
لا تعرف المجتمعات المُستعمَرة، التي يواصل فيها المحتلّ والمُستوطِن تطوير آليات هيمنته وتوسيعها، أنشطةً ثقافيةً أو فنّيةً، لا في الصيف ولا في الربيع. ينطبق هذا الأمر بجلاء على أحوال الشعب الفلسطيني، إذ تتواصل في قلب ما تبقّى من أرضه حرب تروم إبادته، بتحطيم ما تبقّى لديه من الحدود الدنيا المرتبطة بشروط الحياة، شروط تدبيره أنماط ترتيب أشكال مقاومته. خرّبت وأُحرقت المستشفيات والمدارس والمخيّمات، كما مُنع تقديم المساعدات المتعلّقة بالتطبيب والغذاء، وترتّب عن جنون جرائم الحرب المتواصلة فوق ما تبقّى من المجتمع الفلسطيني، في قطاع غزّة والضفة الغربية، حصول عمليات تهجير واسعة، رغم مختلف أوجه الصمود القائمة والمُعلَنة، والمتواصلة أيضاً.
يستدعي ما كنّا بصدده الإشارةَ إلى ضرورة استغلال أنشطة الصيف الثقافية والفنّية والرياضية بقصد توسيع دوائر التضامن مع الشعب الفلسطيني، من أجل مواجهةٍ سياسيةٍ للحرب القائمة، رغم مختلف صور (وأشكال) العنف الذي تمارسه الصهيونية صحبة قوى الغرب الاستعماري ضدّ الفلسطينيين، إذ يواصل الكيان الصهيوني قتل النساء والأطفال والشيوخ وإحراقهم وتجويعهم، بل يُواصل (بكثير من الغطرسة والصَلف) إعلان مساعيه الهادفة إلى إبادة شعب، بعد أن استوطن منذ ما يزيد عن سبعة عقود أرضه وتاريخه وثقافته.
إذا كان “طوفان الأقصى” (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023) قد وضعنا مجدّداً، أمام مشروع التفكير في مشروع التحرير الفلسطيني، فإنه يلزمنا عدم التفريط في المنعطف التاريخي الذي تقع اليوم قضية استئناف مشروع التحرير في قلبه. وفي ضوء ذلك، نفترض أن تعزيز آليات التضامن والصمود والمقاومة يمكن أن تساعدنا في بناء خيارات تضعنا في طريق المقاومة المتواصلة، وعندما نتابع المظاهرات والأنشطة الثقافية، التي تُنظَّم تحت شعار التضامن مع الشعب الفلسطيني، نتأكّد أن الأنظمة العربية المُطبِّعة لم تنجح في كسر روح المقاومة الفلسطينية.
نقرأ حدث التضامن في المجال الفنّي، مجال تحويل أنشطة الرياضة والثقافة في الصيف فضاءاتٍ لاستعادة روح التحرير وأصوات رفض خيارات التطبيع، ونحن نتطلّع إلى مزيد من توسيع دوائر التضامن مع الشعب الفلسطيني وفضاءاتها، توسيع أشكال الوقوف في وجه مشروع الإبادة الذي تمارسه الصهيونية، من دون أن تجد من يوقف مسلسل محاصرة وخنق ما تبقّى من الأحياء في فلسطين.
يواجه الفلسطينيون آليات القهر الصهيوني بروح من المقاومة تروم نيل حقوقهم التاريخية
تواصل الأنظمة السياسية العربية صمتها على كلّ ما جرى (ويجري) في غزّة، وفي مختلف الأراضي الفلسطينية، منذ ما يقرب من سنتَين، تواصل بلا مبالاة تدعو إلى العجب، كما تدعو إلى الغضب والخوف، مثل مؤسّسات المنتظم الدولي المقيّد بمنطق القوة كما تُدبَّر في السياسة والتاريخ، إلا أن مواقف سياسية أخرى تنشأ بمحاذاة اللامبالاة المريبة، لتفتح أبواب الأمل ونوافذه، يتعلق الأمر ببعض الصور التي تخترق أنشطة الصيف ومهرجاناته في مختلف البلدان العربية، ومن بيروت إلى الرباط، إلى الجزائر وعمّان وتونس، تبرز مبادراتٌ تدعو إلى وقف حفلات الصيف، واستبدالها بأنشطةٍ تهدف إلى إنعاش آلية التضامن مع الفلسطينيين، والمطالبة بوقف المجازر التي تروم إبادتهم. وإذا كان من المؤكّد أن البلدان العربية لم تتمكّن من إيقاف (ولا تحويل) أنشطة الصيف ومهرجاناته الموسيقية، وإن كان بعضها قد حاول إدخال نوعٍ من التغيير، سمح له بدمج حفلات إضافية، أو حلقات من الحفل وأهداها إلى شهداء فلسطين، إلا أن ما لاحظناه أن بعض أنشطة الصيف في مدن عربية، جمعت بين البرامج المعتادة وبين السماح ببعض المظاهرات المندّدة بالعدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، كما حصل في الرباط وطنجة خلال الشهر الماضي (يوليو/ تموز).
يواجه الفلسطينيون آليات القهر الصهيوني بروح من المقاومة تروم نيل حقوقهم التاريخية، يواجهون الطغيان الاستعماري بكثير من أساليب العمل القادرة على احتضان خياراتهم في التحرير، وهم يتطلّعون إلى مختلف صور التضامن المُساعِدة في عمليات تجاوز محنتهم التاريخية، وسنقف الآن على نموذج من نماذج التضامن الموسيقي الناشئة في الغرب، إذ يقام في بريطانيا (منذ سنة 2017) مهرجان موسيقي للتضامن مع الشعب الفلسطيني في مزرعة في جنوب غربي بريطانيا، يشرف عليه مايكل أوفيس، أحد رموز الثقافة والفنّ في بريطانيا منذ 1970، ويستضيف فنّانين ملتزمين في مزرعته بغلاستونبري للتعبير عن تضامنه مع القضايا العادلة والدفاع عنها. وقد نظّم هذه السنة مهرجاناً موسيقياً ضمّ 200 ألف شخص حجّوا إلى المزرعة من مختلف جهات بريطانيا، ومن البلدان الغربية، للتنديد بالجرائم الإسرائيلية، ومن يقف وراءها من الغرب والولايات المتحدة، وللتنديد أيضاً بالصمت والتواطؤ اللذين تبديهما دولٌ كثيرة، وهي تعاين جرائم الحرب المُعلَنة والجارية أمامها.
تتحوّل المهرجانات الفنّية تضامناً مع فلسطين فضاءات للحرية وكتابة أناشيد التحرير
رُفعتْ أعلام فلسطين فوق المزرعة، وغطّت جهاتها، عاليةً مُرفرفةً، وعمّ هتاف منتظم “الحرية لفلسطين”، فصنعت المزرعة مشهداً ناطقاً ومخاطباً ضمير العالم، في غياب ضمير مؤسّسات المنتظم الدولي، وكلما ارتفع صراخ الحاضرين في سماء المزرعة، اختفت أصوات الإعلام الغربي الصهيوني، وتقلّص حضور الإعلام المتواطئ الذي لم يتردّد في نقد نقل “بي بي سي” أضواء المهرجان مباشرة من المزرعة. تحوّلت الموسيقى في أجواء المهرجان (كما تحوّلت كلّ فعالياته الفنّية الأخرى) آلياتٍ في المقاومة والاحتجاج، تحوّل المهرجان فضاءً للحرية. وكنا نأمل أن تقوم بعض الأنظمة السياسية العربية بمثل ما قامت به مؤسّسة مايكل أوفيس، إلا أن ذلك لم يحصل. استمع الحاضرون إلى الثنائي البريطاني بوبي وﭭيلان يغنّيان، ويطالبان بأصوات شجية بالحرية لفلسطين من البحر إلى النهر، كما يطالبان بموت جيش الكيان الصهيوني. ومن المعلوم أن هذا الثنائي ينتمي إلى مجموعة غنائية دولية تأسّست في 2011، وتعمل منذ ذلك الوقت في مساندة القضية الفلسطينية.
يكشف المهرجان الموسيقي في المزرعة البريطانية أنه لا حدودَ للتضامن مع القضية الفلسطينية، كما يبرز أدوار الموسيقى والغناء في مواصلة التعبير عن جرائم الصهاينة ومن يقف معهم، مستهدفاً إبادة شعب كامل بالحديد والنار. ترتفع في المهرجان الموسيقي أغاني الحرية والكرامة ورسائل الأمل، فتحضر فلسطين متطلّعةً إلى التحرير، ذلك أن صورة التضامن، كما يتردّد صداها في فضاء المزرعة وسماء بريطانيا، تتجاوز مجرّد التعبير فنّياً، فيصبح التضامن بمثابة هُويَّة رافعة لكتابة أناشيد التحرير والعودة القريبة المقبلة.
المصدر: العربي الجديد