خمسة سيناريوهات محتملة لمستقبل روسيا

ستيفن كوتكين

وكيف يمكن للولايات المتحدة أن تستعد لأي سيناريو من هذه السيناريوهات.

عند انتهاء حكم بوتين ستجد روسيا نفسها أمام احتمالات متعددة يجب أن يكون الغرب جاهزاً لها وقادراً على التأثير في شكل روسيا المستقبلي

صادف أن بلغ فلاديمير بوتين عامه الـ71 في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، يوم شنت فيه “حماس” هجومها على إسرائيل. واعتبر الرئيس الروسي هذا الاعتداء العنيف هدية عيد ميلاده، إذ حول الأنظار عن عدوانه على أوكرانيا. وربما لإظهار امتنانه على هذه الهدية، طلب من وزارة خارجيته دعوة ممثلين رفيعي المستوى من “حماس” إلى موسكو في أواخر أكتوبر، مما سلط الضوء على توافق المصالح. وبعد أسابيع عدة، أعلن بوتين نيته الترشح لولاية خامسة في انتخابات بلا منافس فعلي له جرت في مارس (آذار) 2024، وعقد لاحقاً المؤتمر الصحافي السنوي المعتاد، إذ منح مجموعة من الصحافيين الذين يسهل التأثير فيهم شرف الاستماع إليه وهو يتباهى بتعجرف في شأن التعب الذي سببته الحرب في أوكرانيا على الغرب. وتفاخر بوتين خلال البث المباشر قائلاً: “على طول خط المواجهة تقريباً، تقوم قواتنا المسلحة، ودعونا نقولها بشكل متواضع، بتحسين موقعها”.

وفي الـ16 من فبراير (شباط)، أعلنت دائرة السجون الفيدرالية الروسية وفاة الناشط المعارض أليكسي نافالني، البالغ من العمر 47 سنة، بشكل مفاجئ في مستعمرة جزائية داخل الدائرة القطبية الشمالية حيث كان مسجوناً، وتابع التواصل منها مع ملايين من أتباعه لتزويدهم بتعليمات حول كيفية الاحتجاج ضد استفتاء بوتين. وبعد مرور شهر، كان أقصى السخرية ما يمكن قوله هو أن الكرملين انتظر في الأقل إلى ما بعد إجراء التصويت لإعلان فوز بوتين.

ويرى بوتين نفسه بأنه القيصر الجديد. لكن القيصر الحقيقي لا يضطر إلى القلق في شأن أزمة الخلافة التي تلوح في الأفق وما قد يؤثر في قبضته على السلطة في الوقت الحاضر. غير أن بوتين قلق، ولهذا السبب جزئياً ترتب عليه أن يصطنع الانتخابات. اليوم سيشغل منصبه حتى عام 2030، إذ سيكون في عامه الـ78. وتجدر الإشارة إلى أن متوسط العمر المتوقع للذكور في روسيا بالكاد يبلغ 67 سنة، ويمكن لأولئك الذين يعيشون حتى سن الـ60 أن يتوقعوا البقاء على قيد الحياة حتى سن الـ80 تقريباً. أما المعمرون المؤكدون في روسيا فهم قليلون. وربما ينضم بوتين إلى صفوفهم ذات يوم. ولكن حتى ستالين هو الآخر مات.

لقد تبين أن سلف بوتين، بوريس يلتسين، كان ذلك القيصر النادر الذي عين خليفته ومهد طريقه إلى السلطة. ففي عام 1999، اختار يلتسين، الذي كان يواجه تحديات صحية مزمنة ويخشى أن يواجه هو و”عائلته” من الفاسدين السجن بعد تنحيه، بوتين للحفاظ على حريته وإرثه. وأعطى يلتسين عند الفراق التعليمات التالية: “اعتنوا بروسيا”. وفي عام 2007، توفي عن عمر يناهز 76 سنة، وكان رجلاً حراً. لكن حامل شعلته امتنع عن الاقتداء بمثال راعيه. وفي عام 2008، تنحى بوتين لفترة وجيزة عن الرئاسة، تطبيقاً للنهج نفسه الذي اتبعه يلتسين عندما واجه هو أيضاً تحدي الفترتين المتتاليتين. وقام بوتين بتعيين مكانه شخصية غير معتبرة في المجال السياسي، وانتقل هو إلى منصب رئيس الوزراء، وعاد مباشرة لولاية رئاسية ثالثة في عام 2012 ومن ثم لولاية رابعة. وأخيراً، حث المجلس التشريعي الزائف على تعديل الدستور بما يسمح له بتصفير عدد سنين ولاياته الرئاسية. وكان ستالين أيضاً متمسكاً بالسلطة بعناد، حتى مع تفاقم مرضه. ورفض تأييد ظهور خليفة له. وفي النهاية، أصيب بسكتة دماغية هائلة وسقط في بركة من بوله.

بوتين ليس ستالين. لقد بنى الطاغية الجورجي قوة عظمى بينما أرسل عشرات الملايين إلى حتفهم في المجاعات، ومعسكرات العمل القسري، وأقبية الإعدام، والحرب الدفاعية التي أساء إدارتها. وعلى النقيض من ذلك، قام بوتين بابتداع قوة مارقة بينما أرسل مئات الآلاف إلى حتفهم في حرب اختيارية. ومع ذلك، إن المقارنة مفيدة. أثبت نظام ستالين أنه غير قادر على الاستمرار من دونه، على رغم وجود حزب حاكم مؤسسي. ومع ذلك، وفي خضم الانهيار الذي بدأ بانهيار الاتحاد السوفياتي ولكنه استمر إلى ما بعد عام 1991، نجح بوتين في ترسيخ نظام استبدادي جديد. هذا الاندماج بين الهشاشة والتبعية للمسار مستمد من عوامل عديدة لا يمكن إعادة ربطها بسهولة: الجغرافيا، والهوية الوطنية الإمبريالية، والثقافة الاستراتيجية المتأصلة. (قال الكاتب الروسي الساخر ميخائيل سالتيكوف-شيدرين في القرن الـ19 عن بلاده إن كل شيء يتغير بشكل كبير كل خمس إلى 10 سنوات ولكن لا شيء يتغير فعلياً في غضون 200 عام). ومع ذلك، لا يهم متى وكيف سيرحل بوتين، لأن حكمه الاستبدادي المتعلق بشخصه، وعلى نطاق أوسع، روسيا، تواجه بالفعل أسئلة حول المستقبل.

ويعتبر نظام بوتين نفسه بأنه كاسر للجليد، حطم النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، نيابة عن الإنسانية. وسمحت واشنطن وحلفاؤها وشركاؤها لأنفسهم بأن يفاجأوا به مراراً وتكراراً – في ليبيا وسوريا وأوكرانيا وجمهوريات وسط أفريقيا. وهو ما أثار مخاوف من المفاجأة السيئة المقبلة. ولكن ماذا عن المدى الطويل؟ فكيف ستتطور روسيا، أو لا تتطور، على مدى العقد المقبل وما بعده ربما، في ضوء موت الزعيم الذي لا مفر منه والعوامل البنيوية الأهم؟

وينبغي للقراء الذين يبحثون عن احتمالات في شأن مسار روسيا أن يستشيروا أسواق الرهان. وما يتعين على المسؤولين الغربيين وغيرهم من صناع القرار أن يفعلوه بدلاً من ذلك هو النظر في مجموعة من السيناريوهات: الاستنباط من الاتجاهات الحالية بطريقة يمكن أن تسهل التخطيط للطوارئ. وتهدف هذه السيناريوهات إلى الحؤول دون المفاجأة. وغني عن الإشارة إلى أن العالم يتفاجأ باستمرار، وقد يحدث أمر ما مستحيل التنبؤ به: شيء شبيه بالبجعة السوداء [حادثة خارجة عن التوقعات] التي يضرب بها المثل. وهنا يكون التواضع في محله. ومع ذلك، ثمة خمسة سيناريوهات محتملة لمستقبل روسيا، ويتعين على الولايات المتحدة وحلفائها أن يضعوها نصب أعينهم.

على مدى الإدارات الرئاسية المتعددة، تعلمت واشنطن من أخطائها أنها تفتقر إلى الأدوات اللازمة لتحويل دول مثل روسيا، والصين في السياق نفسه: وهما بلدان نشآ كإمبراطوريات على مساحة أوراسيا ويعتدان بأنفسهما كونهما حضاراتين قديمتين تسبقان بزمن كبير تأسيس الولايات المتحدة، ناهيك عن تشكل دول الغرب. فهذه الدول ليست شبيهة بشخصيات من “بيغماليون” للكاتب المسرحي جورج برنارد شو، جاهزة للتحول من قنافذ شوارع إلى سيدات أنيقات: أي التحول من الأنظمة الاستبدادية الإمبريالية إلى جهات معنية مسؤولة في النظام العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة. إن الجهود المبذولة لإعادة تشكيل “شخصياتها” تؤدي دائماً إلى تبادل الاتهامات وخيبة الأمل. ولم يقم زعماء مثل بوتين والرئيس الصيني شي جينبينغ بعكس هذا المسار الذي يبعث على الأمل، ولا حتى قليلاً. لذا، لا ينبغي لواشنطن وشركائها أن يبالغوا في قدرتهم على تشكيل المسار الروسي. وبدلاً من ذلك، يجب عليهم الاستعداد لأي ظرف يمكن أن يتكشف.

أن تصبح روسيا مثل فرنسا

تتسم فرنسا بكونها دولة لها تقاليد بيروقراطية وملكية متجذرة، فضلاً عن تقاليد ثورية مشحونة. والحال أن الثوريين ألغوا النظام الملكي، الذي عاد في صورة ملك وإمبراطور معاً، ثم اختفى مرة أخرى مع بروز الجمهوريات وانتهائها. وقامت فرنسا ببناء إمبراطورية واسعة من دول مستعمرة وعادت وخسرتها. وعلى مر عدة قرون، ظل حكام فرنسا، وخصوصاً نابليون، يهددون الدول المجاورة لها.

واليوم، تستمر هذه التقاليد بطرق عديدة. لقد لاحظ المفكر الفرنسي ألكسيس دي توكفيل بنباهة في كتابه الذي صدر عام 1856 تحت عنوان ” النظام القديم والثورة” The Old Regime and the Revolution، أن الجهود التي بذلها الثوار للانفصال بشكل نهائي عن الماضي خلصت إلى تعزيز سيطرة أجهزة الدولة عن غير قصد. وعلى رغم توطيد النظام الجمهوري، فإن الإرث الملكي في فرنسا لا يزال موجوداً بشكل رمزي في قصور فرساي وغيرها، وفي تماثيل الحكام من أسرة بوربون المنتشرة في كل مكان، وفي شكل حكم مفرط المركزية مع التركز الكبير للقوة والثروة في باريس. وحتى بعد أن جردت من إمبراطوريتها على الصعيد الرسمي، تبقى فرنسا دولة فخورة بشدة، وهي دولة ينظر إليها عديد من مواطنيها والمعجبين بها على أنها حضارة تحمل في طياتها مهمة خاصة في العالم وفي أوروبا، فضلاً عن امتلاكها لغة يجري التحدث بها في دول أبعد من حدودها (60 في المئة من الناطقين بالفرنسية يومياً هم مواطنون في دول غير فرنسا). ولكن الأهم أن فرنسا اليوم تندرج تحت حكم القانون ولم تعد تهدد الدول المجاورة بها.

وتمتلك روسيا أيضاً تقليداً دولياً وملكياً سيستمر بغض النظر عن طبيعة أي نظام سياسي مستقبلي، وتمتلك تقليداً ثورياً مشحوناً لم يعد أيضاً مغامرة مستمرة ولكنه يعيش في المؤسسات والذكريات كمصدر للإلهام والتحذير. من المؤكد أن آل رومانوف المستبدين كانوا أقل قمعاً من آل بوربون المستبدين. لقد كانت الثورة الروسية أكثر وحشية ودماراً حتى من الثورة الفرنسية. وكانت دول إمبراطورية روسيا المفقودة مجاورة للدولة الأساسية، وليس في الخارج، واستمرت لفترة أطول بكثير، وفي الواقع، طوال معظم فترة وجود الدولة الروسية الحديثة. وفي روسيا، تتجاوز هيمنة موسكو على بقية المناطق حتى هيمنة باريس في فرنسا. ويفوق الامتداد الجغرافي الذي تتمتع به روسيا نظيره الفرنسي، إذ يمتد في أوروبا، ولكن أيضاً في القوقاز، وآسيا الوسطى، وشرق آسيا. قليلة جداً هي الدول التي تملك هذا القدر من القواسم المشتركة مع روسيا. وربما فرنسا هي أكثر من يملك منها مقارنة بأية دولة أخرى.

فرنسا المعاصرة دولة عظيمة، على رغم الانتقادات تجاهها. ينتقد بعضهم ما يعتبرونه سيطرة الدولة المفرطة، والضرائب المرتفعة اللازمة لضمان خدمات غير متكافئة، فضلاً عن انتشار الروح الاشتراكية بشكل واسعة. ويجد آخرون خطأ فيما يرون أنه ادعاء فرنسا بأنها قوة عظمى تتسم بالشوفينية الثقافية. أما بعضهم الآخر فيندب الصعوبات التي تواجهها فرنسا في استيعاب المهاجرين. لا شك أنه يمكن أن نشعر بخيبة أمل عند النظر في هذه الجوانب أو غيرها من جوانب الحكم في البلاد، لكننا ندرك على رغم ذلك أنها تقدم نموذجاً واقعياً أقرب ما يكون إلى روسيا مزدهرة مسالمة. وإذا أصبحت روسيا مثل فرنسا – أي دولة ديمقراطية تتمتع بسيادة القانون، تتفاخر بماض استبدادي وثوري، ولكنها لم تعد تهدد الدول المجاورة لها – فيكون ذلك إنجازاً من الطراز الرفيع.

والحال أن فرنسا سلكت طريقاً صعباً قبل أن تصبح ما هي عليه اليوم. ولنتذكر الإرهاب الثوري الذي مارسه روبسبير، وسياسة نابليون التوسعية الكارثية، والانقلاب الذاتي الذي قام به نابليون الثالث (من رئيس منتخب إلى إمبراطور)، واستيلاء الكومونة الباريسية على السلطة، والهزيمة السريعة للبلاد في الحرب العالمية الثانية، ونظام فيشي المتعاون الذي أعقب ذلك، والحرب الاستعمارية في الجزائر، والتصرفات غير الدستورية التي قام بها الرئيس شارل ديغول بعد خروجه من التقاعد عام 1958. وقد ينخدع المرء بفكرة مفادها بأن روسيا تحتاج إلى ديغول خاص بها للمساعدة في ترسيخ نظام ليبرالي من أعلى السلطة، على رغم عدم وجود مثل هذا المخلص في الأفق المباشر في روسيا. ولكن فقط مدوني سير القدسين وحدهم يعتقدون أن رجلاً واحداً هو الذي أوجد فرنسا اليوم. وعلى رغم لحظات عدم الاستقرار التي مرت بها البلاد عبر أجيال، فقد طورت فرنسا المؤسسات المحايدة والمهنية – والقضاء، والخدمة المدنية، والمجال العام الحر والمفتوح – لأمة ديمقراطية وجمهورية. ليست المشكلة في الأساس أن يلتسين لم يكن ديغول روسيا. بل هي أن روسيا كانت أبعد بكثير عن النظام الدستوري المستقر على النمط الغربي عام 1991 مقارنة بما كانت عليه فرنسا قبل ثلاثة عقود من الزمن.

تراجع روسيا

قد يرحب بعض الروس بالتحول إلى دولة تشبه فرنسا، ولكن آخرين قد يجدون أن هذه النتيجة هي لعنة. ظهر ما يصفه العالم اليوم بالـ”بوتينية” للمرة الأولى في الصحف والمجلات الناطقة باللغة الروسية في سبعينيات القرن الـ20: وهي عبارة عن قومية استبدادية حاقدة تتمحور حول شخص الزعيم وترتكز على معاداة الغرب، وتتبنى قيماً تقليدية، وتستعير بشكل غير متواز من النزعة السلافية، والأوراسية، والأرثوذكسية الشرقية. يمكن للمرء أن يتخيل زعيماً قومياً استبدادياً يعتنق تلك الآراء، وهو مثل بوتين، لا يتزعزع رأيه في أن الولايات المتحدة عازمة بشدة على تدمير روسيا، ولكنه أيضاً منزعج بشدة من مستقبل روسيا القاتم على المدى الطويل – ومستعد لإلقاء اللوم على بوتين في ذلك. أي أنه شخص يروق لقاعدة بوتين ولكنه يؤكد أن الحرب ضد أوكرانيا تلحق الضرر بروسيا.

وتشكل الديموغرافيا نقطة حساسة خاصة بالنسبة إلى القوميين الذين يدافعون عن الدم والأرض في روسيا، ناهيك عن كبار القادة العسكريين وعديد من الناس من عامة الشعب. منذ عام 1992، وعلى رغم الهجرة الملحوظة، تقلص عدد سكان روسيا. إذ بلغ عدد السكان في سن العمل ذروته في عام 2006 بنحو 90 مليون نسمة، ثم أصبح اليوم أقل من 80 مليون نسمة، وهو اتجاه كارثي. كان الإنفاق على الحرب في أوكرانيا سبباً في تعزيز القاعدة الصناعية الدفاعية في روسيا، ولكن محدودية القوى العاملة المتضائلة في البلاد أصبحت ملموسة أكثر حتى في ذلك القطاع ذي الأولوية القصوى، الذي يضم عدداً أقل بنحو 5 ملايين من العمال المؤهلين مقارنة بما يحتاج إليه. وستشهد نسبة العمال الذين ينتمون إلى الفئة العمرية الأكثر إنتاجية (20 إلى 39 سنة) مزيداً من الانخفاض خلال العقد المقبل. ولا شيء، ولا حتى اختطاف الأطفال من أوكرانيا، وهو جرم اتهمت المحكمة الجنائية الدولية بوتين بارتكابه، قادر على تعويض خسارة الروس، التي تفاقمت بسبب الخسائر الفادحة التي خلفتها الحرب.

إن مكاسب الإنتاجية التي قد تعوض هذه الاتجاهات الديموغرافية لا تلوح في الأفق في أي مكان. تحتل روسيا المرتبة الأخيرة تقريباً في العالم من حيث حجم وسرعة الأتمتة في الإنتاج: فاستخدام الروبوت فيها لا يأتي إلى حد جزء مجهري من متوسط استخدامه في العالم. وحتى قبل أن تبدأ الحرب الموسعة في أوكرانيا في قضم موازنة الدولة، احتلت روسيا مرتبة متدنية بشكل مفاجئ في التصنيف العالمي للإنفاق على التعليم. وفي العامين الماضيين، ضحى بوتين عن طيب خاطر بجزء كبير من مستقبل البلاد الاقتصادي عندما حث أو أجبر آلافاً من العاملين في مجال التكنولوجيا الشباب على الفرار من التجنيد الإجباري والقمع. صحيح أن هؤلاء هم الأشخاص الذين يزعم القوميون المسعورون بأنهم لا يفتقدونهم، لكن كثيرين يدركون أن القوة العظمى تحتاج إليهم.

نظراً إلى طبيعتها الجغرافية الأوراسية المترامية الأطراف وعلاقاتها الطويلة الأمد مع أجزاء كثيرة من العالم، فضلاً عن نزعتها الانتهازية، لا تزال روسيا قادرة على استيراد عديد من المكونات التي لا غنى عنها لاقتصادها على رغم العقوبات الغربية عليها. وعلى رغم هذه الحيلة واعتياد الرأي العام على الحرب، إلا أن النخب الروسية تعرف الإحصاءات الدامغة. وهم يدركون أن تنمية روسيا، باعتبارها دولة مصدرة للسلع الأساسية، تعتمد على نقل التكنولوجيا من البلدان المتقدمة. وشكل غزو بوتين لأوكرانيا سبباً في زيادة صعوبة اللجوء إلى الغرب كمصدر، كما أدى احتضانه الرمزي لعدمية “حماس” بشكل غير مبرر إلى توتر علاقات روسيا مع إسرائيل، وهي مورد رئيس لسلع وخدمات التكنولوجيا المتطورة. وعلى مستوى أولي، إن النخبة في روسيا معزولون فعلياً عن العالم المتقدم: فالملاذات الآمنة خارج أوروبا مهما كانت مبهجة، إلا أنه لا يمكنها أن تحل محل الفيلات والمدارس الداخلية الأوروبية.

وعلى رغم أن النظام الاستبدادي الروسي أثبت مرة أخرى قدرته على الصمود في الحرب، إلا أن افتقار بوتين الخطر إلى الاستثمار المحلي والتنويع، واشتداد الضائقة الديموغرافية، ودوره في انحدار البلاد إلى التخلف التكنولوجي، يمكن أن يجبر القوميين المتشددين – ومن بينهم عديد من النخب – على الاعتراف بأن روسيا تسير على مسار هزيمة ذاتية. واستنتج كثيرون سراً أن بوتين يخلط بين بقاء نظامه الشخصي المتهالك وبين بقاء الدولة العريقة كقوة عظمى. تاريخياً، في الأقل، عجلت مثل هذه الإدراكات بتغيير المسار، والتحول من الإفراط في التوسع الأجنبي إلى التنشيط المحلي. في الصيف الماضي، عندما زحفت فرقة الموت التابعة لزعيم المرتزقة يفغيني بريغوجين إلى موسكو، لم يثر ذلك حماسة الضباط العسكريين، وهو أحد الأسباب التي دفعت بريغوجين إلى إلغاء المسيرة. ولكنها لم تنجح أيضاً في تحفيز أنصار النظام للدفاع عن بوتين في الوقت الحقيقي. وشكلت هذه الحادثة استفتاء غير مقصود على النظام، وكشفت عن نوع من الخواء داخل القوة القمعية.

وقد ينجم عن تراجع روسيا إثر التعجيل بخروج بوتين، أو قد يأتي بعد وفاته الطبيعية. ومن الممكن أيضاً فرضها عليه من دون إقالته من خلال تهديدات سياسية ذات معنى لحكمه. وأياً كان الأمر، فإنه سيشتمل في الغالب على تحركات تكتيكية على خلفية الاعتراف بأن روسيا تفتقر إلى السبل اللازمة لمعارضة الغرب بلا نهاية، وهي تدفع ثمناً باهظاً في مقابل المحاولة، وتخاطر بخسارة العلاقات الأوروبية الحيوية إلى الأبد في مقابل اعتمادها المهين على الصين.

أن تصبح روسيا تابعة

تتباهى النخب الروسية المؤيدة لبوتين بأنها طورت خياراً أفضل من الغرب. لقد فاجأت الروابط الصينية – الروسية عديداً من المحللين المطلعين على العلاقات الشائكة بين بكين وموسكو في الماضي، بما في ذلك الانقسام الصيني – السوفياتي سيئ الذكر في الستينيات، الذي بلغ ذروته في حرب حدودية قصيرة. وعلى رغم أن هذا الصراع جرت تسويته رسمياً من خلال ترسيم الحدود، فإن روسيا تظل الدولة الوحيدة التي تسيطر على الأراضي استولت عليها من إمبراطورية تشينغ بموجب ما يعتبره الصينيون معاهدات غير عادلة. ولم يمنع ذلك الصين وروسيا من تعزيز العلاقات، بما في ذلك من خلال إجراء مناورات عسكرية مشتركة واسعة النطاق، التي تزايدت وتيرة ونطاقها الجغرافي في السنوات الـ20 الماضية. فالبلدان متفقان تماماً في ما يتصل بمظالم روسيا في شأن توسع حلف شمال الأطلسي والتدخل الغربي في أوكرانيا، إذ ما زال الدعم الصيني لروسيا مهماً جداً.

لقد سبق التقارب الصيني – الروسي صعود بوتين وشي. في الثمانينيات، كان دينغ شياو بينغ هو من طبق سياسة الابتعاد عن موسكو بشكل واضح أكثر من ماو تسي تونغ في الستينيات والسبعينيات. فقد تمكن دينج من الوصول إلى السوق المحلية الأميركية للمنتجين الصينيين، وهي الحيلة نفسها التي مكنت تحول اليابان ومن ثم كوريا الجنوبية وتايوان. وكان طلاق دينغ من الاتحاد السوفياتي الشيوعي في مقابل زواج اقتصادي فعلي مع الرأسماليين الأميركيين والأوروبيين بمثابة إيذان بعصر من الازدهار المذهل الذي أدى إلى نشوء طبقة وسطى صينية. لكن الصين وروسيا ظلتا متشابكتين. وأعاد جيانغ تسه مين، خليفة دينغ الذي اختاره بنفسه، الذي تدرب في أحد المصانع السوفياتية، روسيا مرة أخرى باعتبارها عشيقة من دون كسر الرابطة الزوجية الأميركية – الصينية. وأرسل جيانغ طلبات شراء ساعدت في إحياء المجمع الصناعي العسكري الروسي البائس وتحديث إنتاج الأسلحة ودعم الجيش في الصين. وفي عام 1996، أعلن جيانغ ويلتسين “شراكة استراتيجية”. وعلى رغم التجارة الثنائية المتواضعة، فإن الازدهار الاقتصادي المحلي في الصين ساعد بشكل غير مباشر في إنقاذ الإنتاج المدني الذي يعود للحقبة السوفياتية من خلال رفع الطلب العالمي عليه وبالتالي أسعار المدخلات الصناعية التي أنتجها الاتحاد السوفياتي بجودة منخفضة ولكن بكميات كبيرة، وهي تتراوح من الصلب إلى الأسمدة. كما ساعدت الولايات المتحدة في تشكيل الطبقة الوسطى الصينية، إذ لعبت الصين أيضاً دوراً في التحول إلى طبقة روسيا الوسطى والازدهار الاقتصادي الذي حققه بوتين.

ومع ذلك، فإن العلاقات المجتمعية والثقافية بين الشعبين لا تزال ضحلة. الروس هم أوروبيون ثقافياً، وقلة منهم يتحدثون الصينية (مقارنة باللغة الإنجليزية). وعلى رغم أن بعض الصينيين المسنين يتحدثون اللغة الروسية، وهو إرث ورثوه بفعل مركزية موسكو السابقة في العالم الشيوعي، فإن هذا العدد ليس كبيراً، والأيام التي كان فيها الطلاب الصينيون يلتحقون بالجامعات الروسية بأعداد كبيرة ليست سوى ذكرى بعيدة. فالروس يخشون قوة الصين، وعديد من الصينيين الذين يزدرون من روسيا يسخرون منها على الإنترنت. ولم يسامح أنصار الحزب الشيوعي الصيني قط موسكو على تدمير الشيوعية في جميع أنحاء أوراسيا وأوروبا الشرقية.

ومع ذلك، فإن عمق العلاقة الشخصية بين بوتين وشي عوض عن هذه الأسس الهشة. لقد جمع بين الرجلين علاقة أخوية وطيدة، إذ التقيا 42 مرة أثناء وجودهما في السلطة، وأشاد كل منهما بالآخر علناً باعتبار كل منهما “أفضل صديق لي” (شي عن بوتين) و”صديق عزيز” (بوتين عن شي). إن التضامن الاستبدادي بين البلدين الشقيقين يرتكز على معاداة الغرب الثابتة، وخصوصاً معاداة أميركا. ومع تحول الصين، الشريك الأصغر السابق، إلى الشريك الأكبر، قامت الجارتان الاستبداديتان بترقية العلاقات، وأعلنتا “شراكة استراتيجية شاملة” في عام 2013. رسمياً، تجاوزت التجارة بين روسيا والصين 230 مليار دولار عام 2023، ومع تعديل الأسعار بسبب التضخم، فإنها كانت تناهز ما يقرب 16 مليار دولار قبل ثلاثة عقود، ثم بلغت 78 مليار دولار فقط بحلول منتصف العقد الأول من القرن الـ21. علاوة على ذلك، لا تشمل أرقام عام 2023 عشرات المليارات الإضافية في التجارة الثنائية المقنعة باستخدام أطراف ثالثة، مثل قيرغيزستان وتركيا والإمارات العربية المتحدة.

ولا تزال الصين تشتري محركات الطائرات العسكرية من روسيا. ولكن خلاف ذلك، فإن الاعتماد يذهب في الاتجاه الآخر. وأدت العقوبات الغربية إلى تسريع خسارة صناعة السيارات المحلية في روسيا لصالح الصين. وتحتفظ موسكو الآن بكمية كبيرة من احتياطيات الرنمينبي (الاسم الرسمي لعملة الصين المحلية “اليوان”)، التي لا يمكن استخدامها إلا للسلع الصينية. ولكن على رغم الاجتماعات التي لا حصر لها على مدى عقود من الزمن، لم يجر التوصل حتى الآن إلى اتفاق نهائي في شأن خط أنابيب رئيس جديد للغاز الطبيعي ينطلق من سيبيريا ويشق طريقه إلى الصين عبر منغوليا. لقد تجنبت القيادة الصينية بشدة الاعتماد على روسيا في الحصول على الطاقة أو أي شيء آخر. بل على العكس من ذلك، أصبحت الصين بالفعل رائدة عالمياً في مجال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وتعمل على إزاحة روسيا باعتبارها اللاعب العالمي الأكبر في مجال الطاقة النووية.

إن النخب الروسية، على رغم إدانتها الشديدة لتصميم الولايات المتحدة الوهمي على إخضاع أو تقطيع أوصال بلادها، لم ترفع أصواتها إلى حد كبير ضد إخضاع روسيا للصين على يد بوتين. وأخيراً، بدأ المعلقون الروس في إعادة سرد قصة ألكسندر نيفسكي، الذي حكم في القرن الـ13 كأمير لنوفغورود، وهي إحدى الولايات التي اندمجت في دوقية موسكو، الكيان الذي نشأت منه روسيا الإمبراطورية. عندما واجه نيفسكي تحدياً على جبهتين، اختار محاربة الصليبيين في الغرب، وهزم الجرمان في “معركة على الجليد”، واستيعاب الغزاة المغول في الشرق، وسافر عبر آسيا الوسطى إلى عاصمة المغول الذهبية، لينال الاعتراف به كأمير روسيا الأكبر. ومن هذا المنطلق، كان المسيحيون الغربيون عازمين على تقويض هوية روسيا المسيحية الشرقية، في حين كان المغول يريدون فقط أن تدفع لهم الجزية. والمغزى من ذلك أن تسوية الموقف مع الصين اليوم لا يتطلب من روسيا أن تتخلى عن هويتها، في حين أن الفشل في مواجهة الغرب قد يتطلب ذلك.

هذا كلام فارغ. لقد استغرق الروس قروناً من الزمن لتحرير أنفسهم مما سمته كتبهم المدرسية النير المغولي، لكن روسيا حافظت على علاقاتها مع الغرب لقرون من الزمن من دون أن تصبح هي نفسها غربية على الإطلاق. ومع ذلك، فإن كونك غير غربي لا يعني بالضرورة أن تكون معادياً للغرب – إلا إذا كان المرء بالطبع يكافح من أجل حماية نظام غير ليبرالي في نظام عالمي ليبرالي. لقد كانت روسيا موجودة داخل حدود ما بعد الاتحاد السوفياتي لمدة عقدين من الزمن قبل أن يقرر بوتين أن الوضع أصبح لا يطاق. والآن، بعد أن أحرق الجسور مع الغرب وألقى عليه اللوم عن الحرق المتعمد، لم يعد أمامه أي خيار غير الاعتماد على النعم الطيبة التي تقدمها الصين.

وكان الخلل الكبير والمتزايد في التوازن في العلاقات سبباً في دفع المحللين إلى الحديث عن روسيا باعتبارها تابعة للصين. لكن الصين وحدها هي التي تقرر ما إذا كانت دولة ما ستصبح تابعة لها، إذ تملي بكين السياسة الروسية وحتى موظفي الادارة، وتتحمل عبء المسؤولية. وليس لديها التزامات بموجب معاهدة ملزمة مع روسيا. ولا يملك بوتين سوى علاقته مع شي جين بينغ البالغ من العمر 70 سنة – والأخير أيضاً من البشر وليس خالداً. ومع ذلك، يواصل الزعيمان إدانة مساعي الولايات المتحدة إلى الهيمنة ويتعاونان بشكل وثيق. إن الالتزام المشترك بجعل النظام العالمي آمناً لأنظمتهما الديكتاتورية والسيطرة على المناطق يؤدي إلى التبعية الفعلية التي لا يرغب فيها أي منهما.

روسيا في وضعية كوريا الشمالية

من خلال زيادة اعتماد روسيا على الصين، قد يستمد بوتين أو خليفته إلهاماً متناقضاً من تجربة كوريا الشمالية، وهو ما قد يمنح شي أو خليفته استراحة موقتة. وأثناء تدخل بكين لإنقاذ بيونغ يانغ في الحرب الكورية (1950-1953)، قال ماو، مستخدماً مثلاً مأثوراً: “إذا ذهبت الشفاه (كوريا الشمالية)، فإن الأسنان (الصين) ستكون باردة”. تعكس هذه الاستعارة وجود منطقة عازلة وحال من الاعتماد المتبادل. على مر السنين، شكك بعض المعلقين الصينيين في قيمة دعم كوريا الشمالية، وخصوصاً بعد التجربة النووية التي أجرتها عام 2006. وفي مواجهة عقوبات الأمم المتحدة، التي انضمت إليها الصين، مضت قيادة كوريا الشمالية بقوة إلى الأمام في برامجها للأسلحة النووية والصواريخ. التي يمكن أن تصل ليس فقط إلى سيول وطوكيو ولكن إلى بكين وشانغهاي أيضاً. ومع ذلك، أكدت القيادة الصينية في نهاية المطاف دعمها لبيونغ يانغ عام 2018. ونظراً إلى اعتماد كوريا الشمالية الشديد على الصين في الغذاء والوقود وغير ذلك الكثير، يبدو أن زعيمها كيم جونغ أون تحت رحمة بكين.

ومع ذلك، يحذر الموالون لبيونغ يانغ في بعض الأحيان من أن الأسنان يمكن أن تعض الشفاه. وكما اكتشفت الدوائر الحاكمة في بكين مراراً وتكراراً، فإن كيم لا يذعن دائماً لرعاته. وفي عام 2017، أعطى الأوامر بقتل أخيه غير الشقيق، كيم جونغ نام، الذي كان تحت حماية الصين في الخارج. ويستطيع كيم أن يفلت من أفعاله لأنه يعلم أنه بغض النظر عن مدى إثارة غضب بكين، فإن الصين لا تريد سقوط النظام في بيونغ يانغ. وإذا انهارت دولة كوريا الشمالية، فسيعاد توحيد شبه الجزيرة تحت رعاية كوريا الجنوبية، حليفة الولايات المتحدة. وهذا يعني خسارة الصين في نهاية الأمر للحرب الكورية التي ظلت معلقة بفعل هدنة مستمرة منذ أكثر من 70 عاماً. إن فقدان الحاجز الكوري قد يؤدي إلى تعقيد خيارات بكين والجداول الزمنية الداخلية في ما يتعلق أجندتها الخاصة بتايوان، لأن الصين ستواجه بيئة خارجية أكثر عدائية في الجوار. تاريخياً، كان عدم الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية يميل إلى التمدد إلى الصين، وقد يؤدي تدفق اللاجئين إلى زعزعة الاستقرار في شمال شرقي الصين وربما أكثر من ذلك بكثير. لذا يبدو أن بكين عالقة في شكل من أشكال الاعتماد العكسي على بيونغ يانغ. ولا يرغب الزعيم الصيني في أن يجد نفسه في موقف مماثل مع موسكو.

والحق أن الاختلافات بين روسيا وكوريا الشمالية هائلة. فالأولى أكبر مساحة بـ142 مرة من الثانية. ويحكم كوريا الشمالية سلالة متوارثة ليس لدى روسيا مثلها، على رغم أن كل خليفة في عائلة كيم يجب أن يحصل على موافقة مؤتمر الحزب. وتعد كوريا الشمالية أيضاً حليفة رسمية للصين، وهي الحليفة الوحيدة لبكين في العالم، إذ وقع البلدان على اتفاق الدفاع المشترك عام 1961. (ويشير بعضهم في الصين إلى أن بكين لم تعد ملزمة بالدفاع عن كوريا الشمالية في حال حدوث ذلك). كما تواجه كوريا الشمالية دولة كورية منافسة في شكل كوريا الجنوبية، مما يجعلها أقرب إلى ألمانيا الشرقية (التي اندثرت منذ فترة طويلة بالطبع) منها إلى روسيا.

على رغم هذه الاختلافات وغيرها، فإن روسيا يمكن أن تصبح أشبه بكوريا الشمالية العملاقة: قمعية محلياً، ومعزولة دولياً ومعتدية، ومسلحة بأسلحة نووية، ومعتمدة بشدة على الصين ولكنها لا تزال قادرة على مقاومة بكين. ويظل من غير الواضح إلى أي مدى كشف بوتين في بكين، في فبراير (شباط) 2022، عن خططه لغزو أوكرانيا عندما قام بالإعلان المشترك لـ”شراكة بلا حدود” بين الصين وروسيا، الذي سرعان ما أوحى وكأن شي يؤيد العدوان الروسي. وبعد وقت قصير من إعلان الصين خطة سلام لأوكرانيا، سافر شي إلى موسكو لحضور قمة، وفي وقت ما ظهر مع بوتين على سلم الكرملين المزخرف الذي نزل منه يواكيم فون ريبنتروب، وزير الخارجية الألماني في عهد النازيين، عام 1939 برفقة ستالين ووزير خارجيته، فياتشيسلاف مولوتوف، أثناء توقيع ميثاق هتلر-ستالين.

ومع ذلك، رفض المتحدث باسم الكرملين إمكان السلام، على رغم أن حكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قبلت وثيقة الصين الغامضة باعتبارها تستحق المناقشة. وفي وقت لاحق، بعد أن تفاخر الدبلوماسيون الصينيون أمام العالم أجمع، وخصوصاً أمام أوروبا، بأن شي جين بينغ انتزع تعهداً روسيا بعدم استخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا، أعلن نظام بوتين أنه يقوم بنشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروس، وهي خطوة انتقدتها الصين. ومن غير المرجح أن تكون أي من هذه الأحداث بمثابة إهانات صريحة. لكنها جعلت المراقبين يتساءلون عن تقدم روسيا نحو السيناريو الكوري الشمالي، لأنها، حتى لو كانت غير مقصودة، كشفت عن احتمال قيام موسكو بإحراج بكين من دون التعرض لعواقب.

ومنذ تمرد بريغوجين، أكد الزعيم الصيني على ما سماه “المصلحة الأساسية للبلدين وشعبيهما”، ملمحاً ضمناً إلى أن العلاقة الخاصة ستستمر إلى ما بعد زعامة الكرملين الحالية. في الحقيقة، لا تستطيع الصين الاستبدادية أن تتحمل خسارة روسيا إذا كان ذلك يعني ولادة روسيا مؤيدة لأميركا على حدودها الشمالية، وهو السيناريو الموازي لشبه الجزيرة الكورية الموحدة الحليفة لأميركا، ولكنه أكثر تهديداً بشكل كبير. وفي أقل تقدير، فإن الوصول إلى النفط والغاز الروسي، وهو التحوط الجزئي للصين ضد الحصار البحري، سيكون في خطر. ولكن حتى لو كانت الصين تكسب قليلاً من الناحية المادية من روسيا، فإن منع الأخيرة من التحول إلى الغرب سيظل على رأس أولويات الأمن القومي الصيني. إن روسيا ذات الميول الأميركية من شأنها أن تعمل على تمكين المراقبة الغربية المعززة للصين (بالطريقة نفسها التي أدى بها تقارب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون مع ماو إلى تمكين المراقبة الغربية على الاتحاد السوفياتي). والأسوأ من ذلك أن الصين ستحتاج فجأة إلى إعادة نشر عتاد وفرق كبيرة من أماكن أخرى للدفاع عن حدودها الشمالية الممتدة. ولذلك يجب على الصين أن تكون مستعدة لاستيعاب السلوك المشابه لبيونغ يانغ من موسكو أيضاً.

روسيا في حال من الفوضى

ويمارس نظام بوتين التهديد بالفوضى والمجهول لدرء التحديات الداخلية والتغيير. ولكن في حين تعمل روسيا على زرع الفوضى في الخارج، من أوروبا الشرقية إلى وسط أفريقيا والشرق الأوسط، فإن روسيا نفسها قد تقع ضحية لها. لقد بدا نظام بوتين مستقراً إلى حد ما حتى في ظل الضغوط الشديدة الناجمة عن حرب واسعة النطاق، ولم تتحقق التوقعات بالانهيار في ظل العقوبات الغربية البعيدة المدى. لكن روسيا شهدت مرتين تفكك دولتها خلال الأعوام الـ100 الماضية (روسيا القيصرية والاتحاد السوفياتي)، وحصل ذلك في الحالتين بشكل غير متوقع ولكن بشكل كامل.

والحق أن هناك عديداً من الأسباب الافتراضية المعقولة للانهيار في المستقبل القريب: تمرد داخلي يخرج عن نطاق السيطرة، أو كارثة طبيعية أو أكثر تتجاوز قدرة السلطات على إدارتها، أو وقوع حادثة أو تخريب متعمد للمنشآت النووية، أو وفاة طبيعية أو غير عرضية للقائد. فالبلدان مثل روسيا، التي تعاني مؤسسات متآكلة وعجز في الشرعية، من الممكن أن تكون عرضة لانهيار مفاجئ، مع ما قد ينتج من ذلك من فوضى.

ولكن حتى في ظل الفوضى فإن روسيا لن تتفكك مثل الاتحاد السوفياتي. وكما عبر مسؤول في “كي جي بي” بأسف، فإن الاتحاد السوفياتي كان أشبه بقطعة من الشوكولاتة: فقد رسمت حدود جمهورياته الاتحادية الـ15 بطريقة تسهل تقسيمها. وعلى النقيض من ذلك، يتألف الاتحاد الروسي في الغالب من وحدات إقليمية لا تقوم على أساس عرقي ولا تتمتع بوضع شبه دولة. ولا تتمتع إثنياتها الاسمية بأغلبية عددية، وغالباً ما تكون هذه الوحدات داخلية في العمق الروسي مثل تتارستان، وباشكورتوستان، وماري إل، وياكوتيا. ومع ذلك، قد يتفكك الاتحاد جزئياً في المناطق الحدودية المضطربة مثل شمال القوقاز. قد تكون كاليننغراد – وهي مقاطعة روسية صغيرة منفصلة جغرافياً عن بقية الاتحاد وتقع بين ليتوانيا وبولندا، على بعد أكثر من 600 كلم من روسيا – عرضة للخطر.

وإذا عمت الفوضى موسكو، فمن الممكن أن تتحرك الصين لاستعادة الأراضي الشاسعة في حوض آمور التي صادرها آل رومانوف من أسرة تشينغ. وربما تفرض اليابان بالقوة مطالباتها بالأراضي الشمالية، التي يسميها الروس جزر الكوريل الجنوبية، وجزيرة سخالين، وكلاهما كانا في فترة ما تحت حكم اليابان، وربما جزء من البر الرئيس للشرق الأقصى الروسي، الذي احتلته اليابان أثناء الحرب الأهلية الروسية. وربما يسعى الفنلنديون إلى استعادة جزء من مقاطعة كاريليا التي حكموها ذات يوم. ومن الممكن أن تؤدي مثل هذه التصرفات إلى تفكك عام أو نتائج عكسية من خلال إثارة تعبئة جماهيرية روسية.

وفي خضم الفوضى، وحتى من دون خسارة أراض كبيرة، يمكن للعصابات الإجرامية ومجرمي الإنترنت أن يعملوا مع قدر أكبر من الإفلات من العقاب. ومن الممكن أن تنتشر الأسلحة النووية والبيولوجية، فضلاً عن العلماء الذين يعملون على تطويرها، وهو الكابوس الذي ربما رافق انهيار الاتحاد السوفياتي ولكن جرى تجنبه عموماً، جزئياً لأن عديداً من العلماء السوفيات كانوا يعتقدون أن روسيا أفضل قد تظهر. إذا كانت هناك مرة مقبلة، فمن المستحيل التنبؤ بالكيفية التي قد يزن بها الروس آمالهم في مقابل غضبهم. الفوضى لا تعني بالضرورة سيناريو يوم القيامة. ولكنه يبقى وارداً. لربما جرى مجرد تأجيل هرمجدون ولم يجر تجنبه بالكامل.

الطريق القاري المسدود

والمستقبل الروسي الفاقد معالمه هو صورة المستقبل السائد بين أبواق نظام بوتين وكذلك منتقديه من اليمين المتطرف: موسكو كقطب في نسختها من عالم متعدد الأقطاب، تتسلط حول أوراسيا وتلعب دور الحكم الرئيس في الشؤون العالمية. قال سيرغي كاراغانوف، الموالي لسياسات الكرملين، العام الماضي: “نحن بحاجة إلى أن نجد طريقنا ونفهم من نحن. نحن قوة أوراسية عظيمة، شمال أوراسيا، محررة الشعوب، ضامنة للسلام، وهي النواة العسكرية – السياسية للغالبية العالمية. هذا هو مصيرنا الواضح”. إن ما يسمى بالجنوب العالمي – أو كما وصفه كاراغانوف “الغالبية العالمية” – غير موجود ككيان متماسك، ناهيك عن وجود روسيا في قلبه. لقد فشل بالفعل مشروع روسيا باعتبارها قارة عملاقة تعتمد على نفسها وتتفوق على أوروبا وآسيا. ولم يكن الاتحاد السوفياتي يسيطر بالقوة على إمبراطورية داخلية على بحر البلطيق والبحر الأسود فحسب، بل وأيضاً على إمبراطورية خارجية من الدول التابعة، ولكن من دون جدوى في نهاية المطاف.

إن عالم روسيا يتقلص فعلياً على رغم احتلالها لنحو 20 في المئة من أوكرانيا. إقليمياً، أصبحت الآن أبعد من قلب أوروبا (باستثناء كاليننغراد) أكثر من أي وقت مضى منذ غزوات بطرس الأكبر وكاترين العظيمة. فضلاً عن ذلك، فبعد مرور أكثر من ثلاثة قرون على ظهورها في المحيط الهادئ، لم تنجح روسيا قط في التحول إلى قوة آسيوية. وكان هذا هو الواقع حتى عندما أتاحت لها الحرب العالمية الثانية الفرصة للانتقام من اليابان بسبب الهزيمة التي منيت بها روسيا عام 1905، من أجل إعادة ترسيخ موقع القيصر في منشوريا الصينية، وتوسيع قبضتها على جزء من شبه الجزيرة الكورية. لن تكون روسيا في موطنها الثقافي أبداً في آسيا، وتقلص عدد سكانها الضئيل بالفعل شرق بحيرة بايكال منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.

كما أن نفوذ روسيا في جوارها المباشر آخذ في التضاؤل أيضاً. إن القسم الأعظم من غير الروس في المناطق الحدودية السوفياتية السابقة لا يريدون أن يتعاملوا مع سيدهم السابق، ومن المؤكد أنهم لا يريدون أن يستوعبهم هذا القائد مرة أخرى. فالأرمن يشعرون بالمرارة، والكازاخستانيون حذرون، والبيلاروسيون محاصرون وغير راضين عن ذلك. لقد أصبحت عقائد مثل الأوراسية والسلافية في الغالب حبراً على ورق: فالغالبية الساحقة من السلاف غير الروس في العالم انضموا أو يطالبون بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. ومن دون تهديد روسيا لجيرانها الأوروبيين، يصبح السبب وراء وجود الناتو غير مؤكد. لكن هذا يعني أن روسيا لن تتمكن من كسر حلف الناتو إلا من خلال التطور إلى دولة يحكمها مبدأ سيادة القانون بشكل دائم، وهو على وجه التحديد ما يقاومه بوتين بكل كيانه.

ولا يوجد أساس تكون فيه روسيا نقطة محورية عالمية تجذب الدول نحوها. ولا يقدم نموذجها الاقتصادي إلا قليلاً من الإلهام. ولا يمكنها تحمل تكاليف العمل كجهة مانحة رئيسة للمساعدات. فهي أقل قدرة على بيع الأسلحة – فهي تحتاج إليها بنفسها، بل إنها تحاول إعادة شراء الأنظمة التي باعتها – وتحولت في بعض الحالات إلى المقايضة مع دول منبوذة أخرى. لقد فقدت مكانتها القوية كمزود للأقمار الاصطناعية. فهي تنتمي إلى ناد منبوذ يضم إيران وكوريا الشمالية، يتبادلون فيه الأسلحة بحماسة، وينتهكون القانون الدولي، ويعدون بمزيد من المتاعب. ليس من الصعب أن نتخيل خيانة كل منهما للآخر في أقرب فرصة قادمة.

وحتى عديد من شركاء الاتحاد السوفياتي السابقين الذين رفضوا إدانة روسيا في شأن أوكرانيا، بما في ذلك الهند وجنوب أفريقيا، لا ينظرون إلى موسكو باعتبارها شريكاً في التنمية بل باعتبارها سقالة لتعزيز سيادتهم. إن السياسة الخارجية الروسية تحقق في أفضل الأحوال مكاسب تكتيكية، وليس مكاسب استراتيجية: لا يوجد رأسمال بشري معزز، ولا وصول مضمون إلى التكنولوجيا الرائدة، ولا استثمارات داخلية وبنية تحتية جديدة، ولا حوكمة فاعلة، ولا يوجد حلفاء راغبون في الدخول بمعاهدة ملزمة بشكل متبادل، وهي المفاتيح الأساسية لبناء واستدامة القوة الحديثة. وإلى جانب المواد الخام والبلطجة السياسية، فإن الأشياء الوحيدة التي تصدرها روسيا هي الأشخاص الموهوبون.

ولم تتمكن روسيا قط من الحفاظ على مكانتها كقوة عظمى إلا حين كان لديها علاقات وثيقة مع أوروبا. وبالنسبة إلى بوتين أو من يخلفه، فسيكون طريق التراجع طويلاً. لقد أبطل أكثر من قرنين من الحياد السويدي وثلاثة أرباع قرن من السياسة الفنلندية (عندما أذعنت هلسنكي لموسكو في اعتبارات رئيسة متعلقة بالسياسة الخارجية)، مما دفع كلا البلدين إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. ويعتمد كثيرون على مزاج ألمانيا المتطور: تخيل مصير أوروبا، بل والنظام العالمي، لو تطورت ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية لتشبه روسيا اليوم بدلاً من أن تخضع لتحولها الملحوظ. لعبت ألمانيا دور الجسر إلى روسيا، إذ ضمنت الوحدة السلمية بشروطها وشراكات تجارية مربحة. لكن في ظل الوضع الحالي، لم يعد بإمكان موسكو عقد صفقات مع برلين لإحياء علاقاتها الأوروبية من دون تغيير سلوكها السياسي بشكل أساسي، وربما نظامها السياسي. وحتى لو تغيرت روسيا على المستوى النظامي، فإن بولندا ودول البلطيق تقف الآن بكل حزم في طريق المصالحة الروسية مع أوروبا باعتبارها أعضاء دائمين في التحالف الغربي والاتحاد الأوروبي.

تشعبات روسيا المستقبلية: أحد المسارين يتلخص في انجراف محفوف بالأخطار نحو احتضان صيني أعمق، والآخر يتمثل في العودة على عكس التوقعات إلى أوروبا. إن امتلاك الأمرين – البقاء كقوة عظمى مع استعادة الديناميكية الاقتصادية، وتجنب التنازلات الكاسحة للغرب أو الخضوع الدائم للصين، والهيمنة على أوراسيا، وتأسيس نظام عالمي آمن للاستبداد والافتراس – سيتطلب انتكاسات تتجاوز قدرة روسيا على هندستها.

هل هناك طريق أفضل؟

وتبدو الاستراتيجية الكبرى الأساسية التي تتبناها روسيا بسيطة: الإفراط في الاستثمار في المؤسسة العسكرية، والقدرات العدائية، والشرطة السرية، ومحاولة زعزعة الغرب. وبغض النظر عن مدى خطورة وضعها الاستراتيجي، وهو وخيم في كثير من الأحيان، فإن روسيا قادرة على الصمود حتى في سلوك هذا الطريق ما دام الغرب يضعف أيضاً. وبعيداً من التفكك الغربي، فإن بعض الروس يتخيلون بهدوء حرباً بين الولايات المتحدة والصين، يتنافس فيها الغرب والشرق بينما تعمل روسيا على تحسين مكانتها النسبية إلى حد كبير من دون بذل أي جهد. قد تبدو النتيجة واضحة بذاتها: يجب على واشنطن وحلفائها أن يظلوا أقوياء معاً، ويجب ردع بكين من دون إثارة حرب. لكن الخيارات التقليدية لها حدود صارمة. أحدهما يتلخص في تسوية أو اتفاق، وهو ما يحتاج إليه حكام روسيا في بعض الأحيان ولكن نادراً ما يسعون إليه، وعندما يفعلون ذلك فإنهم يجعلون من الصعب على الغرب أن يستمر في دعمه. أما التحدي الآخر فهو المواجهة، وهو ما تتوسل إليه الأنظمة في روسيا ولكنها لا تستطيع تحمل كلفتها. إن الطريق إلى خيار أفضل يبدأ بالاعتراف الصريح بالفشل، ولكن ليس بما يتفق مع الحكمة السائدة.

كثيراً ما نسمع في انتقادات السياسة الأميركية دعوات إلى الاعتراف بمصالح روسيا “المشروعة”، لكن استقرار القوى العظمى الذي يتحقق عن طريق قبول قيام مناطق النفوذ القسرية يثبت دائماً أنه سريع الزوال، فيما معاناة الدول الصغيرة التي يجري التضحية بها والعار الناتج معه من التنازل عن القيم الأميركية يسودان بشكل دائم. تأملوا مثلاً أنه في أعقاب مناورات نيكسون ووزير الخارجية هنري كيسنجر، أصبحت الصين وروسيا أقرب من أي وقت مضى. لقد أصبحت اتفاقات الحد من الأسلحة ميتة فعلياً. لقد ماتت سياسة “الانفراج” Détente قبل أن يدرك عديد من الناس حتى ما الذي تعنيه هذه الكلمة، ولكن الضرر منها في الهند الصينية، وأميركا اللاتينية، وجنوب آسيا، وأماكن أخرى من العالم يظل واضحاً حتى الآن. ربما كان كيسنجر يجادل بأن هذه النتائج المخيبة للآمال كانت خطأ الآخرين لفشلهم في الالتزام بسياسته المتمثلة في التوازن الذكي في الشؤون الدولية. لكن أي توازن يعتمد على مهارة شخص واحد ليس في الواقع توازناً.

يؤكد عديد من المدافعين عن سياسة التسوية والشراكة والممارسين السابقين لها أن السياسة الأميركية التي استمرت لعقود من الزمن في إشراك الصين كانت أكثر ذكاء مما بدت، وأن صناع السياسة الأميركيين كانوا دائماً متشككين في أن النمو الاقتصادي سيقود الصين نحو نظام سياسي مفتوح، لكنهم اعتقدوا أن الأمر يستحق المحاولة على أية حال. ويزعم بعضهم أيضاً أنهم قاموا بالتحوط ضد أخطار الفشل. إن مثل هذا التلميع للواقع بأثر رجعي يتناقض مع انعدام الأمن الصارخ في سلاسل التوريد العالمية (كما كشفت جائحة كوفيد-19) والحالة المؤسفة للقاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية (كما كشفت عنها الحرب ضد أوكرانيا). وفي حالة روسيا، قامت واشنطن بالتحوط، ووسعت حلف شمال الأطلسي ليشمل جميع دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق تقريباً. لكن ذلك لم يكن له علاقة بالتقييم غير العاطفي لمسار روسيا المحتمل بقدر ما كان له علاقة بالعار الذي حدث في يالطا، عندما أثبتت واشنطن عجزها عن الوفاء بوعودها بإجراء انتخابات حرة ونزيهة بعد الحرب العالمية الثانية، ومناشدات ما بعد عام 1989 للوافدين الجدد على العضوية المحتملة. ومن جانبهم، يلقي منتقدو توسع حلف شمال الأطلسي اللوم عليه باعتباره السبب وراء نزعة روسيا الانتقامية، كما لو أن النظام الاستبدادي القمعي الذي يغزو جيرانه باسم أمنه هو شيء غير متوقع في التاريخ الروسي وما كان ليحدث بكل الأحوال حتى لو لم يتوسع الحلف، مما كان ليترك مزيداً من البلدان عرضة للخطر.

والحق أن السلام يأتي من خلال القوة المقترنة بالدبلوماسية الماهرة. ويجب على الولايات المتحدة مواصلة الضغط المنسق على روسيا مع تقديم حوافز لموسكو لخفض قواتها. وهذا يعني العمل على خلق نفوذ من خلال الأدوات العسكرية من الجيل التالي، وأيضاً عبر متابعة المفاوضات بالتعاون الوثيق مع حلفاء الولايات المتحدة وشركائها. وفي الوقت نفسه، يجب على واشنطن أن تستعد وتعزز بجدية إمكان إعادة تغير مفهوم القومية الروسية. وفي حالة عدم تحول روسيا إلى فرنسا في أي وقت قريب، فإن صعود القومي الروسي الذي يعترف بالثمن الطويل الأمد لمعاداة الغرب المتطرفة يظل الطريق الأكثر ترجيحاً لروسيا التي تجد مكاناً مستقراً في النظام الدولي. وعلى المدى القريب، قد تكون الخطوة في هذا الاتجاه هي إنهاء القتال في أوكرانيا بشروط مواتية لكييف: على وجه التحديد، هدنة من دون اعتراف قانوني بضم الأراضي ومن دون انتهاك المعاهدة لحق أوكرانيا في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، أو الاتحاد الأوروبي، أو أية منظمة دولية أخرى. وقد يحقق بوتين أهدافه الحربية قبل أن يحصل ضابط أو مسؤول قومي روسي على فرصة قبول مثل هذه الشروط، ولكن التكاليف الباهظة التي ستتحملها روسيا ستستمر، مع احتمال تحول الصراع من حرب الاستنزاف إلى التمرد الأوكراني.

وبقدر ما قد يبدو الأمر غريباً، فإن خلق الحوافز المناسبة للتراجع، تحتاج واشنطن وشركاؤها إلى سياسة مؤيدة لروسيا: أي بدلاً من دفع الروس إلى أحضان بوتين، وتأكيد تأكيداته حول الغرب الجماعي المناهض لروسيا بشكل عنيد، ينبغي لصناع السياسات ومنظمات المجتمع المدني الغربيين أن يرحبوا ويكافئوا – بالتأشيرات وفرص العمل وفرص الاستثمار والتبادلات الثقافية – أولئك الروس الذين يريدون الفصل بين بوتين وروسيا ولكن ليس بالضرورة بشكل عقائدي متحمس. سيكون من الخطأ حصراً الانتظار ومكافأة حكومة روسية مؤيدة للغرب.

ويتعين على الغرب أيضاً أن يستعد لروسيا التي تلحق قدراً أعظم من الضرر على نطاق عالمي من دون أن يدفعها للقيام بذلك. وكان بعض المحللين يحثون الرئيس الأميركي جو بايدن (أو الرئيس المستقبلي) على تطبيق سياسة معاكسة لـنيكسون كيسنجر: إطلاق تواصل دبلوماسي مع موسكو ضد بكين. بطبيعة الحال، كان الانقسام بين الصين والاتحاد السوفياتي قائماً بالفعل قبل فترة طويلة من المناورة الأميركية السابقة. إن فصل روسيا عن الصين اليوم سيكون مهمة صعبة. وحتى لو نجحت، فإنها ستتطلب النظر في الاتجاه الآخر، حيث أعادت موسكو قسراً فرض مجال نفوذها على الجمهوريات السوفياتية السابقة، بما في ذلك أوكرانيا. وفي الوقت نفسه، أدت العلاقات الصينية – الروسية الوثيقة إلى تشويه متبادل للسمعة، كما دفع حلفاء واشنطن في آسيا وأوروبا إلى أحضان الولايات المتحدة بشكل أوثق. وبدلاً من حدوث العكس، يمكن أن تجد واشنطن نفسها في لحظة نيكسون-كيسنجر محدثة: مطالبة الصين بالمساعدة في كبح جماح روسيا.

فرصة في الخارج، فرصة في الداخل

إن المفارقة الأعظم في الاستراتيجية الأميركية الكبرى على مدى السنوات الـ70 الماضية هي أنها نجحت في تعزيز عالم متكامل من الرخاء المشترك والمثير للإعجاب، ومع ذلك يجري التخلي عنه الآن. وكانت الولايات المتحدة منفتحة على التعامل مع خصومها، من دون مقابل. ولكن اليوم، يعمل ما يسمى بالسياسة الصناعية والحمائية على إغلاق البلاد جزئياً ليس فقط في وجه المنافسين، بل أيضاً في وجه حلفاء الولايات المتحدة وشركائها وأصدقائها وأصدقائها المحتملين. لقد أصبحت السياسة الأميركية تشبه السياسة الصينية، عندما اصطدمت الأخيرة بحائط.

من المؤكد أن ضوابط تصدير التكنولوجيا قد تكون ضمن مجموعة أدوات السياسة، سواء حيال الصين أم روسيا. لكن ليس من الواضح ما الذي تقدمه الولايات المتحدة بالمعنى الإيجابي. إن السياسة التجارية الاستراتيجية – التي تنعكس في مبادرات مثل اتفاق الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، الذي صاغته واشنطن ثم تخلت عنه بعد ذلك – قد تكون غير ناجحة في المناخ السياسي المحلي الحالي. ومع ذلك، يمكن للإدارة الذكية أن تعيد صياغة هذا النهج باعتباره مسعى طموحاً إلى تأمين سلاسل التوريد العالمية.

إن النظام العالمي يتطلب الشرعية، يتطلب مثلاً أعلى يستحق الاقتداء به، ونظام يمنح الفرص للمكافحين. كانت الولايات المتحدة ذات يوم مرادفاً للفرص الاقتصادية لحلفائها وشركائها، ولكن أيضاً للآخرين الذين يتطلعون إلى تحقيق الرخاء والسلام الذي وعد به النظام الاقتصادي المفتوح الذي تقوده الولايات المتحدة – الذي تحقق، في معظم الأحيان، من خلال الحد من عدم المساواة في العالم. على نطاق تاريخي، وانتشال مليارات البشر من براثن الفقر على مستوى العالم، وتعزيز الطبقات المتوسطة. ولكن مع مرور الوقت، تخلت الولايات المتحدة عن هذا الدور، مما سمح للصين بأن تصبح مرادفاً للفرص الاقتصادية (باعتبارها الشريك التجاري الرائد لأغلب البلدان) وبراعة التصنيع (كمركز للمعرفة التقنية، والبراعة اللوجستية، والعمال المهرة). ومن أجل استعادة هذا المجال المفقود وإعادة تشغيل محرك الحراك الاجتماعي في الداخل، تحتاج الولايات المتحدة – التي لديها 1.5 مليون معلم للرياضيات فقط ويتعين عليها استيراد المعرفة في هذا الموضوع من شرق آسيا وجنوب آسيا – إلى إطلاق برنامج لإنتاج مليون معلم جديد للرياضيات خلال عقد من الزمن.

ويجب على الحكومة والجهات الخيرية إعادة توجيه تمويل أكبر للتعليم العالي إلى كليات المجتمع التي تلبي أو تتجاوز مستويات الأداء المعهودة. وينبغي للدول أن تطلق حملة طموحة للمدارس المهنية والتدريب، سواء بإعادة إدخالها في المدارس الثانوية القائمة أم فتح مدارس جديدة قائمة بذاتها بالشراكة مع أصحاب العمل على المستوى الأرضي. وبعيداً من رأس المال البشري، يتعين على الولايات المتحدة أن تعمل على إحداث طفرة في بناء المساكن من خلال الحد بشكل كبير من القواعد التنظيمية البيئية وإلغاء إعانات الدعم المقدمة لشركات البناء، والسماح للسوق بالعمل. وتحتاج البلاد أيضاً إلى تأسيس الخدمة الوطنية للشباب، ربما مع عنصر تشاركي بين الأجيال، من أجل إحياء الوعي المدني الواسع والشعور بأن الجميع يشاركون في هذا الأمر معاً.

إن الاستثمار في البشر والإسكان وإعادة اكتشاف الروح المدنية على النطاق الذي ميز التعبئة المذهلة للحرب الباردة حول العلوم والمشاريع الوطنية لن يضمن وحده تكافؤ الفرص في الداخل. لكن مثل هذه السياسات ستكون بمثابة بداية حيوية، وعودة للصيغة المجربة والحقيقية التي بنت القوة الوطنية الأميركية بالتعاون مع القيادة الأميركية العالمية. يمكن للولايات المتحدة أن تصبح مرة أخرى مرادفاً للفرص في الخارج وفي الداخل، وأن تكتسب مزيداً من الأصدقاء، وتصبح أكثر قدرة على مواجهة أي شكل محتمل أن تتخذه روسيا في المستقبل. لقد أدى النموذج الأميركي والممارسة الاقتصادية إلى تغيير مسار روسيا من قبل، ومن الممكن أن تقوم بذلك مرة أخرى، ولكن مع قدر أقل من الأوهام هذه المرة.

*ستيفن كوتكين هو زميل بارز في مقعد “كلاينهاينز” في معهد هوفر بجامعة ستانفورد. وهو مؤلف كتاب سيصدر قريباً بعنوان “ستالين، القوة العظمى الشمولية، 1941-1990″، وهو الكتاب الأخير في السيرة المكونة من ثلاثة مجلدات.

مترجم عن “فورين أفيرز”، مايو/يونيو 2024

 

المصدر: اندبندنت عربية

قد لا يعبر هذا البحث عن رأي الموقع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى