محمود عبده سالم روائي مصري متميز، روايته حَجَر نفيسة بنت عبد الولي هي أول عمل أدبي أقرأه له…
حَجَر نفيسة بنت عبد الولي، رواية تعتمد السرد على شكل فصول متتابعة على لسان الراوي، تستفتح بأشعار باللهجة المصرية الشعبية مغناة منسوبة لنفيسة بنت عبد الولي ذاتها…
هذه الرواية هي الأولى التي اقرأها وتطال موضوعا مختلفا كليا عن ما قرأته من روايات عبر سنين طويلة…
هي رواية تسرد سجلا تفصيليا عن قرية حجر الزعفران المصرية في محافظة الشرقية يرتبط اسمها باسم نفيسة بنت عبد الولي حفيدة الولي عيسى بن عليمة أحد الأولياء الصالحين، الذي كان قد تواجد في هذه المنطقة في بدايات القرن التاسع عشر، منطقة على الطريق بين سيناء والبر المصري. يقال أن عمر بن العاص وجيشه عبر منها في طريقه إلى فتح مصر أوائل التمدد الإسلامي. كانت الحجر بلدا يستقبل المطاردين من السلطات المتعاقبة، وحتى الذين يهربون من ثأر أو مشكلة ما. بلد يُنجد الأغراب ويحتويهم ليصبحوا جزء من نسيجه بعد حين.
انشأ قرية حجر الزعفران الشيخ عيسى بن عليمة الذي كان يتبع احدى الطرق الصوفية، استقر بهذه البقعة من الارض وتوسعت البلدة بعائلته وأولاده وأحفاده ومن جاء إليه يطلب الأمان وظروف العيش الممكن…
عندما توفي الشيخ عيسى بن عليمة بني له مقام وأصبح مزارا لكثير من أصحاب الحاجات و المتوسمين من بركاته الخير. ابنه عبد الولي ورث مقام والده بعد موته. وتابع دوره في القرية التي بدأت بالتوسع واصبحت قرية لها وزنها وحضورها مثل قرية بني هلال التي تبعد عنها حوالي الميل…
تم اختصار اسم قرية حجر الزعفران ليصبح “الحَجَر” …
وكما ذكرت من بداية كتابتي عن الرواية إنها تكاد تكون سجلاً تفصيلياً تاريخياً ومجتمعياً للقرية – البلدة وما حصل فيها وحولها من تطورات وما عاشه اهلها داخلها أو في كل بلاد العالم عبر أكثر من قرن …
لقد كان اعتماد أهل الحجر على الأعمال الزراعية في الأرض حيث استمرت أرض مملوكة للدول المتعاقبة منذ أيام عمر بن الخطاب حيث أوقف ارض الفتح الإسلامي لتكون موردا للدولة. ولذلك كانت تقسم الأرض على الفلاحين يعملون بها. ويعطون قسما من ريعها للدولة وقسم لهم حسب توافقات معينة. وكان هناك نمط آخر في التعامل مع الأرض حيث يتم استئجار الأرض من الدولة لسنوات ويكون الفلاح مرتاحا أكثر في عمله و جني محصوله وبيعه. لكن ذلك لم يكن ليستمر بطريقة واحدة. حيث كان هناك تغير نوعي في الملكية في أواخر العهد العثماني وحكم عائلة محمد علي لمصر. تحولت الأراضي من ملكية الدولة إلى ملكية أفراد من حاشية الدولة. وأصبحت العلاقة بين المالكين الجدد والفلاحين. حيث أصبحت القرية ملكا للسيدة “الهانم” التي ترسل من يمثلها لتأخذ نصيبها من الفلاحين في كل موسم. كانوا يعانون من الظلم، وكانوا يخفون جزء من محصولهم. وقد “يسرقونه” ليلا ليتمكنوا من استمرار العيش للموسم القادم…
استمر الوضع هكذا حتى جاء عصر جمال عبد الناصر. وحصل الإصلاح الزراعي حيث اعطي كل فلاح مع عائلته فدانين من الأرض، حيث غيرت من المعادلة الحياتية للفلاحين وحسّنت ظروف عيشهم. كما كان البعض قد اشترى من الهانم قطعا من الأرض عندما علمت بأن الإصلاح الزراعي سيستولي على آلاف الافدنة التي تملكها…
هذه الاراضي الممنوحة من الدولة للفلاحين ستكون منهل العيش تكبر بالشراء وتصغر بالبيع بسبب مستجدات الحياة. زواج ، سفر، بيع إرث بدل تقسيمه.. الخ وغيرها من أسباب حياتية…
قرية الحجر كبرت، حيث يتعايش أهلها بين بعضهم بالحسنى. باستقبالهم للغريب الآوي إليهم هاربا من مصيبة ما او باحثا عن لقمة عيش، كما أن أهل القرية يسهلون البيع والشراء من أراضيهم. حتى للغريب. على عكس بعض البلدات المجاورة الأخرى. كما أن أهل البلدة يتزوجون بين بعضهم دون حساسية أو تمايز اجتماعي كما يزوجون الغريب القادم الجديد ويتزوجون من بناتهم…
تعتمد القرية على التضامن العائلي في العمل الزراعي. المرأة والرجل يعملون. كما أن الصراع التاريخي بين الرجل والمرأة للبحث عن الدور والمكانة في الأسرة حاضر في الحجر. لكن كل يعرف حاله. فبعض الاسر يقودها رجلها، وبعض الاسر تقودها الزوجة، دون اي حساسية، فهي تحل وتربط وتقوم بالأدوار الاجتماعية خارج وداخل العائلة دون أي حساسية و بقبول مجتمعي…
كما ان الصراع “الأزلي” بين الزوجة وام الزوج “كنة وحماة” حاضر ايضا قد يكون تحت السيطرة مستترا وقد يكون علنيا ويؤثر على مسار العائلة، يمتد الى عشرات السنين. ينتقل العداء والحقد من الاهل للاولاد والاحفاد…
قليلات النساء اللواتي يتجاوزن واقع الصراع هذا ويحولونه إلى قوة داعمة للعائلة في مواجهة الحياة وقسوتها…
استمرت القرية في النصف الأول من القرن العشرين على وتيرتها الحياتية اياها. في العمل الزراعي. وعندما جاء عبد الناصر والإصلاح الزراعي ودخل التعليم في حياة أغلب الجيل الجديد. بدأ ينتقل الأولاد من القرية الى خارجها، للتعلم والعمل بعد ذلك. وبعد ذلك سيصبح الالتحاق في الجيش للخدمة الالزامية مدخلا جديدا للحياة عند اولاد البلدة، وسيعمل الكثير من أهل القرية لتثبيت تقييد ولادتهم لدى الدولة خاصة عندما حصل الإصلاح الزراعي. ليحصلوا على الأرض. ليصبحوا في ملاك الدولة. وليدخلوا في سلك الأعمال فيها…
لقد تحدثت الرواية عن السياسة المصرية بحدود ما تمس حياة البلدة. البعض خاض حرب الدفاع عن قناة السويس والحرب في اليمن بعد ذلك، وحتى حرب حزيران ١٩٦٧م وحرب العبور عام ١٩٧٣م…
كما ان الرواية تتحدث عن الأفق الجديد الذي بدأ يتوجه اليه شباب القرية، بالتوجه الى دول الخليج سواء على سبيل الإعارة العلمية أو للعمالة الدنيا، وكذلك التوجه الى دول أوروبا. فرنسا وإيطاليا وغيرهما. كان البعض يبيع بعض أرضه ليؤمن المال اللازم لسفره. الذي لم يكن متاحا بشكل نظامي. وكانوا يعتمدون التهريب مع كل مخاطره، وقد يموت بعضهم غرقا في البحر… وتمضي السنين ويعود هؤلاء المهاجرين او يرسلون اموالهم التي حصلوها من اعمالهم الدنيا في غربتهم. ليؤمنوا اموال زواج أو شراء ارض او بناء منزل… هكذا بدأ التغرب يشكل تطورا نوعيا في حياة البلدة. ويصبح الناس أكثر اطلاعا ومعرفة بشؤون الدنيا وتوسعت طموحاتهم واحلامهم وأعمالهم…
لم تفلت البلدة من منعكسات التغيرات التي حصلت في العلاقة مع الإسلام في العقود الأخيرة للقرن العشرين. فمن تدين مجتمعي تقليدي متصوف حيث البلدة بنيت على ضريح ولي ، بدأت تتغلغل في القرية دعوات دينية بعضها ينتسب لأهل السنة والجماعة. والبعض يتبع السلفية، بما تتعلق برفض البدع وحف الشوارب وترك اللحى و تقصير الثوب ورفض الموالد والذكر وكل مظاهر التقديس الصوفي…
حاول المتصوفين الدفاع عن وجودهم ومعتقداتهم. واستطاع السلفيين أن يتغلغلوا في المجتمع. عبر الدعوة وعبر الكتب والتسجيلات الصوتية التي انتشرت بكثافة وقتها وبدعم من جهات خارج البلدة وخارج مصر حتى. يقول الكاتب إن جماعة الإخوان المسلمين وجماعة الجهاد لم تكن ممتدة في البلدة. وحتى السلفيين وأهل السنة والجماعة كانوا بعيدين عن السياسة. ومنافستهم كانت في بناء المساجد والخدمة المجتمعية …
لم أتوسع في الحديث عن السجل التفصيلي لحياة كل اسر وابناء وبنات البلدة وما حصل معهم من تزوج ومن تطلق ومن أنجب ومن احتفى بالذكور وحافظ على عفة البنات ومن هاجر من بقي. ؟. من مات مبكرا ومن عمّر طويلا.؟. وكل ذلك مربوط بشجرة عائلة نفيسة بنت عبد الولي…
أجملت كل ذلك بالقراءة السابقة كنقاط جوهرية. إن هذا السفر المؤلف من ٢٣٦ ص أكبر من ان نفصّل محتواه. ولا يمكن ذلك إلا بقراءة الرواية ذاتها…
تنتهي الرواية بموت نفيسة بنت عبد الولي عن عمر يناهز مائة سنة تقريبا…لقد عاشت القرن العشرين كاملا…
في التعقيب على الرواية اقول:
لا استطيع الا ان اقدر عاليا الجهد المبذول من الكاتب محمود عبده سالم في هذه الرواية التي تؤرخ ودون مزايدة لحياة بلدة مصرية عبر قرن كامل بكل صبر ودأب ومتابعة…
أن الرواية تنتمي إلى ما يمكن تسميته علم الاجتماع المجتمعي التفصيلي التسجيلي. بحيث تصلح لتكون سجلا تاريخيا يُعاد إليه في أي بحث علمي عن قرية حجر الزعفران في الشرقية في مصر ام الدنيا…
لقد ألزمت الرواية نفسها واخلصت للحديث عن البلدة وما حدث بها وتطوراتها. بحيث مرت عابرة عن أحداث عظيمة وكبيرة حصلت في مصر في القرن العشرين. اكتفت بالحديث عن الإصلاح الزراعي وانتشار التعليم وحرب اليمن كنموذج حروب مصر الكثيرة…
ثورة مصر في تموز ١٩٥٢م. بقيادة جمال عبد الناصر والضباط الأحرار. ثم إسقاط الملكية، وتحرير مصر من المستعمر الانكليزي عام ١٩٥٤م، وتأميم قناة السويس وحرب السويس عام ١٩٥٦م. وهزيمة ١٩٦٧م أمام الصهاينة . والنصر النسبي عام ١٩٧٣م . ثم تحرير سيناء لكن بمعاهدة الصلح كامب ديفيد مع الصهاينة ١٩٧٨م. ثم قتل السادات ١٩٨١م. في احتفاله بعيد نصره. وبعد ذلك من متغيرات الثورات الشعبية المصرية الموؤودة.. ثم الربيع المصري عام ٢٠١١م. ومآله المؤلم…
كل ذلك يحتاج أن نمر عليه. ان لم يكن في الرواية فليكن في قراءتنا لها…
اختم ان الرواية تقول ان اهلنا المصريين الأصيلين في قرية ما مغمورة في عمق الريف صنعوا حياتهم بجهدهم وعرقهم وتغرب أبنائهم وصنعوا نماذج حياة الكفاح لتحصيل لقمة العيش ونجحوا… وانتصروا لإنسانيتهم و ذواتهم الخلاقة.