منذ أكثر من سبعة شهور وحتى اليوم، لم ينقطع التجمع المناهض لنظام الأسد في مدينة السويداء، ولا ليوم واحد. منذ منتصف آب/ أغسطس 2023 دأب المواطنون على التجمع في الساحة التي اصطلحوا على تسميتها “ساحة الكرامة”. تراجعت الأعداد في بعض الفترات، بسبب الطقس أحياناً، ولكنها ما لبثت أن عادت للحضور بقوة وخصوصاً في أيام العطلات. من جهتنا نحن المتابعين عن بعد، فقد حفظنا أسماء معظم المحال المطلّة على الساحة، لكثرة ما ظهرت في الصور اليومية. بتنا نعرف اللوحات التي تحمل الشعارات ونميّز الرسومات، وأحياناً نستطيع تسمية أصحابها. وأكثر من ذلك بتنا نعرف أصحاب وصاحبات الوجوه ونعرف بعض أسمائهم.
لشدّة حضور الساحة في وجدان الأهالي خلال الفترة الماضية، حدث أن شاهدنا أباً يحضر طفله وهو بعمر ساعات قليلة كي يلتقط معه صورة للذكرى في الساحة، وكذا شاهدنا عروسين يترجلان هناك ليخلدا يومهما الأجمل في صورة بين جموع المحتجين. حفظنا الكثير من الشعارات، وأهازيج الجبل التي تتردد كل يوم، في مدينة تبدو علامة فارقة في المشهد السوري الحالي.
اليوم وأنا أكتب هذه المادة، فإن وفوداً من الفعاليات المدنية والاجتماعية والدينية من كل أرجاء المحافظة تتوجه إلى “القريّا” بلدة القائد العام للثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش لإحياء ذكرى وفاته الثانية والأربعين، في السادس والعشرين من آذار 1982. سيحيون الذكرى دون التضييق الذي كان يمارس عليهم في مثل هذا اليوم قبل عام 2011. سيطلقون شعاراتهم من أمام نصب الزعيم الوطني مطالبين بالخلاص من نظام الأسد والانتقال الديمقراطي لبلدٍ نادى به السوريون في أوائل ثورتهم قبل ثلاثة عشر عاماً.
مدينة تقول للعالم إن واحدةً من الأقليات، التي طالما ادّعى نظام الأسد حمايتها، هي مثل أكثرية السوريين تطالب بسقوط النظام. وهنا لا أستطيع القول إن هذه الرسالة لم تصل حتى الآن. هي وصلت، ولكنها للأسف جاءت متأخرة بعد أن قرر الفاعلون الدوليون أن بقاء الأسد هو الأسلم بالنسبة لمصالحهم، وأنهم لم يعودوا مهتمين لتلقي مثل تلك الرسائل، راهناً على الأقل.
تحمل مظاهر الاحتجاج في السويداء شكلاً ومضموناً أرقى حالات الانتفاض السلمي بوجه ديكتاتورية كالتي تحكم سوريا. الشعارات المدنية والمشاركة النسائية الفاعلة كانت رسائل ذات وجهين بالنسبة للغرب، وهذا ما أشار إليه البعض هناك. الوجه الأول هو وجهها الحقيقي الذي نراه كصورة مشرقة عن الحلم السوري بالانتقال إلى دولة طبيعية.
لكن هناك قراءة أخرى ترى أن مجتمع الأقلية هذا يعبّر عن نفسه فقط، ويقتصر على نفسه فقط، ولا يمثّل المجتمع السوري بأكثريته وباقي أقلّياته، فباستثناء بعض المشاركات في الشمال السوري التي خرجت في البدايات تضامناً مع السويداء، فإننا لا نلحظ اليوم أية مشاركة خارج المحافظة. فالصورة القاسية والأكثر تداولاً في الغرب هي لمجتمع الأكثرية الذي يرزح تحت عسف قوى تحكمّت بمصيره بعد إفلاته من وطأة نظام الأسد. أما الساحل الذي تم التعويل عليه قبل شهور، فقد نجح نظام الأسد في لجم تحركه، خصوصاً مع تفجيرات الكلية الحربية في حمص، وملاحقة ناشطين كان يمكن أن يكون لهم دور ريادي.
يلوم كثيرون السويداء على تأخرها (وهذا ليس صحيحاً تماماً)، دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصية المدينة. فهذا المجتمع (الدرزي) الذي تمكّن تاريخياً من التطور من خلال التكيّف بنجاح مع محيط مختلف دينياً، ومعادٍ في بعض مراحل التاريخ، متعرضاً للضغوط ممن يعتبرونه طائفة منشقة، استطاع الاندماج مع المحيط عبر ما يمكن وصفه بالانسحاب إلى الداخل. مما يجعل الحسابات صعبة قبل أية خطوة قد تودي إلى انهياره، خلال أية زلّة قدم.
يعتبر آخرون أن ما تقدمه السويداء بأشكال احتجاجها مدرسة يجب أن تلهم السوريين في مختلف المناطق، وهذا للأسف لم يحدث ولا أعتقد أنه سيحدث. فلن يكون لهذه المدرسة أي تلاميذ أو طلاب يستفيدون من دروسها. بعد معركة الكفر والمزرعة صيف عام 1925 التي خاضتها المدينة ببسالة وانتصرت فيها على القوات الفرنسية وحاصرت القلعة التي يتحصن داخلها الجنود في المدينة. قدِم إلى السويداء زعماء وطنيون من دمشق، واتفقوا على التحالف فبدأت الثورة السورية الكبرى.
اليوم المدينة وحيدة، ولن تجدَ من يشبه زعماء تلك المرحلة. فلا الباشا هناك ولا الشهبندر في دمشق ولا هنانو في الشمال، ولا العلي في جبال الساحل، ومن الأنسب، وكي لا أخدش آذانكم، ألّا أعدد على مسامعكم أسماء من لدينا اليوم من (زعماء). لعب الدروز تاريخياً دوراً محورياً، وأكثر أهمية في السياسة السورية مما يتيحه عددهم القليل نسبياً. عام 1945 قادوا انتفاضة نجحت في جعل جبل العرب المنطقة الأولى التي تحرر نفسها من سيطرة الفرنسيين دون مساعدة بريطانية.
اليوم يعوّل البعض على هذا التاريخ من التماسك المجتمعي وروح الاستقلال والشجاعة الشخصية النادرة، لاجتراح معجزة سوريةٍ تنطلق من المدينة. شخصياً لا أعتقد أن معطيات التاريخ تنطبق على الحال في أيامنا هذه، وأرجو أن أكون مخطئاً. فنظام الأسد المسكوت عنه دولياً، يلاعب المدينة بنفس طويل، لمعرفته الجيدة بخصوصيتها، ورهانه، كما دأبه دائماً على الزمن، وعلى تعب الناس وقتل الأمل في نفوسهم. وما لم تتغير المعطيات الدولية فإن الوضع السوري عموماً، الممسوك جيداً من الأطراف الفاعلة عسكرياً فيه، سيبقى يراوح في متاهته. أعلم أن الكثيرين لن يعجبهم ما كتبته هنا. حسناً، لهم أن يكونوا أكثر تفاؤلاً مني.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا