ارتبط اعتقال أبو ماريا في منتصف أغسطس/ أب 2023، برفضه تفرّد الجولاني بالسلّطة، وتغييب الشخصيات القيادية في هيئة تحرير الشام وانزواء آخرين وتمسك بعضهم بالرؤية الجهادية وانشقّ بعضهم عنها، وانتقدوا تحوّلاتها، والجولاني ذاته نحو الانشغال بتأسيس السلطة وليس الاستمرار بالقتال، وحينها اعتُقِل القحطاني بتهمة العمالة للاستخبارات الأميركية، وهرب أبو أحمد زكور؛ الشخصيتان المركزيتان في هيئة تحرير الشام، ويسبقهما الجولاني في قيادتها. وقبل ذلك، بعد فشل القحطاني في تشكيل إمارة في درعا ومغادرتها عبر مناطق النظام إلى إدلب 2018، راح يتحوّل نحو رجل أعمالٍ وطامح للسلطة.
المقصد أن الجهاديّ لا يظلُّ كذلك، وهناك تجربة حركة طالبان أيضاً، وبالتالي حصل ما يشبه التنافس بين الرجلين، اللذين يَعتبران نفسيهما جديرين بقيادة الإمارة الإسلامية، وعدا ذلك، فالقحطاني ينافس الجولاني في البراغماتية وتقريب الشخصيات والمجموعات منه، والإبعاد الدموي عن سلطته، ولديه زعامة حقيقية بين العشائر في سورية والعراق، وحتى في بلداتٍ كثيرة في إدلب، رغم أصوله العراقية.
لحظة إطلاق سراحه مفصليّة في إدلب، فقد اشتدّت المظاهرات، وبدا أن شعبية الجولاني تتهاوى، وأنَّ جناح بنش يكاد يسيطر على الهيئة. في هذه اللحظة، حاول الجولاني إعادة ضبط الخلافات بين أجنحة الهيئة. وهنا جاء الإفراج عنه في هذا الإطار، ولكن القحطاني لم يعد يثق بالجولاني، ويبدو أنّه كان بصدد المشاركة بالتظاهرات، وهذا ربما سببُ كبير لاغتياله، فهو بذلك لم يقبل بصفقةٍ يقف فيها خلف الجولاني وضد التظاهرات، وربما كان يتقرّب من جناح بنّش كذلك، وهذا ضمن براغماتيته، وإن كانت احتمالاته ضعيفة للغاية، رغم أن أبو أحمد حدود، وهو من جناح بنّش وقائد الجهاز الأمني، كان مسؤولاً عن اعتقاله، وبهدلته، وربما هو من سَهّل اغتياله، وبتخطيط من الجولاني، فهو صديق الزكور، ولديه وزن كبير بين الجهاديين. وبغض النظر عن عداواته وقتاله “داعش” و”حراس الدين”، فرع تنظيم القاعدة في سورية.
لا يختلف القحطاني عن الجولاني في أنّهما موضوعان على قوائم الإرهاب الدولية، وأن مصيرهما القتل لا محالة، فهما لم يسيطرا على كل سورية، كتنظيم طالبان في أفغانستان، ولم يحوزا شرعية أعلى من بقية الحركات الجهادية أو الشخصيات الجهادية. وبالتالي، وجود هيئة تحرير الشام مؤقت، وريثما يحصل الاتفاق على تسوية سياسية ما. غياب أيّ مؤشرات لهذه التسوية يعزّز استمرار السلطات خارج سلطة دمشق، وبالتالي، وضمن ذلك يتحرّك الجولاني، محاولاً تدعيم سلطته مجدّداً وإبعاد نفسه عن قوائم الإرهاب. مشكلة الجولاني في الرفض الشعبي الواسع ضدّه، وأجنحة الهيئة تتقاتل على الحصة الأكبر في السلطة والغنائم، وهذا ما لم يستطع ضبطه.
لأطراف كثيرة مصلحة في قتل القحطاني، بدءاً بـ”داعش” و”حرّاس الدين”، وقد أفرج جهاز الأمن في إدلب عن أفراد من “داعش” أخيراً، وتوعّد “حراس الدين” بقتل القحطاني، وهناك عدم توافق بين الجولاني والقحطاني، وهناك تقارب ين الأخير وزكور، وربما لم يتنبه للاحتياطات الأمنية بصورةٍ كافية، فراح يستقبل الوفود، المهنئة، بهدف تأكيد شرعيته من جديد، ونزع الشرعية عن الجولاني أو جناح بنّش ذاته؛ كل هذه الاحتمالات، وبغض النظر عن تحديد إحداها، تؤكّد أن استهدافه كان حتمياً.
ما يجب نفيه أن لا مخطّط جهادياً جديداً لدى القحطاني، فهو لم يعُد جديراً بالثقة لدى “داعش” و”حراس الدين” وشخصيات كثيرة، وقد تَنعَّم بأموال السلطة بشكل كبير، والأدق أنّه ربما كان يحاول أن يكون بديلاً عن الجولاني في إطار صفقاتٍ تتعلق بالخضوع للدول المتدخلة بالشأن السوري، وحيازة السلطة، وهذا سببٌ مباشر لقتله؛ فالجولاني وجناح بنّش هما السلطة، وبيدهما الجهاز الأمني، وبالتالي قتلاه، وهي رسالة دموية إلى كل منتقدي سلطة الجولاني.
جديرٌ بالمتابعة أن أهل بنش لم يتظاهروا في الأسبوع الأخير، وربما تفسير ذلك أن قيادات من هذه البلدة عقدت صفقة مع الجولاني تعيد إليهم الدور الأكبر؛ وعمليّاً، بمقتل القحطاني، ووجود الزكور خارج دويلة الجولاني، يظلُّ جناح بنّش الأقوى، وجناح الجولاني كذلك، فمتى يندلع القتال بين الجناحين؟
باغتيال أبو ماريا، وهدوء بنش، قد تبدأ سلسلة من الاغتيالات، وربما يعتمد الجولاني سياسة التشدّد والخيار الأمني الكامل ضد المتظاهرين، ولا سيما أنّ كل وعوده لم تغيّر من الواقع شيئاً، كتشكيل ديوان للمظالم وإجراء تغييرات كبيرة في جهاز الأمن، وتشكيل مجلس واسع للقيادة بما ينهي التفرّد بالحكم، وأيضاً تشكيل جهاز رقابي وإداري لشؤون الاقتصاد. عدم تنفيذ هذه القضايا سيُضاعف التظاهرات وليس العكس، ولكن اشتداد القمع، واعتماد سياسة الاغتيالات والتفجير قد يخيف الأهالي من جديد ويدفعهم إلى الصمت.
اغتيال القحطاني تأكيدٌ لزعامة الجولاني ولجناح بنّش بصورة أو بأخرى. أقصد أنّ قتله والخشية من الفوضى، وغياب شخصيات قوية، ربما سيعيد توكيل الجولاني للفترة المقبلة، ويُسهِل له قمع التظاهرات، فهل بمقدوره إعادة الزمن، وقد أسرف في معاداة الناس وجهاديين كثيرين وحتى مهاجرين؟
المصدر: العربي الجديد