ما بين حرب حزيران/يونيو 1967، ومعاهدة كامب ديفيد 1978، كانت إذاعة صوت العرب بالتزامن مع إذاعة فلسطين من القاهرة، تبثان برنامجا يتم تسجيله مع الطلاب الفلسطينيين الغزاويين الذين يتابعون دراستهم في الجامعات المصرية.
وكانت عبارة « نحن بخير، طمنونا عنكم، والله يرعاكم »، يختتم بها الطلاب الثواني المعطاة لهم، لتطمين أهاليهم على أوضاعهم… واليوم هم الطلاب نفسهم، ولكنهم من داخل غزة العزة يرسلون بالعبارة نفسها، إلى العرب المحاصرين من أنظمتهم وإعلامهم، وأيضا إلى أولئك المثقفين العقلانيين، الذين يحاصرون أنفسهم بالأفكار نفسها ، والنظريات، واللغة الخشبية، والباحثين في قمامة الكلمات عن الحجج التي تعفيهم من تأييد المقاومة في غزة، وتريح ضمائرهم المتعبة حقا من حمل هموم البؤساء في أرجاء العالم ما عدا فلسطين.. ومن دون أن يشعروا أن الزمن قد تخطاهم، وأنهم فقدوا القدرة على تقييم ما يحدث على أرض الواقع، ورؤية إيجابيات تتحقق على أرض غزة العزة، هي أشبه بالمعجزات…
باب المندب
نحن بخير، طمنونا عنكم.. لقد سررنا حقا لوصول آلاف الشاحنات المحملة بالبضائع إلى الكيان الصهيوني يوميا، والعابرة لأراضي عدة دول عربية، ملتفة على إغلاق باب المندب في وجهها… ومعاذ الله، أن نصف ذلك بالمعيب والمشين، وبما لا يمكن تبريره… ولكن كنا ننتظر صرخة تحمل شهامة ونخوة عروبية، تشبه تلك الصرخة التي أطلقها هشام بن عمرو في الجاهلية، مناديا قريش: «يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هَلكى، لا يُباع ولا يُشترى منهم؟ ».. ولكننا تذكرنا أن حصار المشركين لبني هاشم دام ثلاث سنين، وعلى ما يبدو، علينا انتظار انتهاء السنوات الثلاث العجاف.. لكي يستيقظ الرهط، ونسمع تلك الصرخة… وإلى أن.. سوف نبقى نمني أنفسنا بتذوق الخضروات والفواكه الأردنية والتركية الطازجة، المرسلة إلى الكيان الغاصب، وبقليل من مشتقات الطاقة العروبية والتركية، لتشغيل مولدات المستشفيات، وتكرير المياه…
طمنونا عنكم، والله يرعاكم.. فقد كنا منذ مدة، نريد أن ينكسر الحصار، ونخرج من قطاع غزة، لكي نرى العالم الذي يسمونه حرا ومتمدنا… ولكن، والحمد لله، فبعد « طوفان الأقصى »، العالم الغربي الاستعماري المتحضر، أتى إلينا بأمه وأبيه، وجواسيسه، وبوارجه الحربية، وطائراته القاذفة والتجسسية، وصواريخه الذكية ذات الإيقاع الجميل على أجسام الأطفال والأبرياء… ولكن ما زلنا ننتظر على أحر من الجمر، نتائج جولة وزراء الخارجية العرب والمسلمين التي بدأت في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، والمكلفين من مؤتمر القمة العربي الإسلامي، وننتظر أيضا تحقق وعود وقرارات ذلك المؤتمر، القاضية بوقف الحرب الظالمة فورا.. وبإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع دون قيود… طمنونا عنكم، أين أصبحتم؟ فلقد تأخرتم، والشهر السادس يدق الأبواب.. وكل الأمل أن لا تكونوا قد دخلتم سنوات التيه كبني إسرائيل…!
دماء الأبرياء
نحن بخير، والحمد لله.. وفي الواقع، كان خوف شباب غزة، في أن يكون للطحين الأمريكي الذي وزعوه منذ أيام تأثير مباشر على طبائع السكان وصمودهم، وعلى الرجولة في القطاع، فنصبح في يوم من الأيام مثل بعض العرب.. لا تهزنا دماء الأبرياء.. ولا نغضب لاحتلال أرضنا، ولاستباحة مقدساتنا.. ونفقد نخوتنا وعزتنا.. ونتعصب لرونالدو وميسي.. ولكن، سترها الستار… وعلى كل حال، شكرا لعمكم بايدن، ولمنصته العائمة التي أضافت موضوعا جديدا يتلهى به المحللون العرب على الفضائيات، وتتفتق أذهانهم عما تخفي وراءها هذه المنصة من أسرار، ويتحدثون عن هول المؤامرة، وكأننا في واردها …ألا.. لعنات على هذه المنصة، وكل من خطط وشارك فيها.. واحتفظوا بتحليلاتكم لأنفسكم، فنحن نُقْتل، ونُذْبح، ونَموت، يا سادة قحطان وعدنان.. ولكن ليس كما أرادوا لنا، بل وقوفا شامخين كالنخل، ولا، ولن، ننبطح، ولو بنوا ألف منصة عائمة…
اطمئنوا، فنحن بخير.. ولا تتصوروا مدى سرورنا وسعادتنا ونحن نشاهد على شاشات هواتفنا موائدكم الرمضانية السخية والعامرة، خصوصا تلك التي دعوتم إليها باسم السلام والمحبة أولاد عمومتكم الصهاينة القتلة… وإياكم، لا سمح الله، أن تظنوا أننا لم نفهم قصدكم الشريف من كل ذلك.. فإنما أردتم أن يسجل التاريخ، ويكتب صفحات ناصعة عن حضارة العرب وتسامحهم في القرن الواحد والعشرين… والذين يدعون إلى موائد إفطارهم الرمضانية وعلى رؤوس الأشهاد من يقتلون إخوانهم، ويدمرون بيوتهم، ومستشفياتهم، ومدارسهم، وجامعاتهم.. ويحاصرونهم ويجوعونهم.. ولكن ما غاب عنكم يا سادة، هو أن المؤرخين لن يخونوا ضمائرهم، وسوف يكتبون عن ذلك أنه « تسامح مصبوغ بالدماء البريئة.. وبطعم الغدر والخيانة »…
المسلسلات الرمضانية
نحن، والحمد لله بخير.. ولكن في نفوسنا غُصَّة، لأن هذه الحرب اللعينة قد حرمتنا من متابعة مسلسلاتكم الرمضانية.. وكل الأمل أن تكون المسلسلات هذا العام، غير مملة بالنسبة لكم، وتعرض لكم الممثلين بأبهى الثياب، والحلل، والماكياج، مع مآدب عامرة طبعا… وعلى إيقاع صراخ نسائنا الثكالى، وبكاء أطفالنا الذين يتضورون جوعا… صحيح أنه لم يعد عندنا طعام يكفينا، ولا دواء يداوينا، ولا سقف يظلنا، ولا دار يؤوينا.. ولكن عندنا من الكرامة، وعزة النفس، والإباء، والبطولات، والشجاعة، ما يكفي ويزيد… ولو أحببتم أن نرسل لكم من هذه البضاعة بعض الشحنات، فتوزعونها على بعضكم لفعلنا… ولكن يا سادة، قد لا ترضى آلهة الاستعمار الحديث «أمريكا»، عن وصول هذه الشحنات إليكم، لأنها تحب أن تراكم كما أنتم، وكما فبركتكم أنظمتكم… فطوبى لكم أيها المعمدون ببركة الآلهة أمريكا ورضاها…
نحن بخير، على الرغم من كل شيء.. وسررنا جدا لحسن تنظيمكم حفلات الترفيه والطرب الأصيل في طول بلادكم وعرضها، بمناسبة رمضان المبارك، شهر العبادة، وتطهير النفوس، والتوسل إلى الله… والتي فتحت للحاقدين الباب، لكي يدلوا بدلوهم حول البذخ المفرط، والملايين التي صرفت عليها.. وما شغلنا في الواقع عنها، إلا تضميد جراح أولادنا ونسائنا… ولكن، بالله عليكم، أما كان من الواجب أن يتوقف صديقكم الكيان الصهيوني عن القصف لعدة ساعات يوميا فقط، فنتفرغ فيها لمشاهدة حفلاتكم هذه…؟
بكل تأكيد أن جيوش الكيان الغاصب، والمستعجلة لإحراز نصر تبحث عنه كمن يبحث عن إبرة في صحراء، سوف تتركنا نتفرغ للفرجة عليها قريبا…
نحن بخير، طمنونا عنكم… ولكن الإشاعات المغرضة كثيرة.. وإحداها تؤكد أن الدول العربية التي تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع الكيان الصهيوني، قررت استدعاء سفراءها الذين لدى الكيان الغاصب لأرض فلسطين العربية ومسجدها الأقصى، والذي يرتكب جرائم حرب، وأخرى ضد الإنسانية، وغيرها ضد البشرية… وكل أنواع الجرائم الأخرى، وبمختلف المقاييس والأحجام.. ويقوم بقتل ممنهج لشعب عربي أعزل، إلا من إيمانه العميق بربه وبقضيته… وهناك إشاعات حاقدة أخرى، تؤكد صدور قرارات بقطع العلاقات مع هذا العدو الغاشم، لكي تلقنه درسا لن ينساه.. وهذا أمر قد أزعجنا، لأنه مجرد إشاعات مغرضة…
الصمود الأسطوري
نحن بخير، والحمد لله.. واطمأنوا لحالنا، فصمودنا الأسطوري قد أبهر العالم الحر، وكل الشعوب التي عندها كرامة، ومشاعر إنسانية… ولكن، وللأسف لم يأت المسحراتي إلى ديارنا هذا العام.. وبكل تأكيد ما زال عندكم، فأنتم حقا بحاجة له أكثر منا، لأنه بالنسبة لنا، فقد استيقظنا، ومنذ سنوات، ونأمل لكم ذلك أيضا، وأن نراكم على شاشات الرادار قريبا، ومن قبل نهاية هذا المسلسل العبثي الصهيو استعماري المدمر.. ولكن يبدو أنكم في اجتماع طارئ مع غودو، ولهذا لن نراكم… ولا تحزنوا يا سادة، فهذا دَيْدَن كل من يُطِع أمريكا، وربيبتها الصهيونية، ويغرق في بحار عشقهما… وكل الرجاء أن توقفوا الضغط علينا، وأن تكتفوا بدور المتفرج، كما كنتم منذ أن حوصرنا في عام 2006.. مع العلم أن بعضكم ساهم في حصارنا، وساعد الصهاينة، وقدم لهم كل ما في حوزته من معلومات حولنا شكلا ومضمونا.. ونريد أن نقول لكم كلمة أخيرة، قالها لكم في سبعينيات القرن الماضي الفلسطيني الأصيل ناجي العلي أبو حنظلة، رحمه الله: « كفوا شركم عنا، واحسبونا إسرائيل…»، وطمنونا عنكم، والله يرعاكم…
كاتب لبناني يقيم في باريس
المصدر: القدس العربي