أكثر من مئتي يوم مرت على بدء العدوان الصهيوني على غزة، وفي كل يوم تتأكد صحة ودقة الحكم على الكيان الإسرائيلي وطبيعته، وعلى الحركة الصهيونية وعلى تبعية النظام العربي وهوانه، ويتأكد في الوقت نفسه عظم الجهاد الفلسطيني، وصدق المبدأ الذي قام عليه، بأن الجهاد هو طريق استخلاص الحق، وطريق مواجهة العدوان، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، وأن هذه المقاومة الفلسطينية وجدت لتبقى حتى تستعيد وطنها كاملا حرا عزيزا.
كل تفاصيل هذا العدوان الذي انطلق عقب عملية طوفان الأقصى موقعا حتى اليوم 24 / 4 / 2024 أكثر من 34260 شهيدا، معظمهم من المدنيين، إضافة إلى أكثر من 77 ألف مصاب، ومن بين هؤلاء الشهداء وفق اليونيسيف 13800 طفلا، وأكثر من 10 آلاف امرأة، وقد ارتكبت قوات العدو في كل يوم من أيام العدوان المستمر مجازر عدة، وعقب انسحابها من المستشفيات ” مستشفى الشفاء، ومجمع ناصر الطبي ” اكتشفت مقابر جماعية ضمت جثامين مئات الشهداء.
وكل مشاهد الدمار الممنهج، والتهجير، والحصار المبرمج على أهالي غزة، وكل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة التي ارتكبتها وما زالت قوات العدو الصهيوني.
وكل التواطؤ والمشاركة للقوى والأنظمة المتماهية مع الصهيونية في العالم الغربي، وفي العالم العربي، وفي المحيط الإسلامي.
كل هذا بات واضحا وضوحا لا يخفى على أحد، وعلى وهج هذا الوضوح سقطت وبشكل مخزِ دعاوى هذه القوى والنظم، بشأن حقوق الانسان، وحقوق الطفل والمرأة، وحقوق المدنيين في وقت الحرب والقتال، وبشأن القيم الإنسانية، وبشأن قوانين الحرب والصراع، وباتت جميع القوى والنظم عارية لا يسترها شيء، ولا يظهر منها إلا بشاعة السلوك وبشاعة القيم التي تتحكم في سلوكها وقراراتها.
ولقد رافق هذا العدوان متعدد الأطراف والألوان والأعلام واللغات دفق إعلامي متصهين كان همه منذ انطلاق عملية “طوفان الأقصى” أن يروي ويبرر ويروج الرواية الصهيونية للأحداث، ثم أن يبث ويشيع كل ما من شأنه أن يفت في عضد المقاومة الباسلة، ويوقع بين المجاهدين، ويحملها مسؤولية ما حدث ويحدث لغزة أرضا وشعبا ووجودا إنسانيا وعمرانيا، وحتى حينما كان ينكشف كذب العدو في ادعاءاته بشأن تجاوزات مزعومة للمقاومة في هذه المعارك، ويضطر للتراجع كليا أو جزئيا عنها، يبقى هذا الإعلام المأجور والمتصهين يكرر الرواية الإسرائيلية الساقطة نفسها، ومن يستمع أو يتابع هذا الإعلام يعتقد أن المقاومة قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة، وأن شمس كل يوم منتظر ستحمل أنباء هزيمتها، واستسلامها، وأن قادتها باتوا مشغولين في بحث الخيارات المطروحة أمامهم: التصفية أو النفي، وأن قيادتها في الخارج باتت منشغلة في البحث عن مأوى جديدا لها بزعم أن “دولة قطر” ما عادت تتحمل عبء وجود قيادة حماس على أرضها، ودائما كانت شمس اليوم التالي تشرق كذلك كل هذه الروايات، وعلى صمود المجاهدين، وعلى تصاعد الخسائر التي يوقعونها بقوات العدو، وعلى فشل المعتدي في تحقيق أي من الأهداف التي وضعها لعدوانه، وعلى اتساع جبهة الرفض الشعبية العالمية لهذا العدوان، ووصل هذا الرفض إلى باحات أعرق الجامعات الامريكية المعروفة بسيطرة اللوبي الصهيوني عليها من خلال برنامج الدعم المادي الذي تقدمه لهذه الجامعات، وحتى داخل الكيان الصهيوني نفسه تصاعد الرفض للعدوان على غزة، بل وازدياد أعداد المهاجرين اليهود من الكيان بحثا عن أمكنة أخرى أكثر أمانا، وكذلك اتساع جبهة الدول التي ترفض العدوان يوما إثر يوم، واستعادة القضية الفلسطينية لألقها ومكانتها في سلم اهتمام العالم وفي الضمير الإنساني، ورفضا للعدوان على غزة، وردا على تعطيل الولايات المتحدة في 18/ 4/ 2024 مشروع القرار المعروض على مجلس الامن بشأن الاعتراف بالعضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة بدأت دول عدة تعبر عن نصرتها للقضية الفلسطينية بإعلان اعترافها ب ” دولة فلسطين”.
كذلك يحمل طلوع شمس كل يوم دلائل إضافية على أن حكومة العدو ماضية في عدوانها، وفي ارتكابها لمزيد من جرائم الحرب، وجرائم الإبادة “الهولوكوست” ضد الفلسطينيين، وهي تتحضر لهجومها الأخير على رفح، حيث يتجمع أكثر من مليون فلسطيني لجأوا لهذه المنطقة الأخيرة من القطاع المتاخمة للحدود المصرية، وتظهر حكومة العدو قناعة بأنه ليس في طاقتها الأخذ بأي طريق آخر، لأن من شأن أي طريق آخر أن يعلن انتصار المقاومة، وانتصار إرادة الشعب الفلسطيني المجاهد…. وليس هذا الموقف الإسرائيلي بطارئ أو غريب، لأنه من طبيعة هذا الكيان، ومن أسس قيامه.
لكن مما يجب التوقف عنده وفهمه جيدا هذا الموقف القوي والحاسم للمقاومة الفلسطينية، لقوى الجهاد، وللقيادة التي توجه هذه المعركة وتقودها ميدانيا وسياسيا، والتي استطاعت بموقفها الثابت والواضح أن تنال ثقة الشارعين العربي والفلسطيني، وتدخل الى عمق العقل والضمير الإنساني، وهي ثقة تجاوزت كثيرا حدود الانتماء الحزبي والسياسي، وحلقت في آفاق الانتماء الوطني والقومي والديني، بل والإنساني، فصار المتابعون للشأن الفلسطيني مطمئنين لمسار القتال والمقاومة، ولمسار التفاوض والحلول السياسية على السواء.
إن رفض المفاوض الفلسطيني لكل عروض وقف إطلاق النار ما دامت لا تحقق مطالب المجاهدين، دليل واضح على أن هذه القيادة لا تزال تملك كل الأوراق التي تحتاجها ميدانيا وعسكريا وسياسيا لفرض رؤيتها على العدو، وقد عزز هذه الحقيقة سقوط الفرية الإعلامية المتصهينة بشأن وجود خلافات بين القيادة الميدانية داخل غزة، والقيادة السياسية التي تقود المفاوضات، وأن هذه القيادة تقوم على “الفساد المالي الأسري”، وأن على الجميع أن ينتظر انقسامات وانشقاقات مرتقبة فيما بين المجاهدين.
وإذا كان استشهاد العديد من أبناء وأحفاد إسماعيل هنية قائد حماس خلال هجوم جوي استهدف سيارة مدنية في مخيم الشاطئ في 10 / 4 / 2024، واستشهاد قادة من حماس وأبناء وأحفاد قادة آخرين في هذا العدوان المستمر قد فضح ذلك الاعلام العربي المتصهين، فإن هذا الرفض الحاسم لمقترحات وقف إطلاق النار “الإسرائيلية والأمريكية” دليل حاسم على أن بنية المجاهدين بقياداتهم السياسية والميدانية في أحسن حال، وأنهم يملكون من الطاقات البشرية والعتاد والخطط والمرونة ما يمكنهم من الاستمرار في هذه المعركة إلى أمد لا يستطيعه العدو، ولا تقدر على تحمله القوى المناصرة لهذا العدو.
هكذا يجب أن نقرأ موقف المجاهدين، ميدانيا، وموقف قيادة المجاهدين تفاوضيا، وأن ما أعلن منذ اليوم الأول لعملية ” طوفان الأقصى” بأن ملف القضية الفلسطينية ما بعد العملية لن يكون كما كان قبلها، هو أمر حقيقي وعلى العالم أن يتقبل هذه الحقيقة، ويضعها في حساباته، وعلى النظام العربي أيضا أن يضع هذه الحقيقة في حساباته.
لقد حققت قوى الجهاد نصرها الذي تطلعت إليه وعملت من أجله، وما سيأتي من تطورات لا يمكن أن تؤثر على هذه الحقيقة، ونحن ننتظر ثمارا إضافية لهذا الموقف القوي والصلب لقوى الجهاد في ميدان القتال، وفي ميادين التفاوض والعمل السياسي.
إن سعي المقاومة الى تحقيق وقف مستدام لإطلاق النار يستند الى حقيقة ان عملية “طوفان الأقصى” قد أعطت ثمارها، وبأن العدو فشل في تحقيق أهدافه عبر أكثر من مئتي يوم من عدوان هجمي لم يتوقف، وارتكب خلاله ما يمكن أن يرتكبه من جرائم، ومثل هذا الفشل سيؤدي حال التوصل الى وقف لإطلاق النار الى زلزال سياسي داخل الكيان الإسرائيلي، وهو ما يحاول “نتنياهو” تحاشيه.
مهم أن ندرك هنا أن جميع تصورات العدو والقوى المناصرة ل “اليوم التالي لوقف القتال” قد خابت، نتيجة استمرارية المقاومة، وصمود الغزيين، وفشل العدو في الوصول إلى أي أسير، فشله في تدمير القوى الميدانية للمجاهدين، وكذلك فشل خططه في تهجير الفلسطينيين خارج غزة، وحينما نتيقن من هذا الفشل لا يبقى مقابله إلا حقيقة انتصار المقاومة، وليس من قبيل الخيال أن نعتقد أن طوفان الأقصى، ومعركة غزة المستمرة باتت عنوانا مهما يحدد مستقبل القضية الفلسطينية ومستقبل المنطقة كلها، نظمها وشعوبها، وهذا هو التغيير الحقيقي.
بمرور الـ 200 يوم من طوفان الأقصى وبدء الحرب المتوحشة القذرة لقوات الإحتلال الصhيوني على شعبنا بفلسطين.غزة، تتأكد صحة ودقة توصيفنا للكيان الصhيوني وطبيعته وعقيدته ودويلته المصطنعة، وحكمنا على الأنظمة العربية وتبعيتها وأهوانها، وكذلك عظمة شعبنا الفلسطيني المقاوم. وأن جميع تصورات العدو والقوى المناصرة لـ “اليوم التالي” قد خابت، نتيجة استمرارية صمود شعبنا المقاوم.