لستُ ممن استهواهم فكر الإخوان المسلمين، ولا منهجهم التنظيمي، ولا خياراتهم السياسية المحلية أو تلك العابرة للحدود، غير أني لم أتوقف عن التفكير في شخصية الأستاذ عصام العطار الذي رحل عن عالمنا أمس، منذ أن سمعت باسمه لأول مرة من أبي رحمه الله، في تعليق له على تأثر الشيخ علي الطنطاوي عندما ذكر اسم ابنته بنان.
كان ذلك في سبعينات القرن العشرين، وكان طيف عصام العطار لا يزال يهيمن على سوريا والسوريين الذين عرفوه سياسياً وطنياً وخطيباً جريئاً في مسجد الجامعة في البرامكة بدمشق.
لكن لماذا استمر السوريون بتذكّر العطار واستحضاره بقوة، رغم أنه غادر دمشق التي تعلّقت روحه بها بعد انقلاب حزب البعث ووصوله إلى السلطة بواسطة الجيش عام 1963؟ كان يمكن للنسيان أن يطويه، وكان يمكن لتعاقب الأحداث الجسام على البلاد والعباد أن يطمر سيرته، لكن إرادتان عملتا على النقيض من ذلك، الأولى كانت إرادة العطار ذاته الذي رفض الانعزال، وقرّر مواصلة نضاله من منفاه الأوروبي في بلجيكا ثم في مدينة آخن الألمانية، والثانية إرادة حافظ الأسد الذي توهّم أنه إذا ما قام بجلب شقيقة العطار، نجاح، ومنحها حقيبة الثقافة وزيرة مقرّبة من رأس السلطة، فسوف يعرض أمام السوريين انتقام السلطة من الأسرة الدمشقية العريقة الواحدة، وأن تلك الأسرة بمشهد كهذا سيسهل الطعن في مصداقيتها وبالتالي في مصداقية من يعارضونه، ويهدم قامة العطار الشاهقة في أنظار شعبه. وحين لم تفلح تلك المعادلة عمد إلى تسليط مجموعة إرهابية لتنفيذ اغتيال يوجع العطار ويحطّم فؤاده، باغتيال زوجته بنان في بيتها بخمس رصاصات غادرة.
عرف العطار قاتلي زوجته، بعد أن ألقت السلطات الألمانية القبض عليهم، وكان عليه أن يقدّم نفسه من جديد كأمثولة لغيره، تترفّع على الانتقام وتتنزّه عن المشاعر الغرائزية، حين تنازل هو وابنه وابنته عن حقهم الشخصي في تلك القضية، تاركاً الحُكم فيها للتاريخ.
مرّت عشرات السنين، واندلعت ثورة السوريين في ربيع العام 2011، وإذا بالعطار يبادر قبل كثيرين إلى تأييدها، وتشجيع الشابات والشبان السوريين على الانخراط بها، مع الحفاظ على قيم وثوابت أخلاقية لطالما حرص العطار على الالتزام بها، ثوابت لا تؤمن بالتمييز والطائفية والخيانة واتهام الآخر ونبذه والثأر منه، بل ترسّخ العدالة والتسامح وقوة الضمير، والإيمان بأن المستقبل “لا يُفاجئنا، بل نصنعه نحن بأيدينا” كما كان العطار يقول حرفياً.
وكان العطار نادر الظهور في الحوارات التلفزيوينة، حتى أنه اعتذر عن الظهور في أحد أشهر البرامج التي تقدّم شهادات على العصر، أردتُ أن يسمع الناس العطار في حوار سوري – سوري، يستنطق ما لم يستطع الحديث الأيديولوجي المبرمج ذهنياً استنطاقه، في نقاش سيتوقعه المشاهد حين يرى السائل والمسؤول وهما ينتميان إلى الفضاء الفكري والسياسي ذاته.
كان العطار صعب المراس، لا يوافق على مثل هذه الطلبات، ولا يحبّ الظهور، بل يزعجه ذلك، لأنه يفرض عليه أن يتحدث عن نفسه، وهو ما سيتناقض مع تواضعه الجم وضبطه لكل اعتداد مفرطٍ بالذات يمكن أن يتسلل إليه. لكنه وافق على طلبي، فطرتُ إليه بعذ دراسة معمّقة لشخصية العطار وعصره السوري، جعلتني أكاد أصدّق أني أعيش في عالمه منذ أن كان طفلاً يغفو على ساقي والدته في بيت ذلك الشيخ الشافعي في دمشق، على إيقاع قصيدة أبي مدين التلمساني “متى يا كرام الحيّ عيني تراكُمُ/ وأسمعُ من تلكَ الديار نداكُمُ/ أمرُّ على الأبواب من غير حاجةٍ/ لعلي أراكُم أو أرى من يراكُمُ” والتي سأسأل العطار عنها أمام الكاميرات، فيروي لي قصتها متأثراً بحنينه، لتصبح من أكثر المقاطع المصورة تداولاً بين ملايين السوريين والعرب.
بدأت علاقتي مع العطار، والتي ستتحوّل إلى صداقة وثيقة قائمة على الندية والتحاور الحر مع اختلاف القامات والمقامات، من خلال نقيض أيديولوجي وقومي جمعته معه صلة سياسية وطنية سورية على مدى السنوات، فكان عليّ أن أستعين بالصديق القديم الفنان التشكيلي والسياسي السوري المعارض بشار العيسى الذي تحدث إلى العطار وزودني برقم هاتفه، لتدور حوارات طويلة بيننا في مواضيع عديدة محورها وشعاع ضوئها دمشق وسوريا ومستقبل السوريين. ولعلّ كمّ الحوارات الصوتية، التي لم أكن أقبل تسجيلها، للحفاظ على عفويتها وأمانة مجلسها، كان أكبر بكثير مما سوف يظهر لاحقاً على شكل متلفز.
بالنسبة لي، كان يكفي أن أكون جزءاً من تلك الحكاية المأساوية الكبرى التي مثّلتها حياة العطار، لأتمكن من قدح الشرر ما بين السؤال والجواب، من دون أن أقع في مأزقين، الأول كسر القاعدة الذهبية في العمل الصحفي والتحقيق الاستقصائي كما تعلمته، قاعدة تقول (لا تقعْ في حب العميل). أما المأزق الثاني فكان الخشية من أن يجفل العطار من (اختلاف الآخر) في ما ستفرضه الجلسات الحوارية. وفي الحالين كان المشاهدون سيكتشفون ذلك بذكائهم، في لحظات حساسة من نهايات العام 2011.
لكن دوراً آخر لواحد من تلاميذ العطار جعل من إقناعه بإجراء الحوار احتمالاً ممكناً، دور الصديق الدكتور عدنان وحود، العالم والمخترع السوري، الذي استلهم من العطار فكره الإنساني ومواقفه المبدئية دون أن يكون للأطر السياسية تأثير على حياته وخياراته، فغدت حياته هو الآخر نموذجاً سورياً فريداً.
وحتى يخرج الحوار أكثر من قرار فردي في وضع المحاور، كان علي أن أشارك فيه صديقاً عرف العطار من زاويته الأخرى، من خلال صداقة خاصة ربطته بشقيقته نجاح العطار، فكان الاثنان يغلقان الباب في مكتب في حي الروضة في دمشق، حيث ستكون الدموع رسالة مبطنة تقول كل شيء عن العطار وما فعله به نظام الأسد. وهكذا أسهم الأخ والصديق القدير الدكتور رياض نعسان آغا معي في إعداد كل محور طرحتُه على العطار، لرسم البُعد السياسي والأدبي الذي أردنا أن يظهر به العطار أمام السوريين حينها. لكن لم يكن من السهل إقناع العطار الحذِر بالجلوس أمام من سوف يسأله بحرية، ولكن هذه المرة من خارج دائرة الإسلاميين. في أول حلقات برنامج اخترت له اسماً حاراً وشديد التأثير على المشاركين فيه أولاً، ثم على الجمهور آنذاك؛ “الطريقُ إلى دمشق”.
بتلك الصورة بات الحوار مع العطار أكثر من حوار بين اثنين، بل بين ذهنيات سورية عديدة، مدعّماً بترسانة من العاطفة والتقدير والبحث الدقيق في تفاصيل ترفعه إلى مقام الوثيقة ليكون أكثر بكثير من مجرد مادة تلفزيونية.
وكان عليّ أن أعبر بعدها من اختبارات لا حصر لها، لم يكن صعباً علي أن أدرك أن العطار يخضعني إليها، ثقافياً وفكرياً ولغوياً وأخلاقياً، علمياً وأدبياً، تاريخياً وسياسياً.
تطلبّ مني الأمر اعتكافاً دام ثلاثة أسابيع في غرفة صغيرة في “آخن” القديمة، عاصمة أوروبا القديمة التي حملت اسماً ارتبط بالملك شارلمان الكبير صديق الخليفة هارون الرشيد “آكواس غرانا”.
كان العطار يمر بوعكة صحية مفاجئة، ما زاد في تعقيد الأمور أمام إجراء الحوار، وهو الخطيب العارف بضرورة الظهور بصحة لا بأس بها، وهمة كافية، فلم يكن هيناً أن يقبل بأقل من قدرات صوتية مناسبة وحنجرة اشتهر بها، وذهن حاضر، فكان علي الانتظار والانتظار، والمزيد من الانتظار.
لكنه لم يتعاف بما يكفي حينها، فطلب تأجيل التصوير، فغادرت مجدداً إلى مسافة آلاف الكيلومترات، تاركاً إياه ليأخذ وقته في التفكير ويستنزف كل ما لديه من حذر.
شهران مرا بعدها، رفضت فيهما أن يرى “الطريق إلى دمشق” النور، دون أن تكون فاتحته حواراً مع الأستاذ العطار، إلى أن اتصل بي العطار بنفسه ثانية ليقول “ألم يحن الوقت لننهي ما بدأنا به؟” فطرت إليه مجدداً في اليوم نفسه، مروراً بباريس التي جمّعتُ فيها على عجل فريقاً صغيراً من المصورين والفنيين، وفي سيارة صغيرة انتقلنا إلى “آخن” لإجراء الحوار الذي قمتُ بإخراجه وتقديمه في الوقت نفسه.
سجلنا ساعات وساعات، وترك لي العطار القرار النهائي في ما أراها مناسباً مما قال، وما أجد أنه من المناسب إن يجري حذفه، ووجدت نفسي في عمليات “المونتاج” أتعامل مع مادة خاصة، وثيقة، مخطوط، وشهادة ستبقى وتؤثر لاحقاً وتصنع شيئاً ما لا يمكن أن يمرّ بسهولة أو تطويه الذاكرة التلفزيونية السطحية. وكانت تلك ثقة كبيرة زادت من صعوبة المهمة.
غير أني لم أعد من بيت العطار بأشرطة الحوار وحسب، فقد أهداني، علامة من علاماته الفارقة، قبّعته الشهيرة التي اعتاد السوريون على رؤيته وهو يعتمرها، والتي ما زلت أحتفظ بها في خزانتي إلى هذا اليوم، لرمزيتها العالية، وما تعنيه من ارتباط بالحكمة والمعرفة ودمشق أولاً وثانياً وثالثاً وإلى ما لا نهاية.
سهر السوريون على مدى ثلاثة أسابيع وهم يتابعون أفكار العطار، وشاهده المعارضون والمؤيدون، وكنت ألتقي بهم، من كافة الطوائف والأعراق، في الطرقات والمطارات، وغالبيتهم لم تكن تعرفني، لكنهم كانوا يبادرونني بالعناق والشكر لإتاحة الفرصة لهذا الشيخ الجليل وهو يقرأ شعره وشعر غوته وهاينه وبدوي الجبل الذي وحّد وجدان السوريين وبدّد مخاوفهم من بعضهم البعض.
وكانت تلك الحلقات الثلاث بداية لعلاقة امتدت للأعوام التالية حتى رحيله، تخللها العديد من المشاريع التي كنت أعرضها على العطار، مع رفاق الحلم، كمشروع مجلة “دمشق” مع الصديق الشاعر نوري الجراح، فتحدثنا نحن الاثنين، مع العطار وعرضنا عليه أن يكون في هيئتها الاستشارية مع صادق جلال العظم والأب باولو دالوليو وآخرين، فلم يتردّد بالقبول. ثم في مشروع تأسيس رابطة الكتاب السوريين، والمؤتمر التشاوري الفكري السوري الأول الذي زوّدني العطار بكلمة مصورة أثارت شجون مئات الحاضرين في قاعاته بالقاهرة آنذاك، ثم في العمل الإنساني الواسع الذي كان مصدر المشورة والتخطيط والرأي فيه.
وعلى الرغم من رفضه لتلقي أي أجرٍ على تخصيصه وقته وطاقته كضيف في برنامجي، وافق على طلبي الجديد بالظهور وحيداً في ثلاثين حلقة رمضانية، بعد أن جهدتُ لإقناعه بمواصلة ما كان قد أسّس له حموه العالم الأديب علي الطنطاوي، ومنحني حقّ إعادة طباعة كتبه كلها، في طبعات جديدة، بالتحرير الذي أراه مناسباً، مع الحفاظ على الأصل، وأرسلها لي كملفات بالبريد الإلكتروني عبر فريق من الشباب الذين يمثلون الأجيال الجديدة لتلاميذ العطار في المنفى. وقبل بحل وسط في أن يوجه إليه الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي دعوة لحضور مؤتمر المعارضة السورية 2012، بشرط أن يعتذر عن المشاركة، وقد شرحتُ، وقتها، ضرورة توجيه تلك الدعوة إلى العطار مع أنه سيرفضها، لأننا يجب أن نقول للجميع “لا يمكن تجاهل العطار” ولا التغافل عن الخط الفكري الرحب الذي كان يمثله.
لم يرفض العطار طلباً سمحتُ لنفسي بعرضه عليه منذ ذلك الوقت، مع حفاظي على مسافة مقصودة ومحزنة في الوقت ذاته، لطالما عاتبني عليها، لكن الاختلاف جعل تلك المسافة ضرورة في قناعاتي، على الرغم مما تخلفه في الروح من فقد لصديق كبير بتُ أعيش على مقربة منه في ألمانيا.
اليوم غادر العطار جسده، دون أن يفقد الأمل في إصلاح ما أفسده الدهر، سواء في الدائرة الواسعة التي أراد العمل عليها في الوسط الإسلامي “العالمي” كما كان يحب أن يسميه، منذ أن تدخل بتكليف مباشر من أستاذه مصطفى السباعي، بإقناع علماء دمشق بدستور سوري ديمقراطي لا يفرض على السوريين ثوابت متصلة بشريعة بعينها بصورة قسرية، مع الحفاظ على هوية سوريا وعروبتها، ودون أن يساوم لحظة على الديمقراطية وحرية التعبير والجدل السياسي في دولة مدنية متقدّمة، ودون أن يتخلى عن قناعته بأن “الإسلام أكبر من الحركات والتيارات”، غادر عنيداً رافضاً أن يعبر عبوراً متواضعاً في المشهد السوري العريض الذي عاشه لحظة بلحظة، أو في المجال التربوي الكبير الذي لم يقصّر لحظة في ضخ كل ما كان بوسعه ضخه فيه من قيم ومبادئ صارمة، في الآداب والفنون والإنسانيات، وفي التسامح والتعدد والاختلاف، وفي الصبر الدمشقي الطويل على الدهر مع اليقين بأن التغيير آتٍ بدون شك.
العزاء للسوريين، ولسورية كلها برحيل الأستاذ القدير عصام العطار، الذي سنكتب عنه الكثير كما يليق به، والعزاء لابنته هادية وابنه أيمن. لا شك أنهما يشعران الآن بسعادة شفيفة في الأعماق، رغم حسراتهما بغيابه، لعلمهما أن رحلة والدهما هذه المرة، ستكون رحلته أخيراً إلى حبيبته “بنان” بعد شوق وانتظار طويلين.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
هذا المقال قد لا يتوافق مع رأي الموقع