكرية كحل أول. وبدلاً من ذلك، تتطلب الظروف الأمنية المحفوفة بالمخاطر في المنطقة أن تدرك واشنطن الإمكانات التي ينطوي عليها فن الحكم وإدارة الدولة الأميركي.‏

*ولي-رضا نصر Vali Nasr:‏ خبير إيراني أميركي في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وأستاذ ماجد خضوري للشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز. وهو مؤلف مشارك ‏‏لكتاب “كيف تعمل العقوبات: إيران وتأثير الحرب الاقتصادية‏‏” How Sanctions Work: Iran and the Impact of Economic Warfare.‏

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Why Iran and Israel Stepped Back From

the Brink

المصدر: – (فورين أفيرز)‏‏ / الغد الأردنية

تعليق واحد

  1. لماذا تراجعت إيران وإسرائيل عن حافة الهاوية؟‏ السر بما نتج عن أزمة نيسان (أبريل) بينهما حينما تدخل المايسترو “الإدارة الأمريكية الديمقراطية” مع نظام ملالي طهران خلف الكواليس طوال الأسبوعين اللذين استغرقتهما. وكان تواصلهما مفتاحا للحفاظ ععلى ماء الوجه للطرفين بمسرحية سيئة الإخراج، الإدارة الأمريكية الديمقراطية بمسارها الدبلوماسي مفتاح السر.

زر الذهاب إلى الأعلى