هدى بركات، كاتبة لبنانية، لها العديد من الروايات، حصلت على جائزة البوكر للعام ٢٠١٩م عن روايتها بريد الليل.
بريد الليل؛ هي الرواية الثانية التي نقرأها للكاتبة هدى بركات، بعد لغة السر، والتي أظهرت موهبة ادبية عالية، وتناولت فيها المعاناة الوجودية لعينات اجتماعية مظلومة، كلها تقريبا من بلادنا العربية، تطل على العوالم الخاصة الذاتية والحميمية لهؤلاء الأشخاص، متابعة -ضمنا- واقع حياتهم التي زجّتهم في مآسيها، بدء من وضعهم العائلي مرورا بواقعهم الاجتماعي، الى ما في بلدانهم من صراعات حروب أهلية وثورات وتشرد وضياع مصير. كل ذلك حاضر عبر تقنية ادبية ناجحة اعتمدتها هدى بركات. الرسائل التي يكتبها أصحابها موجهة لأب او ام او اخ او حبيب، رسائل حميمية تغوص في العمق النفسي والوجودي والوجداني لهؤلاء الناس، معريّتهم من جهة، وكاشفة العار الذي يعشنه وأسبابه الحياتية المختلفة. الرواية تربط خيوط الرسائل التي دونها أبطالها في أقسامها ثلاثة، البدايات ويليها رسائل تحاول ان تكون استمرارا للبدايات، لكن لا لقاء ولاتقاطع، كل يسير بطريق مختلف ولو انه يتحرك لهدف اللقاء مع الآخر المخاطب، اللقاء الذي لن يتحقق. تنتهي الرواية عند قصة ساعي البريد في بلد عربي مدمر يعيش مع الرسائل ينتظر موته بطريقة ما في حرب لم تترك اي فرصة لحياة ممكنة.
تبدأ الرواية بكتابة شاب لأمه رسالة مطولة يتحدث فيها عن نفسه ومعاناته، أمه التي انتزعته من طفولته مبكرا وأرسلته من بلده العربي الفقير (اليمن) الذي دمر سده وغرقت به قريته، بعثته ليبني حياته في بلاد اخرى، الشاب يتذكر معاملة أمه القاسية له، لقد نسي والده، في بلاد الغربة لم يستطع أن يبني المجد الذي حلمت به أمه، في الغربة تعلم وعمل مع جنرال معزول من الحكم في بلاده ينتصر للديمقراطية التي كان يسحقها سابقا، العمل لم يستمر، كان أمامه خيار الالتحاق بالإسلاميين أو يعمل بتجارة المخدرات، اختار الثانية لكنها لم تدم له كعمل، كان له تجارب نسائية كثيرة واهمها تلك الفتاة التي احبته ورضيت بكل عقده، كان يعاملها بقسوة ويعذبها، وهي تصبر عليه وتستمر بمعاشرته وتتحمّله. يعيش هاجس الملاحقة، هناك شخص يتبعه هل هو لوطي (مثلي) أم هو رجل امن يترصده لكونه كتب عن البلد والسلطة، يعتبر معارضا، لم يجدد جواز سفره. لكن الثورة حصلت في بلاده وحصل على جواز سفر، أمامه فرصة أن يعود للبلد هو امام مفترق طرق. في النهاية تعلم الفتاة التي أحبته انه موجود في المطار جاءت لعلها تلتقي به، وتحبه مجددا لقد عذبها وذلها كثيرا لكنها تغفر له، تبحث عن جواب سؤالها لماذا عاملها بهذه الطريقة ؟، ولا جواب، الاهم ان تلتقي به وتستمر بالعيش معه، لكنها لن تلتقي به، وتبقى النهاية معلقة.
تنتقل الرسالة هذه في الفندق الى يد تلك الفتاة التي كانت قد اتت قبل عشرات السنين الى بلد عربي (لبنان)، سائحة من كندا والتقت بشاب سيصبح حبيبها وتتكون بينهم علاقة وتعيش فترة سياحية جميلة بينهم، في نفسها تتحرك الذكريات الجميلة، هي تعد نفسها للسفر الى هناك لعلها تلتقي بحبها الاول، ترسل له رسالة لتلتقي به مجددا بعد عشرات السنين، ترصد نفسها وعمرها وترهل جسدها، انها تلحق حلما عاشته في الماضي لعلها تعيد إحياء جذوته الآن. أما الشاب الذي وصله منها خبر حضورها يسعى للقائها محملا بذاكرة مراهقة جميلة، ترك زوجته وابنته لعله يعيش سياحة حب مؤقت ويعود، يذهب للقائها لكنه لن يجدها، الاقدار لن تتقاطع مجددا، يعود الى بلده وابنته وزوجته. انه يحنّ لهنّ.
سننتقل في بلد أوروبي آخر الى قصة شاب يكتب رسالة الى أمه يحكي فيها قصته. انه من بلد عربي (سورية)، يتذكر طفولته، المعاملة القاسية والظالمة من أمه وأبيه، وكيف زرعوا في داخله الذل وقبول الظلم وتحمله. عندما بدأت الثورة في بلده اعتقله الأمن وعذبه كثيرا، طالبوه بالاعتراف وان يدين نفسه بما لم يعمل، انهار وسلّم لهم زمام نفسه. أعادوا توظيفه ليكون من شبيحتهم وقتلتهم، تحول من ضحية الى جلاد، كان يتألم في البداية من تعذيب السجناء والموقوفين، لكنه تعود بعد ذلك وصار يلتذ من جبروته وطغيانه، تضخمت نرجسيته وتحول لقاتل محترف. لكن الحال تتغير وتنتصر جموع الثوار في اغلب البلاد ويتحول الى مطارد ومطلوب من الثوار، يركب البحر هاربا إلى أوروبا، هناك يندس بين اللاجئين القادمين من سورية وغيرها، يبدأ في معاملة اللجوء، لكن بعض من تعرض للتعذيب على يديه يتعرف عليه ويخبر إدارة مخيم اللجوء، يهرب خوفا من القبض عليه ومحاسبته وسجنه، يتحول الى حياة التسول والتشرد، يقتات على البقايا يصاحب المشردين يتعاطى معهم المخدرات والمسكرات، ويعيش حياة عدمية. الى ان تتعرف عليه فتاة من اهل البلاد وتقرر أن ترعاه وتهتم به وهو يتلقف الفرصة، ينتقل الى بيتها ويعاشرها ويستفيد من امكانياتها، كان يتهرب من اخبارها عن وضعه الحقيقي وانه لا يستطيع ان يكمل اوراقه الثبوتية، يستغل طيبتها وحبها له، يخطط مع صديقه الالباني ان يقتل حبيبته ويسرق مالها، الألباني يرفض، هو يقتل الفتاة ويسرق مالها ويهرب، يكتب رسالته هذه لأمه ويتمنى لو يعود الى سورية، لكنه قاتل ومطلوب للعدالة. من الممكن أن يكون قد قبض عليه. قبض على صديقه الألباني اعترف على ما نسب لصديقه، أنكر أن يكون شريكا بالجريمة، قبض عليه وارسل الى البانيا ليحاسب عن جرمه، فأما القتل او السجن.
ننتقل بعد ذلك الى فتاة من بلد عربي آخر (مصر)، التي تكتب رسالة لاخوها السجين، الذي سجن لكونه كان يعمل بتجارة المخدرات، معترفة له بكل ما حصل معها. تتحدث عن أمها ومعاملتها القاسية لها، تزويجها لها وهي صغيرة، ظلم زوجها لها ومن ثم طلاقها وعودتها الى بيت امها مع طفلتها الصغيرة، الام تعاملها بقسوة تدفعها للذهاب والعمل في الخدمة في بلد عربي آخر (الخليج العربي)، تذهب إلى هناك تعمل مستخدمة في البيوت والفنادق تنظف المراحيض والبيوت، حياة ممتهنة، ترسل المال القليل الى امها، الام تشتكي من قلة المال دوما، وان ابنتها تحتاج لمال أكثر. تقرر أن تعمل مومسة تبيع جسدها، تتصيد زبائنها من الملاهي أو البيوتات التي تخدمها، صارت حياتها اريح لكنها امتهنت نفسها اكثر، تحوّل المال لوالدتها ولابنتها. صارت نفسيتها تستهون اي شر تفعله لقد امتلأت بإحساس الظلم، تترك المرأة التي تخدمها تموت بعد سقوط في الحمام دون إسعافها. تسرق مصاغها وتخبر عن وفاتها، تعود الى بلدها لتجد ان امها قد زوجت ابنتها، وان امها كانت تستغلها، ذهبت لابنتها، وجدتها متزوجة من خنثى ويستخدمها مومسا في بيت دعارة، الابنة لا تتكلم، قد تكون بكماء، تحضر ابنتها ، تعود لامها التي تمرض، تتركها لتموت ايضا انتقاما لما فعلته بها وبابنتها. تزّور عقد بيع البيت لها وتستحوذ على كل شيء تنتظر اخاها ليخرج من السجن وهذه الرسالة تكتبها له لتتقاسم معه ما معها وتعالج ابنتها من امراضها… تنتهي حكاية الفتاة بخروج الاخ من السجن وبحثه عن أخته وابنتها، يريد قتل الاخت العاهرة القاتلة ويغسل عاره ويريح ضميره، لكنه لم يصل لاخته للآن.
ننتقل الى رسالة شاب من بلد عربي (العراق)، يكتبها لوالده معترفا بها بما عاش. والده الذي كان مقاتلا على الجبهات (عسكريا) يحمي الوطن ويذود عنه، هو الشاب الذي اكتشف انه مخنث وهذا ما لم يرضاه والده عنه، هرب للعيش مع حبيبه الذي يعيش معه حياتا جنسية مثلية، يهرب معه إلى خارج البلاد، في أوروبا يعيشان، الحبيب يمرض ويذوي، هو يعتني به حتى يموت. ينتقل الشاب للعيش بين أمثاله من المشردين والمخنثين والمتسولين والمرضى والمجذومين، لهم تجمعاتهم الخاصة في أوروبا. يعيش حياته بينهم ينتقل من حبيب لحبيب يعيش أيامه، يحن الى بلده ووالده يكتب الرسالة لوالده يرجوه أن يغفر له ما عاشه وان يسمح له بالعودة والعيش معه… لكن لاجواب للرسالة وحياة الشاب ماتزال معلقة بما هي عليه الآن.
تنتهي الرواية عند البوسطجي (ساعي البريد) كاتبا رسالته الاخيرة لعلها تصل لطرف ما. انه من بلد عربي (سورية) يتذكر مهنته منذ عقود حيث كان يتجول بين البلدات ماشيا او على دراجته، حاملا المكاتيب من المغتربين الى اهاليهم، تحول لمرسال محبوب ومرغوب وجزء من كل العوائل التي يوصل لها الرسائل، يشاركهم القهوة و الطعام، قد يبيت عندهم ، صحيح أن مهنته اصبحت قديمة، قليل من يرسل رسالة بالبريد، وسائل التواصل الاجتماعي أخذت دوره. زادت مشكلته حدة ان البلاد اصبحت ضحية حرب اهلية ونظام يقتل شعبه، البلاد تدمر والبشر يهربون بأرواحهم. لم يتزوج تدمر بيته، سكن في مركز البريد يتدبر لقمة عيشه بصعوبة، يقضي وقته بقراءة الرسائل المتراكمة في المركز ويعيش وقائعها، يفرزها، يصنفها، يكتب رسالته الاخيرة مودعا بها حياته لعله يموت جراء قصف عشوائي ما. ترك حكايته برسالته.
هنا تنتهي الرواية، وفي تحليلها نقول:
الرواية متميزة جدا على كل الصعد، الرواية صغيرة ١٢٦ ص من الحجم المتوسط، كثيفة، اشخاصها يتحدثون بحميمية، تنبش ذواتهم، ترينا الفرادة الذاتية الشخصية لكل واحد منهم، كما ترينا واقعهم العائلي والمجتمعي وحتى واقع دولهم، تربط بين واقعهم العام ومآل حياتهم الخاصة، المظلومية والهم الذاتي واستباحة انسانية هؤلاء الناس تهيمن على فضاء الرواية. مصائر اشخاصها تبقى معلقة لا تقاطع بينهما مجددا، متروكين لمصائر من البؤس والفشل والضياع المستمر، أنهم ضحايا حياة فوق طاقتهم مواجهتها، لقد عجنوا وخبزوا فيها، أنها حياتها المأساوية بكل تجلياتها. بلاد مسكونة بالفقر والتخلف والحكام المستبدين الظلمة، ثورات اجهضت، بلاد خربت ودمرت وشعوب شردت وقتلت، كل ذلك حاضر ضمنا، للبعض أزمته الشخصية بجسده انه مخنث، المحارب من الأهل والمجتمع رغم عدم مسؤوليته عن ذلك.
رواية تدق ناقوس الخطر. وتقول ها هي حياتكم التي تعيشونها، لا تتعاموا عنها، لعلكم تواجهونها وتصنعون حياة اخرى افضل.
هذه رسالة الرواية وهي تستحق أن تكون الرواية الفائزة في البوكر العربية لهذا العام. ٢٠١٩م.
رواية “بريد الليل” للكاتبة اللبنانية “هدى بركات” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الروايةذات بعد نفسي وإجتماعي لعينات من مجتمعنا، رواية تدق ناقوس الخطر. وتقول ها هي حياتكم التي تعيشونها، لا تتعاموا عنها، لعلكم تواجهونها وتصنعون حياة اخرى افضل.