يشهد الشعب العربي في الخليج بذهول غير مسبوق حرص الأسر الحاكمة ــ في الإمارات والسعودية والبحرين ــ على مناصرة ودعم وتمويل الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين! ما القيمة المضافة النوعية والعالية التي يضيفها الصهاينة على تجارة وصناعة وأموال الخليج المزدهر بفعل النفط والغاز والموقع الاستراتيجي؟
“النفط الذي لم يكن لنا جميعاً، سيكون علينا جميعاً” – قاسم حداد
تواجه بلدان الخليج العربية حالياً انفصامين خطيرين، أحدهما داخلي والآخر خارجي، سيفضيان بها إلى مجاهيل لا تُحمد عواقبها.
تقترب ثلاثة بلدان خليجية (الإمارات، السعودية، والكويت) من تحقيق فائض قياسي في الثروات لم تشهده من ذي قبل، إذ أنها ستغدو المنطقة الوحيدة في العالم، التي تمتلك صناديق ثروة تبلغ قيمتها أكثر من 3 تريليونات دولار . هل هذه بشارة طيبة، وعلى شعوب المنطقة أن تطير فرحاً وتطمئن إلى مستقبل أجيالها القادمة؟ لا أحد يمكنه التنبؤ بجواب قطعي. كل ما يمكننا فعله هو مقارنة الأقوال والأرقام المعلنة بالأفعال والممارسات المعِيْشَة.
الواقع المنظور في بلدان الخليج العربية عموماً يكشف عن أن تلك الثروات “متوهمة”، لا يراها الإنسان في هذه المنطقة إلا في شاشات الهاتف ومنصات إعلانات السلطة. أما الواقع فهو غارق في مفارقات التناقض بين الوفرة في الموارد المالية والندرة في ترشيد إنفاقها. بين “التّبَطُّل” الذي تمارسه الحكومات بإعلاناتها عن المشاريع “التريليونية” القادمة من المضاربات العقارية والمراهنات المالية، وبين “التعطّل” المُرّ والتفاوتات الطبقية الحادة، التي تكوي بنارها شباب وشابات المنطقة. بين تناقص “الممكّنين” في القرار، وبين تزايد “المهمشين” اجتماعياً وسياسياً واقتصاديا وثقافياً. بين فرض ثقافة “الترفيه” وتغييب ثقافة الإنتاج. ومع كل هذه التناقضات وغيرها يبرز المأزق الهيكلي، الذي لا ترغب السلطات الحاكمة في مواجهته ولا حتى الاستماع إلى شعوبها لتحليله، إنه مأزق “الانفصام الداخلي” الذي تتبدى مظاهره في رغبة الأنظمة الحاكمة في التنعّم بسلع وأفكار وتنظيمات الرأسمالية الحديثة والنيوليبرالية المتمددة، وفي المقابل عدم ادخارها لأي جهد في رفض أو تحجيم قيم وممارسات الحرية والعدالة والمساواة أينما استطاعت ومتى ما رغبت أجهزتها في ذلك، بحجج التقاليد تارة، وضرورات الأمن الوطني تارة ثانية، ومبررات الغزو الثقافي الخارجي تارة ثالثة.
كلما تصاعدت الأصوات في المنطقة، مطالبةً بالانتقال من نظام الحكم الشمولي إلى نظام الملكيات الدستورية المُحاسِب والمُراقِب للغلو كان جواب السلطات المزيد من القمع. حتى نشدان صيغة “خليجية” مبسطة ومتدرجة ونابعة من إرادة شعبية تحاول الدفع العلني بضرورة تأسيس عقد اجتماعي جديد بين الحاكم والمحكوم، يتضمن حقوقاً وواجبات متبادَلة على أساس مفهوم المواطنة، وتأكيد سيادة القانون، والتحول من الملكيات المطلقة إلى الملكيات الدستورية، أصبح جُرماً خطيراً تتسابق النصوص القانونية النافذة على التنكيل به وشيطنته، بوصفه شراً محضاً على البلاد والعباد. حتى تلك المطالبات الرامية إلى صيغة معقولة ومقنعة شعبياً لممارسة الديمقراطية ومشاركة حقيقية لا صورية في الشؤون العامة، يكون مصيرها إما التجاهل العلني وإمّا العقاب بالسجن، إذا ما تحول إلى عمل مؤسسي على الأرض. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى.
تناقضات الواقع الخليجي تكشف عن “سلطة أكثر من مطلقة ومجتمع أقل من عاجز” . فالدولة التسلطية التي تمسك بزمام الأمور في بلدان الخليج العربية “ليست نظام حكم فحسب، وإنما التعبير السياسي عن نظام اجتماعي – اقتصادي، أو نمط إنتاج اصطلح على تسميته برأسمالية الدولة التابعة.. تمد الدولة فيه، في الوضع المثالي، أذرع تسلطها إلى النظام الاقتصادي لتحتكر ملكية وسائل الإنتاج، وإلى النظام السياسي لتستفرد بوسائل التنظيم، وإلى النظام الاجتماعي فتقدم نفسها بديلاً لمؤسساته المدنية، وتستبدل الأيديولوجيات المتنافسة بأيديولوجيا التسلط والإرهاب، وتخترق قيم المجتمع الأصيلة بقيم الاستهلاك المُتعي، وحضارته بحضارة الخوف والرعب” . ما يبدو على الدولة في الخليج من حداثة لم يتجاوز الطلاء بعد، فلا الدساتير لها حضور إلا في العقوبات، ولا السلطات منفصلة بالممارسة ولا متصلة بالمحاسبة والرقابة، ولا الشعب هو مصدر السلطة وصاحب شرعية الاختيار والقرار، ولا السلطة في عجلة التداول وفق نظام ديموقراطي سلمي، ولا القضاء مستقل عن ذوي النفوذ ليوجه، عند الاقتضاء، إلى مسطرة المبادىء والحقوق والواجبات والحريات بالدرجة ذاتها والمصداقية ذاتها.
غير أن الوجه الأخطر لهذا الطغيان، الذي تَسوّر بالثروات الهائلة فترة زمنية تقارب خمسين عاماً، هو المأزق الأخلاقي الذي لم تعد تخفيه على أحد، وهو ما يؤكد “الانفصام الخارجي”.
هذا النوع من الانفصام الذي تُصرّ فيه الأنظمة السياسية الشمولية على الذهاب بالمنطقة وأهلها إلى هاوية “التماهي” مع المشروع الإمبريالي الغربي. هذا المشروع الذي لم يكن يوماً ينظر إلى المنطقة أكثر من أنها بئر نفط وبشر غارقون في التخلف والبدائية.
والحق، أن أنظمة الثراء تجاوزت مرحلة “التماهي” مع الإمبريالية العالمية، إلى مراتب “التفاخر” بخدمتها و”التسابق” على تخليص ما عجزت عن فرضه على شعوب المنطقة العربية من مخططاتها الاستعمارية الاستيطانية المرفوضة دولياً والمجرّمة إنسانياً.
الواقع المنظور في بلدان الخليج العربية عموماً يكشف عن أن تلك الثروات “متوهمة”، لا يراها الإنسان في هذه المنطقة إلا في شاشات الهاتف ومنصات إعلانات السلطة. أما الواقع فهو غارق في مفارقات التناقض بين الوفرة في الموارد المالية والندرة في ترشيد إنفاقها. ما يبدو على الدولة في الخليج من حداثة لم يتجاوز الطلاء بعد.
هذا الوجه أماطت اللثام عنه أحداث غزة الأخيرة. فمنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر والشعب العربي في الخليج يشهد بذهول غير مسبوق حرص الأسر الحاكمة في الإمارات والسعودية والبحرين على مناصرة ليس الأشقاء في الدم واللغة والثقافة والعروبة والدين والمصير، أهل فلسطين، بل دعم وتمويل الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين!
النظام في الإمارات يدشن، على جناح السرعة جسراً برياً من موانئ دبي مروراً بالأراضي السعودية والأردنية لنجدة الكيان الصهيوني من عزلته، ومكافأة له على ذبحه الأطفال والنساء وكبار السن في غزة. السعودية، إضافةً إلى هذا الجسر البري المزوِّد للكيان الصهيوني بكافة السلع والبضائع والأدوية والأسلحة، تفتح أجواءها لشركات الطيران الصهيوني، للتحليق ومواصلة الجهد في محو المستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس والملاجئ. أما النظام في البحرين فأبى إلا أن يسهم في العمليات العسكرية المستهدفة لليمنيين بعد مناصرتهم لإخوتهم في فلسطين.
الغريب أن هذه الأنظمة/الأسر تدعم هذا الكيان المجرم، في الوقت الذي بدأت أركانه تهتز بالضغط الشعبي الدولي، المتمثل في المليونيات الغاضبة التي تملأ شوارع وميادين المدن في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا وقارات آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية. ناهيك عن الرفض الشعبي العارم المكتوم في نفوس أهل الإمارات والسعودية، والمظاهرات العلنية المتواصلة والمتنوعة نُصرةً لأهل غزة وعموم فلسطين في البحرين وعُمان والكويت وقطر.
أليس هذا انفصام شامل عن التاريخ والمستقبل، وبشأن المسير والمصير، تكرسه هذه الأنظمة بعيداً عن الثوابت التاريخية وعُرى العروبة والإسلام التي شكّلت المعمار الوجودي للإنسان في منطقة الخليج العربي منذ آلاف السنين؟ ما المشترك بين شعوب المنطقة والصهاينة؟ ما الذي قدمته الصهيونية العالمية من خيرات وإنجازات للخليج وأهله؟ ثم، ما القيمة المضافة النوعية والعالية التي يضيفها الصهاينة على تجارة وصناعة وأموال الخليج المزدهر بفعل النفط والغاز والموقع الاستراتيجي؟ وعن أي مشاركات أو حوارات يجب على أهل الخليج أن يمارسوها مع الإسرائيليين؟ وفي هذا الوقت بالتحديد، زمن الإبادة الجماعية الماحقة لأشقائهم في غزة، ومعركة التطهير العرقي، والتهجير القسري، واقتلاع شعب من جذوره وأرضه.
السؤال الأجدر بالنظر هنا: لماذا تقامر هذه الأنظمة باستقرارها الأمني والشعبي، لأجل بقاء كيان عابر لم يقدم لها أدنى خدمة؟
المصدر: السفير العربي